أحمد صالح قنديل (1329 - 1399 هـ- 1912 - 1979 م)
شاعر، صحفي، إداري.
ولد في مدينة جدة، وتلقى علومه في مدرسة الفلاح، وبعد تخرجه عمل مدرسا بها، ثم رئس تحرير جريدة «صوت الحجاز».
تنقّل في عدة وظائف حكومية، كان آخرها مدير الحج العام، تفرغ بعدها للأعمال الحرة، والكتابة في الصحافة شعرا ونثرا.
وقد عرف بكتاباته الشعرية باللهجة العامية، وله زاوية يومية بالشعر الشعبي في جريدة «عكاظ»، يعالج من خلالها مشكلات اجتماعية.
ومما كتب فيه: الشعراء الثلاثة في الحجاز: محمد حسن عواد، حمزة شحاتة، أحمد قنديل.- القاهرة: دار الكتاب العربي، 1368 هـ.
من دواوينه المطبوعة بالشعر الشعبي «في المركاز»، «أبو عرام والبشكة»، ومن دواوينه بالشعر الفصيح «أوراقي الصفراء»، «عروس البحر» الجزء الأول وهو خليط بين الفصيح والعامي، «شمعتي تكفي»، «نار»، «الراعي والمطر»، «قاطع الطريق»، «شعر .. ومشاعر»، «أغاريد»، «أصداء»، «أبراج»، ومن آثاره أيضا: «عروس البحر» الجزء الثاني، «مكتي قبلتي» ملحمة شعرية، «الرمال الذهبية»، «الدمعات الخمس»، «الأصداف»، «الجبل الذي صار سهلا».
تتمة الأعلام للزركلي [وفيات (1396 - 1415 هـ) -يليه المستدرك الأول والثاني-محمد خير رمضان يوسف.
أحمد صالح قندیل
أحمد صالح قنديل
معتدل القامة أقرب إلى القصر، أسمر اللون شديد السمرة، ممتلئ الجسم واسع العينين، ذكي لماح، خفيف الظل، مرسل الشعر في غير اسراف، كان في مطلع شبابه يرتدى الكوفية الحجازية والشال وهو ما يستعمل للاعتمام وكان من انواع كثيرة ترد من الشام وبعد أن التحق بوظائف الدولة اصبح يرتدي العباءة والعقال، ولد بمدينة جدة فيما أقدر في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات من القرن الهجري وتلقى تعليمه في مدرسة الفلاح وبعد تخرجه منها عمل بها استاذا وقد ادركته وهو أستاذ بالمدرسة التحضيرية في الفلاح، والتي كانت تسمى المجتمع وهو البيت الذي أنشأه المرحوم الحاج محمد علي زينل مؤسس الفلاح ليكون مقرا للاجتماعات الخاصة بالمدرسة ثم تحول إلى مدرسة تحضيرية تابعة لمدرسة الفلاح، وهو منفصل عن مباني الفلاح الحالية وقد تخرب فلم تمتد اليه يد الإصلاح وأخشى أن يكون قد اندثر أو هو في طريقه إلى الاندثار، ثم عمل أستاذا بمدرسة الفلاح الكبرى واستمر يعمل فيها لسنوات طوال إلى أن انتقل إلى مكة رئيسا لتحرير جريدة صوت الحجاز عام 1355هـ بترشيح من صديقه المرحوم الاستاذ حمزة شحاتة لدى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان رئيس الشركة العربية للطبع والنشر.
