أبو الوفاء الحراني:
المعروف بالقائد، شاعر مطبوع، كان بحران وبحلب منقطعا الى آل وثاب ، وكان يأنس الى أبي المعالي بن الملحي، عارض الجيش بحلب، ثم إنه انتقل الى دمشق عند انقراض آل وثاب النميريين، فاستوطنها الى أن مات.
أنبأنا تاج الأسناء أحمد بن محمد بن الحسن عن عمه الحافظ أبي القاسم علي ابن الحسن قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن المحسّن بن أحمد بن الملحي- من لفظه، وكتبه لي بخطه- قال: القائد أبو الوفاء، نزهة العالم، وأظرف بني آدم، ينشئ نوادر أحرّ من النار، وأحاديث تقصر عنها الأفكار، ويتحدّث أشهرا فلا يعيد حديثا، ولا يرى مستريثا، بل قد خصّ من هذا الفن بما لم يخص به بشر، ولا يلحقه فيه من نظم أو نثر، ولم ير في الجامع المعمور إلّا مصليا في يومه ما فات في أمسه فالناس يجمعون على استحسان مقاصده فيقفون على مصادره وموارده، فكان كما قال أبو نواس:
يصلي هذه في وقت هاذي ... فكل صلاته أبدا قضاء
وكان آل وثاب اقتطعوه إليهم وأخذوه بكلتى يديهم، يتنافسون في الخلع عليه، والاحسان اليه، ولزمهم سنين كثيرة الى أن عبثت بهم أيدي الزمان، وتنبهت لهم أعين الحدثان، ففارقهم وانتقل الى دمشق، فأقام بها الى أن قضى نحبه، ولقي ربه، وكان أبو الوفاء لعب بالشطرنج مع والدي فغلبه والدي، وأخذ خاتمه مازحا، فعمل أبو الوفاء بديها:
يا سيدا كفّ عني أيدي النوب ... من بعد أن أشرفت نفسي على العطب
أعدائي لو غلبوني قمت تنصرني ... فهل أبالي من الشطرنج بالغلب
يا بن الذين شأوا أبناء عصرهم ... في حلبة الجد والإحسان والأدب
قوم مناقبهم لمّا مضوا بقيت ... منيرة في سماء المجد كالشهب
يكون جاهك يحميني فيؤخذ لي ... في اللّعب أو غيره شيء من الذهب
هيهات سالمني دهري وصرت وفي ... يدي منه ذمام غير مقتضب
وكان لابي الوفاء خاتم، مزح معه رجل، فقال: بعني هذا الخاتم، فقال: ما أبيعه، ولكن خذه، فأخذه ومضى، ومطله برده فعمل فيه:
صار بهذا الزمان مخرقة ... قوم يحبون منحة الشعرا
تغير الناس والزمان معا ... وأهملوا الفضل فهو قد دثرا
ما زحت بالامس أهيفا حسنا ... قد كمل الظرف من بني الأمرا
إذا تفكرت في محاسنه ... حسبته من جماله قمرا
فسامني خاتمي فقلت له ... اقبله مني فحازه وجرى
من يقبل الرفد والهدية من ... قائل شعر فذاك ذقن خرا
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)