أبو قدامة العابد:
الفلسطيني الرملي البكّاء، كان غازيا بعين زربة حكى عن سليمان الخواص، روى عنه أحمد بن سهل الأردني، وأبو قدامة العابد.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مسلم الإربلي قال: أخبرتنا شهدة بنت ابن الآبري قالت: أخبرنا أبو عبد الله بن طلحة النعالي قال: أخبرنا أبو سهل محمود بن عمر قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن الفرج العكبري قال: حدثنا عبد الله بن أبي الدنيا قال: وحدثت عن محمد بن الحسين قال: حدثني أحمد بن سهل الأردني قال: حدثني أبو قدامة الرملي قال: قرأ رجل هذه الآية: «وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا» فأقبل عليّ سليمان الخواص فقال: يا أبا قدامة ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله في أمره، ثم قال: والله يا أبا قدامة لو عامل عبد الله عز وجل بحسن التوكل عليه، وصدق النيّة له بطاعته لا حتاجت إليه الأمراء، فمن دونهم، فكيف يكون هذا يحتاج وموئله وملجؤه إلى العزيز الحميد.
نقلت من خط القاضي أبي عمرو الكرجي، قاضي معرة النعمان: حدثني أبو أحمد عبد الله بن داود الحناط الكرجي بطرسوس، قال: حدثني أبي داود بن محمد أبو صالح قال: قرأ علينا الساوي عبد الله بن علي المقرئ خطبة أبي السري منصور بن عمار الواعظ رحمه الله في الجهاد، وكتبنا هنا عنه، إملاء. قال منصور بن عمار: وذكر الخطبة، وقال في آخرها: الدليل على ما أقول حديث أبي قدامة العابد الفلسطيني البكاء قال أبو قدامة: بينا أنا خارج من عين زربة في سرية، وكنت على ساقة الناس، إذا أنا بهاتف يهتف من ورائي: أبا قدامة، فلم ألتفت إليه ومضيت غير ملو عليه، فهتف بي الثانية، فإذا أنا بامرأة كأجمل ما يكون من النساء، فتركتها ومضيت، وخفت أن تكون مكيدة من إبليس يقطعني عن غزوتي ويشغلني عن سبيل ربي قال: فصوتت بي الثالثة بصوت حزين أوجعت قلبي وأدمعت عيني، وهي تقول: أبا قدامة تواضع رحمك الله، ليس هكذا كان من مضى قبلك، قف عليّ فوقفت عليها، فلما بلغت إليّ قالت: تنح عن الطريق، فعدلنا فقالت: أبا قدامة إني أريد أن أستودعك وديعة فاكتمها عليّ، قال: قلت: وما هي؟ قال: فضربت بيدها الى ردائها والدموع تنحدر على نقابها، فقالت: أبا قدامة إني أريد أن أستودعك وديعة، إني عمدت الى ناصيتي ومواضع السجود من قصتي فأخذته وجعلته قيدا لفرس الغازي في سبيل الله، لعل الله ينظر الى شعري في الثرى قد وطئته الخيل بسنابكها فيرحمني، فو الله لولا أنك غريب في زمني هذا ما أطلعتك على سري، ولا أخبرتك بداخلة أمري، قال: قلت: إني أخاف أن آثم قالت: لا يؤثمك الله، فوددت أني قدرت أن أقد من جلدي سيرا يكون عذارا لفرس الغازي في سبيل الله لينظر إليّ الرحيم بخلقه الرؤوف المنان بعباده، وينظر الى جولان فرس الغازي في سبيل الله وينظر الى سيور من جلدة حرة من حرائر المسلمين ويرحمني.
قال: فبينا أنا أسير إذا هاتف ينادي: يا عم، قال: فالتفت فإذا أنا بغلام قد أقبل، فقال: يا أبا قدامة خذ هذه السكين في سبيل الله، فلم يزل يطلب إليّ حتى أخذتها منه.