قنديل وَحَمْزه شحاته
وكان الاستاذ أحمد قنديل ينشر شعره في صوت الحجاز بتوقيع الصموت الحساس وقد استرعى هذا التوقيع انتباه الأستاذ حمزة شحاتة فسألني ان كنت اعرف هذا الشاعر الذى بدأت بواكيره الطيبة منذ القصائد الأولى التي نشرتها له صوت الحجاز فقلت أنه الأستاذ أحمد قنديل وهو مدرس بمدرسة الفلاح وأعرفه منذ أن كنت تلميذا بها وكان هو في الفصول الأخيرة ثم أستاذا بالمدرسة المذكورة، وطلب مني الاستاذ حمزة أن اجمعه بالقنديل بل وأعرفه عليه وكان شحاتة يومها أديبا جهيرا وشخصية مرموقه فاتصلت بالقنديل رحمه الله وأعربت له عن إعجاب الأستاذ حمزة بما ينشره من شعر وضربت له موعدا للاجتماع بالأستاذ حمزة في - مربعة الجمجوم - وهو مبنى كان يومها خارج مدينة جدة بالعمارية قريبا من مقبرة حواء، كان قد بناه المرحوم الشيخ محمد أنيس جمجوم وكان هذا المبنى الخلوي الذى يسمى مربعة أشبه ما يكون بنادٍ يجتمع فيه آل جمجوم وأصدقاؤهم عصر كل يوم وصدرا من الليل، وكنت والاستاذ حمزة شحاتة من رواد هذا المجتمع الجمجومى كل أصيل ونحن جميعا في مطلع الشباب في أوائل الخمسينات من هذا القرن وقد استمرت صلة القنديل بالأستاذ شحاته منذ ذلك الوقت وإلى أن توفي الأستاذ حمزة شحاتة باستثناء فترة ليست بالطويلة حدث بينهما من الجفوة ما أوقف هذه الصلة ولكن هذا التوقف لم يستمر فعادت صلتهما إلى ما كانت عليه من قبل يرحمهما الله.
البواكير الأولى
لقد ذكرت أن بواكير شعر القنديل الأولى في الخمسينات كانت تبشر بميلاد شاعر كبير وأود أن أذكر أن أغلب من عرفت من الشعراء والكتاب الموهوبين كانت بواكيرهم الأولى تنبئ عن نهاياتهم العظيمة، ولعل الشاعر أو الكاتب الاصيل تولد معه الموهبة فإذا استطاع التعبير ظهرت بذور هذه الموهبة في بواكيرهالأولى وما تلبث هذه الموهبة أن تتمكن وتتجلى بالدراسة والتجاريب.
عَودٌ عَلى بِدء
نعود بعد هذا الاستطراد إلى ترجمة حياة الأستاذ قنديل فنقول أنه عمل رئيسا لتحرير صوت الحجاز وانتقل بعمله هذا إلى مكة المكرمة وكانت فترة رئاسة تحرير القنديل لصوت الحجاز من الفترات الخصيبة في تاريخها فقد أفسح صدر الجريدة لمقالات الكتاب وقصائد الشعراء كما أنه عين المرحوم الاستاذ عبدالله المزروع - والد الدكتور المزروع - مخبرا صحفيا يوافيه بالأخبار الداخلية وخاصة الأخبار الحكومية وخلال رئاسته لصوت الحجاز نظم قصائده الأولى من الشعر (الحلمنتيشى) وهو الشعر الذي تختلط فيه العربية بالعامية وكانت صحيفة صوت الحجاز مجال النشر لقصائده الأولى من هذا الشعر وقد استمر القنديل رئيسا لتحرير صوت الحجاز من4 شعبان سنة 1355 هـ إلى12 جمادى الأولى سنة 1356 هـ وقد أقصي عن صوت الحجاز بعد أن نشر قصيدة أسيئ تفسيرها بتوقيع رمزي وحملها المرحوم الدكتور محمد علي الشواف إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل النائب العام لجلالة الملك - جلالة الملك فيصل فيما بعد - وقد أصدر سموه أمره بإيقاف الشاعر وإقصائه عن الجريدة ثم تبين ان الشاعر هو رئيس التحرير نفسه ولم تمض أيام طويلة حتى فاء سموه إلى الرضا وأفرج عنه فعاد إلى مدينة جدة مسقط رأسه مرة أخرى وعمل فترة في مكتب رئيس وكلاء مطوفي الجأوه - الأندنوسيين - الشيخ محمد نور جوخدار رحمه الله ثم انتقل مرة اخرى للعمل في مكة المكرمة في ديوان التحرير بوزارة المالية زميلا للأساتذة عبدالوهاب آشي ومحمد حسن فقي ومحمد حسن كتبي ثم عين رئيسا لمصلحة أملاك الدولة بوزارة بالمالية وكانت تتخلل ما بين هذه الوظائف فترات تعطل ثم عين أخيرا مديرا لإدارة الحج بجدة في أول تأسيسها وكان أول مدير عام للحج هو الشيخ محمد صالح قزاز مد الله في عمره وكان مركزه في مكة المكرمة وبعد انتداب الشيخ محمد صالح قزاز للعمل في توسعة الحرم المدني لانتقاله إلى المدينة المنورة اصبح الأستاذ أحمد قنديل مديرا عاما لإدارة الحج بجدة ثم أحيل إلى التقاعد وهاجر إلى مصر لبضع سنوات افتتح خلالها مكتبا تجاريا له بالاشتراك مع الأستاذ رشاد برنجي وأحد أصدقائهما من المصريين ثم عاد مرة أخرى إلى الحجاز وما لبث أن هاجر مرة أخرى إلى بيروت، وفي بيروت تفرغ للإنتاج الفني للإذاعة والتليفزيون وعكف على طبع مؤلفاته عن جدة ودوأوينه الشعرية الكثيرة وبعد أن اندلعت الحرب الأهلية في بيروت عاد مرة أخرى إلى جدة وكان يسافر بين الفينة والأخرى إلى القاهرة لموالاة أعماله الفنية سواء في طبع مؤلفاته أو لعرض أعماله الفنية في الإذاعة والتليفزيون إلى أن توفاه الله تعإلى وهو يكتب الحلقة الأخيرة من قناديل رمضان لعام1399 هـ في صباح الجمعة 12 شعبان 1399ه.
الشعر الضَاحِك
تميز الاستاذ أحمد قنديل رحمه الله إلى جانب إبداعه الشعري ومكانته في الكتابة والأدب بشعره الضاحك الذي كان ينشر مقطوعة منه كل صباح فيجريدة البلاد أولا ثم في جريدة عكاظ تحت عنوان (قناديل) ثم أصبح يستعمل هذا النوع الضاحك ولكن في أسلوب نثري وكان ينشر في الأعوام الأخيرة في جريدة البلاد بعنوان قناديل ملونة وهذه القناديل الشعرية خاصة كانت سببشهرته على المستوى الشعبي وقد خلقت منه شاعرا شعبيا محبوبا يتحدث عنه الناس في طول البلاد وعرضها كما خلقت له قراء كثيرين يتابعون ما ينشر له في كل يوم ويتفكهون به ويتحدثون عنه في مجالسهم ومنتدياتهم وللتاريخ فإني سأورد هنا بداية القنديل في هذا الشعر الضاحك فأقول.
الأستاذ حُسَين شفيق المصري ومجلة الفكاهة
كانت دار الهلال في القاهرة تصدر مجلة أسبوعية اسمها (الفكاهة) وهى مجلةفكاهية كما يدل عليه اسمها وكان يتولى رئاسة تحريرها الأستاذ حسين شفيق المصري وهو شاعر مجيد وزجال مصري معروف، وكان الأستاذ حسين شفيق فيما أعرف هو أول من نشر الشعر الضاحك في أسلوب عامي ولكن هذا الشعر العامي كان يحتفظ بالوزن والقافيه، وكانت الطريقة أنه يفتتح القصيدة بمطلع قصيدة من عيون الشعر العربي القديم ثم ينسج على منوالها كلاما موزونا مقفي تختلط فيه العامية بالعربية الفصحى وكانت مواضيع هذا الشعر دائما انتقادية ولكنها في اسلوب فكاهي مقبول، وكنا نجتمع في مكة المكرمة الأستاذ حمزة شحاته وأحمد قنديل رحمهما الله وأنا وكان الوقت صيفا وكنا نهرب من حر مكة اللاهب إلى أطراف الشهداء وكان في موضع مكاتب وقراج الشركة العربية للسيارات بالزاهر مقهى لرجل اسمه العم حمزة وكان العمران في مكة ينتهي عند قشلة جرول وكانت الأرض بعدها خلاء وكنا نجيئ إلى هذا المقهى مع الغروب ونتسامر صدرا من الليل ونتنأول عشاء خفيفا ثم يأوي كل منا إلى فراشه الذي كان يحفظ في داخل المقهى والذي يحضره لنا العم حمزة مع ابتداء الظلمة وكنا نتخذ من كراسي المقهى العادية الطويلة سررا ننام عليها تحت السماء، وذات ليلة جاء ذكر هذا الشعر الفكاهي، وكان حسين شفيق المصري يطلق عليه اسم الشعر (الحلمنتيشي) نقول جاء ذكر هذا الشعر (الحلمنتيشى) فسأل الأستاذ شحاته الأستاذ قنديل إن كان يستطيع النظم على هذا النسق فأجابه بالإيجاب وفي اليوم التالي بدأت المحأولات الأولى للقنديل في هذا الشعر وكانت موفقة جدا وما هي إلا فترة بسيطة حتى بدأ القنديل في نشرها في صوت الحجاز فترة بعد أخرى ووجدت صدى شعبيا واسعا واستقبالا حسنا من جميع القراء خاصة وأن (قنديل) رحمه الله تحاشى العامية المصرية التي كان يستعملها حسين شفيق المصري ولجأ إلى العامية الحجازية ثم توسع فيها وخلطها بالعامية النجدية فيما بعد ومن هذه القصائد التي لاتزال عالقة بالذاكرة ما نشره القنديل في صوت الحجاز والمطلع لقصيدة مشهورة لابن الفارض:
غيري على السلوان قادر وسواي في العشاق غادر
لى في الصباح فطيرة والبيض أليق بالفطائر
وهناك قصيدة أخرى والمطلع كذلك لشاعر قديم
صاح في العاشقين يالكنانه رشا في الفؤاد منـه كنانه