فبينا نحن نسير إذ نودي بالنفير، قال: فتقدم الغلام أمام الخيل، وكثر العدو فخشيت عليه أن يقتل، قال: فرجعت في طلبه، فقلت له: حبيبي ليس هذا موضع مثلك، أنت راجل بغير دابة، ولست آمن عليك جولان الخيل وثوران الحرب، فقال: أبا قدامة أتأمرني بالرجوع وقد سمعت الله تعالى يقول في محكم كتابه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ». أفتأمرني بالرجوع بعد علمي بوعد ربي عز وجل! قال: فلما أن أبى عليّ حملته على هجين كان معي فتقدم فلم يزل يضرب يمنة ويسرة، ثم رجع فسلم علي سلام مودع كأنه أحس بالموت، ثم انطلق ليرمي السهم الثالث فلما وضعه في كبد قوسه أتاه مزراق، فضربه بين عينيه، فنكس الغلام رأسه على عنق فرسه، وهو يقول: نجوت ورب الكعبة، ثم نادى، أخفض من الأول: نجوت ورب الكعبة.
قال: فخشيت أن يموت فدنوت منه فقلت: حبيبي لا تنسى حاجتي الشفاعة، قال: لا يا أبا قدامة، ولكن لي إليك حاجة، قلت: وما هي؟ قال: أنا ابن صاحبة الوديعة، فإذا أنت أتيت المدينة فات دكان يحيى العلاف فإن لي عنده خرجا، فخذه وانطلق به الى والدتي، وصبرّها فإنها عام أول أصيبت بوالدي، والعام يزيد عليها ثكلي، قال: ثم سكت فمات.
فلما سكنت الحرب ودفنا القتلى، حفرنا له مطمورة، فألقيناه فيها بأطماره، ودفناه، فو الله ما تمالكنا النهوض حتى نبذته الأرض على ظهرها، وأقبل علي أصحابي فقالوا: يا أبا قدامة ألم نقل لك إنه غلام، ولعله خرج عن غير إذن أبويه، فقلت: مهلا إن الأرض لتقبل من هو شرمنه، إنها لتقبل اليهود وغيرهم، ثم تنحّيت فصليت ركعتين، ودعوت ربي وقلت: اللهم إنه عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، فإن كنت تعلم منه شيئا فاستره عليه، قال: فو الله ما استتممت الدعاء حتى سمعت وقع خلاخيل الحور العين، وهم يقولون: تنح يا أبا قدامة وخل بيننا وبين ولي الله، فتنحيت وأقبلت السباع والطير من كل ناحية فتقاسمت لحمه في أسرع من طرفة عين.
فلما رجعت الى المدينة أخذت خرجه ومضيت به الى منزله، فلما قرعت بابه، خرجت إلى أخت له صغيرة، فلما نظرت إلى قالت: يا أمه هذا أبو قدامة قد قدم، وما أرى أخي معه، قال: فخرجت والدته فسلمت عليّ، وقالت: أبا قدامة أمهني أم معزّى؟ قلت: وما مهني، وما معزي؟ قالت: أبا قدامة إن كان ولدي قد مات فعزّ، وإن كان استشهد فهنّ، قال: قلت: بل مهن رحمك الله، إن ولدك استشهد رحمة الله عليه، فقالت: الحمد لله، يا أبا قدامة إن لي في ولدي علامة هل رأيتها فيه؟ قلت: نعم قال: إن الأرض لم تقبله، قالت: الحمد لله ما فعل خرجه يا أبا قدامة؟ فناولتها ففتحه وأخرجت منه مدرعة شعر وغلّا من من حديد، ثم قالت: أبا قدامة كان ولدي إذا جنه الليل وغارت النجوم ولم يبق إلا الحي القيوم، تدرع بهذه المدرعة، وغل بهذا الغلّ يده الى عنقه، ثم ناجى من لا تأخذه سنة ولا نوم، وكان يقول في مناجاته: أي رب لا تحشرني إلا من بطون السباع وحواصل الطير، فالحمد لله الذي منّ عليه بذلك.
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)