شرقي مكحل ومحنى حامل في يمينه خیزرانه
هذه هي البدايات الأولى لهذا الشعر الضاحك وكانت القصيدة تنشر طويلة وليست مقطوعة صغيرة كما صارت إليه القناديل أخيرا ولكن النشر لم يكن يوميا كما هو الحال مع القناديل اليومية وإنما كان أسبوعيا أو أكثر من أسبوعى وآخر مانظمه قنديل في هذا المجال الغزأوية الأخيرة وهي قصيدة ألقاها في الجلسة الختامية للمؤتمر الأول للأدباء السعوديين وصف فيها الأدباء القدامى والمحدثين ودعا فيها إلى تكريم شيخ شعراء مكة الأستاذ أحمد إبراهيم الغزأوى مد الله في حياته وقد قوبلت بالاستحسان وقوطعت بالتصفيق وهى تمثل شعر قندیل الضاحك وقد نشرت بالمجلد الأول عن بحوث المؤتمر الأول للأدباء السعوديين كاملة فليرجع إليها من رغب الاطلاع عليها.
حمزة شحاته والشعر الضاحِك
ولعل معظم القراء بل والأدباء لا يعرفون أن المرحوم الأستاذ حمزة شحاتة كان ينظم هذا الشعر ولكنه لم يستمر عليه وإنما نظمه مرة واحدة أو مرتين وله قصيدة جميلة اذكر بعض أبياتها فيما بعد وهذه القصيدة لها قصة لا بأس من إيرادها فقد عُلم أن العراق سيرسل بعثة كشافة إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة ولعل ذلك في زمن الحج وأرادت الحكومة أن تكرم كشافة العراق فأعدت لهم برنامجا حافلا كان من ضمنه إقامة حفل تكريم لهم في جدة وتولي الاخ الشيخ محمد عبدالله رضا يومها أمر ترتيب هذا الحفل الشعبي فأرسل دعوة إلى شباب مدينة جدة للحضور إلى منزله ودعاهم للتبرع لإقامة هذا الحفل ولكن المرحوم حمزة شحاته لم يدع إلى هذا الاجتماع مع أننا كنا جميعا على علم بالحفل الذى كان سيقام في بيت نصيف وكان صديقنا المرحوم الأستاذ حسين محمد نصيف - مؤلف كتاب ماضي الحجاز وحاضره - يخبرنا يوميا عن هذا الحفل ويحثنا على الحضور فيه وغضب حمزة لعدم دعوته من قبل الشيخ محمد عبدالله رضا فأنشأ قصيدة ضاحكة صور فيها ما وقع من المجتمعين للتبرع في اسلوب ضاحك جميل والقصيدة اخذ مطلعها من قصيدة ابي تمام الشهيرة:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب ويضرب سيف الله أيأن تضرب
وبالأمس قد ارسلت حِتَّة دعوة إلى فتية بالصالحات تحزبوا
فلم تك إلا ساعة أو دقيقةً تجازوا سراعاً بعدها وتكركبوا
ومنها يصف ملابسات التبرعات
فجاء فتى منهم جريئ حَجَنْجَلُ فجاد بربع ريال فانبروا وتعجبوا
وقال استحي ياسی فلان فإنه قليل ومن يكتب قليلا يُؤَنب
فقال لهم ليش نسبتي تقتضى كدا؟ فان راقكم قولي والا فأحْسِبُوا
فبان حماس فوقَ وَجْه زعيمهم فسجل عشرينـا وقـد كاد يغضب
والقصة أن المرحوم الأستاذ محمد لاري - والد الأستاذ رضا محمد لاري - كان من ضمن من حضروا الاجتماع فجاد بربع ريال فقال المجتمعون أنه قليل فقال لهم إنه ليس قليلا بالنسبة لما تبرع به الشيخ محمد رضا فتحمس الداعي وسجل عشرين ريالا أخرى وسواء أكانت القصة حقيقية أم من خيال الأستاذ حمزة شحاتة رحمه الله، وأغلب الظن أنها حقيقة فإن محمد لاري كان معروفا بالجرأة، فإن إيرادها على هذا النحو في هذا الشعر الضاحك كان مناسبة يتفكهبها مجتمع الشباب بل مجتمع جدة كلها فكاهة تخلو من الحرج والبذاء.
عودة القناديل
نعود بعد هذا الاستطراد إلى القناديل التي توسع فيها الاستاذ أحمد قنديل وطورها إلى أن صارت إلى ما يعرفه جميع القراء فنقول أن الأسلوب الذي بدأ به قنديل هذا الشعر الضاحك ربما كان أحب إلى الأدباء من القراء لأنه لم يسرف في استعمال اللفظ العامي كما هو الحال بالنسبة للقناديل ولكن جوهر الفكرة واحد وهو النقد الاجتماعي واذكر أن قنديلا رحمه الله أراد أن يصدر المجموعة الأولى منشعره الأصيل فعهد إلى الأستاذ حمزة شحاتة رحمه الله أن يكتب مقدمة لهذه المجموعة، كما أنه حينما أراد إصدار المجموعة الأولى من شعره الفكاهي طلب مني كتابة مقدمة لها وأذكر أني كتبت في تقديم هذه المجموعة ولعل اسمها المركاز ما معناه:
إذا كان هذا الشعر الفكاهي لا يدخل التاريخ من باب الأدب والشعر فإنه يدخل التاريخ من أوسع أبوابه كفنّ يصور الحياة الاجتماعية في هذه البلاد في أسلوب ساخر ضاحك فهو يتحدث عن أمور يعاني منها كل فرد ـ ولا تخلو حياة أي مجتمع من المعاناة - مما يتصل بحياته اليومية في مختلف وجوه هذه الحياة في داخل المنزل، أو في خارجه في السوق، في المدرسة، وفي الدائرة الحكومية، في البيع والشراء، في السفر والإقامة، في متطلبات الحياة اليومية ومشاكلها، وسيعود المؤرخون إلى هذا الشعر الساخر ليجدوا فيه مادة تصف الحياة بل تصف كثيرا من دقائقها وأدوائها مما ينطوي مع الزمن ويتغير مع الأيام) انتهى معنى ما كتبته لهذه المقدمة التي لم يكتب لها النشر فقد عدل قنديل رحمه الله عن نشر الكتابين بالمقدمات التي طلب من أصدقائه كتابتها وعلمت أنه فضل أن يقابل القراء مؤلفاته دون تقديم وهو رأى له وجاهته على أي حال.
أقول أن هذا الذي كتبته عن هذا الشعر قبل أربعين عاما لا يزال يمثل رأيي في هذا الشعر أو هذا الفن على الأصح فإن هذا الشعر العامي لا يمكن أن يدخل التاريخ كشعر رفيع ولكنه يدخل من أوسع أبواب التاريخ كفن يمثل الحياة الاجتماعية ومشاكلها وكفن يمثل النقد الفني للحياة إذا جاز هذا الوصف وما تحفل به من مفارقات ومشكلات، وقنديل غني بشعره المبدع الأصيل وبفنه الرائع الذي يتجلى في مؤلفاته الشعرية الكثيرة عن إضافة هذه القناديل إلى شعرهالأصيل، انها فن مستقل يمثل الناحية الشعبية في قنديل والتي سنتحدث عنها فيما يلى.
شعبية أحمد قنديل
الاستاذ أحمد قنديل رحمه الله كان شعبيا بالمعنى الدقيق للكلمة أو ابن بلد كما يقول العامة من الناس ولا غرو في ذلك فقد ولد في بيئة شعبية وبيت قنديل الذي ولد ونشأ فيه في العلوي من محلة اليمن - كان من منازل جدة القديمة وكان آل قنديل جميعا يسكنون فيه وكان قنديل رحمه الله يسميه القرية لكثرة من يسكنه من آل قنديل والبيت يقع في قلب حي شعبي مشهور يحيط به سوق العلوي المشهور والمؤدي إلى باب مكة وتحف به بيوت شعبية للطبقة الوسطى من المجتمع التي عاش قنديل بينها والتي عبر عنها في شعره الفكاهي أصدق وأجمل تعبير - ولقد كان أبوه الشيخ صالح قنديل رحمه الله مدرسا للقرآن في الصفوف الأولى من مدرسة الفلاح كما كان من أشهر المقرئين والمأذونين وكان رجلا ظريفا سريع النكتة حاضر البديهة أنيس المجلس وقد أخذ عنه ابنه قنديل هذا الظرف، كما أن شقيقه الأكبر يوسف قنديل كان ظريفا عفويا في كلامه وتصرفاته وكان محبوبا من أصدقائه الكثيرين وقد نشأ قنديل في هذه البيئة الضاحكة وكان اتصاله بالصحف والكتابة فيها وانتقاله إلى مكة أحدث له شهرة في هذه البيئة الشعبية فكان الجميع يطلقون عليه لقب الأستاذ، فإذا قيل الأستاذ فهو أحمد قنديل وهو عند أصدقائه الخُلَّص - قنديل وكفى ـ وقد احتفظ قنديل بشعبيته هذه طيلة حياته واتخذ منها مادة لفنه الشعري الضاحك وهذه الشعبية تتجلى في كل شيء في وصف المكان والزمان واللهجة الخاصة الشعبية واصطلاحاتها والمقارنة بينها وبين الحاضر، وبين يدي الآن قصيدته الغزاوية التي أسلفت الحديث عنها أنقل منها بعض الأبيات فهي أبلغ في وصف هذه المادة الشعبية من كل تعبير:
وقد تعجب من حالي بلا سبب الباب والعقب والروشان والقفف
كما تطلَّع نحوي زاغرا ابدا في سقفه القندل المرصوص والحصف
ومنها:
وكل تمشيتي ـ بولطــا ـ أقوم بها فوق السطوح يوازيني بها الطنف
ومنها:
بردان ففضفت من ظهرى وفي ركبي شيء إذا غزها من جلستي أف
وليس هذا مجال الإطالة في الاقتباس فإن كل أبيات هذا الشعر الضاحكتمثل الشعبية الصميمة التي تتجلى في كل كلماته ومقاطعه.
شعر الأفراح
ولعل القراء لا يعرفون أن قنديلا كان ينظم الشعر للمنشدين الذين جرت العادة بحضورهم احتفالات العرس فكانوا جميعا يلجؤون إليه لينظم لهم الشعر الذى يلقونه في هذه الحفلات والذى يجب أن يتضمن اسم العريس واسم آل العروسين والذي يلقى حين خروج العريس من داره بصحبة المأذون والرجال الذين يصاحبونه فيقف المنشد ويحييه ويهنئه بما هو مقدم عليه، فإذا وصل الموكب إلى دار العروس وقف الجميع في فناء الدار وألقى المنشد مقطوعة أخرى يحيى فيها العريس ولابد من تحية أهل العروس كذلك بذكر اسم أسرتهم واسم أسرة العريس، وبعد انتهاء حفل العقد يلقي المنشد تحيته الأخيرة للعروسين وآلهما وكان المنشدون في جدة يلجؤون وخاصة في حفلات العرس الكبيرة إلى قنديل رحمه الله فينظم لهم المقطوعات المطلوبة من الشعر الفصيح متضمنة اسم العريس وأسماء آل العروسين ولم يكن يتقاضى منهم مقابل ذلك شيئا وإنما يفعله بدافع من صداقته لهم وهذه العادة لاتزال باقية إلى اليوم ولكنها في نطاق ضيق جدا وفي بعض الأعراس الكبيرة التي يحرص أصحابها على إحياء هذه العادات القديمة.
القناديل والنقد
يتميز شعر القناديل بالنقد الساخر وهو النقد لأوجه الحياة اليومية التي يعاني منها الناس ولا يملكون شيئا لتغييرها أو إصلاحها والقارئ اليومي للقناديل كان يرى فيها تعبيرا عما يشعر به أو يشكو منه ولكن في أسلوب ضاحك ساخر ولهذا لقيت نجاحا على المستوى الشعبي لأنها كانت تعبيرا واقعيا عن الحياة اليومية في أسلوب ساخر ينفس به الناس عن شعورهم إزاء ما يحسون به من ضيق وقد شمل هذا التعبير كل أوجه الحياة - تعطيل المعاملات، زحمة المرور، تعطيل الكهرباء، انقطاع الماء، غلاء الاسعار، تخريب الشوارع، كثرة الاجانب - وقل ما شئت من مظاهر الحياة اليومية فستجدها واردة في القناديل ولهذا أحبها الناس وقرأوها وتحدثوا عنها في كل يوم وهذه القناديل أو هذا الفن الضاحك هو ما امتاز به قنديل من بين أدباء جيله فكان له هذا الصدى الشعبي الواسع الذي جعله بحق اديباً شعبيا راسخ القدم، ثابت البنيان وكان إذا ألقى قصيدة من شعره الضاحك قوبلت بالاستعادة والاستحسان والتصفيق وعلى ذكر الالقاء اذكر هنا أن قنديلا رحمه الله في بدء حياته الأدبية لم يكن يرغب في إلقاء شعره ويفضل أن يلقيه غيره ممن يحسنون الإلقاء أو ممن اشتهروا بذلك ولكنه ما لبث أن اكتشف في نفسه موهبة الإلقاء ولذلك قصة نذكرها للتاريخ.
قنديل وإلقاء الشعر
أقامت السفارة اللبنانية في جدة حفل تكريم لمعالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان قدم له فيها القائم بأعمال السفارة اللبنانية السيد أسعد الأسعد في ذلك الوقت، الأمين المساعد للجامعة العربية حاليا - قدم له فيها وسام الأرز من درجة فارس على ما أذكر وطلب مني المرحوم الشيخ محمد سرور إلقاء كلمة الشكر نيابة عنه، وحضر قنديل رحمه الله وقد اكتمل المدعوون وبدأت فقرات الحفل بخطاب السيد أسعد الأسعد فوقف إلى جانبي وقال لقد أعددت قصيدة لهذه المناسبة وأريدك أن تلقيها نيابة عنى قلت أني سألقي كلمة الشكر نيابة عن الشيخ محمد سرور وقال وما العمل قلت قصيدتك أنت ولا يلقيها غيرك.
وهكذا كان وقد قوبلت القصيدة يومها أحسن استقبال وانطلق بعدها قنديل يلقي شعره بنفسه وهو خير من يلقيه بلا مراء.
قنديل الشاعر
لقد أطلنا الحديث عن فن قنديل الضاحك الذي تختلط فيه العامية بالفصحى والذي تحول إلى القناديل اليومية وآن لنا أن نتحدث قليلا عن أحمد قنديل الشاعر العربي الأصيل.
أحمد قنديل شاعر مبدع ظهر إبداعه من القصائد الأولى والتي نشرت له في صوت الحجاز في الخمسينات وقد نظم في جميع فنون الشعر شعرا جيدا موزونا وتميز عن كثير من أدباء جيله بأنه كان يوالي النظم والكتابة كما يوالي النشر إما في الصحف أو في دواوين خاصة بكل مجموعة شعرية وأمامي الآن خمس من مجموعات هذا الشعر هي: اللوحات، أوراقي الصفراء، شمعتي تكفي، قاطع الطريق، الراعي والمطر، ولاشك أن له مجموعات أخرى لم أذكرها وليست هذه الترجمة دراسة لشعر أحمد قنديل وإنما هي تصوير لحياته التي تميزت بالشعر فليس الاستقصاء من متطلبات هذه الترجمة وإنما هو مطلب الدراسة الكاملة لشعر أحمد قنديل وعطائه وسأورد بعض أبيات من هذه المجموعات دون اختيار للتعبير عن مكانته في الشعر الأصيل...
أيها العاشق لاقي ما لقينا واصطبر
نحن كنا آية في الحب تتلى في حذر
يوم عشنا خفقة في القلب رنَّت كوتر
إنما اليوم غدونا مثلما شاء القدر
ويقول في قصيدة أخرى:
ودعت أيام الشباب تفيأت زهراتها ظل الشباب الأملد
رفرافة الأوراق حيتها الصّبا باللمس بين تَوُجُدٍ وَتَوَدِّدِ
ممتدة الأعراض طاب غراسها في السفح في الأغوار لم تتأبد
رفت على الأغصان نافحة الشذى سفرا تنهد بغية المتنهد
والقارئ لمجموعات القنديل الشعرية يجدها حافلة بالصور فياضة بوهج العاطفة التي هي جوهر الشعر كله وبعض مجموعات القنديل تمثل موضوعات معينة مثل الراعي والمطر وقاطع الطريق ولا شك أن هذا العطاء الكثير ليستحق دراسة جادة شاملة متأنية تضع القنديل في مكانه الصحيح لا بين شعراء المملكة فحسب وإنما بين شعراء العرب جميعا في هذا العصر
مكة المكرمة في الشعر
لقنديل قصائد شعرية في مدينة جدة ومكة والمدينة بل وحتى في سويسرا حينما زارها لأول مرة وقد كان يعمل قبل وفاته يرحمه الله على إصدار كتاب عن كل ما قال شعراء المملكة في مكة المكرمة وقد زارني وطلب مني موافاته بما لدي في هذا المجال فبعثت إليه بعض ما عندي ولست أعرف أن هذا الكتاب قد طبع وربما كان تحت الطبع أو مازال مخطوطا بين أوراقه فقد علمت منه أن الكتاب قد اكتمل فحبذا لو عمل أبناؤه الأساتذة أمل وسمير على استخراج مخطوط كتاب مكة ونشره أو الاتفاق مع أحد النوادي الأدبية على إصداره وأنا على ثقة من أن جميع النوادي الأدبية ترحب بالمساهمة في مثل هذا الأمر.
كتاب قنديل عَن جدة
وللقنديل كتابان عن جدة مزينان بالصور وهو من الشعر الضاحك الذي تختلط فيه العامية بالفصحى وهو يصف جدة الجديدة ويقارن بينها وبين جدة القديمة كما أن له كتابا آخر عن ذكريات طفولته وشبابه وهو يجمع بين هذا الشعر الضاحك والنثر يصور فيه بعض الشخصيات الشعبية التي صاحبت طفولته وشبابه كما يصور بعض الحكايات الشعبية في أسلوب يجمع بين العامية والفصحى وهذه الكتب جميعها تصور شعبية القنديل التي تحدثنا عنها في صدر هذه الترجمة بإسهاب.
وللقنديل كتاب آخر ظهر بعد وفاته اسمه (الجبل الذى صار سهلا) وقد قامت بنشره إدارة النشر بمؤسسة تهامة وهو يمثل (قنديل) متحدثا اكثر مما يمثله كاتبا ولكن الكتاب في حد ذاته تسجيل فريد لذكريات القنديل في شبابه وهو مما يدخل في باب التراث.
شعر الملاحم
ولقنديل إلى جانب هذا الشعر الضاحك والمجموعات الشعرية الأصيلة التي تحدثنا عنها ملحمة شعرية عظيمة نشرت كاملة في المجلد الأول من بحوث المؤتمر الأول للأدباء السعوديين تصل إلى ما يقارب الألف بيت من الشعر استعرض فيها سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتاريخ الجزيرة العربية وهي من أطول ما أنتج القنديل من الشعر وهى تدل على اطلاع واسع وتمكن في النظم والتصوير.
إنتاجه للإذاعة والتلفريون
كما أن للقنديل إنتاجا وافرا كان يبثه التليفزيون السعودي وخاصة في شهر رمضان من كل عام تحت عنوان (قناديل رمضان) وكان هذا الإنتاج في معظمه يلقى ترحيبا شعبيا واسعا لأنه تصوير لعادات الشعب وحياته.
لقد كان قنديل وفيا للقلم، حفيا بالفن، معطاء لا تفتر حماسته للكتابة والشعر وقد صور نفسه أصدق تصوير حين قال من قصيدة قديمة:
صناعتي في الورى الكلام به أحيا وحرفتي الأدب
وقد استمر في تقديم انتاجه للصحف ولوسائل الاعلام وللطباعة خمسين عاما دون توقف وحين أدركته الوفاة كان يكتب الحلقة الأخيرة من (قناديل رمضان) كما ذكرت في صدر هذه الترجمة فقضى والقلم في يده وكانت وفاته صباح يوم الجمعة الثاني عشر من شهر شعبان 1399هـ وقد تركت وفاته رنة حزن عميق وشارك الناس جميعا في عزاء أبنائه وأفراد أسرته وقامت بلدية جدة مشكورة بإطلاق اسمه على الشارع المؤدي إلى منزله بجدة وهو تكريم يستحقه بلا مراء وشارك الأدباء والشعراء في رثائه، رحمه الله رحمة واسعة فقد كان من الشعب وإلى الشعب لسانا معبرا ناطقا وشعرا مصورا سائرا يصور حياة الناس اليومية ويعبر عن آمالهم وأحلامهم غفر الله له وأحسن جزاءه في دار الخلود.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 18 - 35.