ساطع بن عبد الباقي:
ابن المحسن بن عبد الباقي بن عبد الله بن المحسن بن عبد الله بن محمد بن عمرو بن سعيد بن أحمد بن داوود أبو.... التنوخي المعري شاعر مجيد من بني أبي حصين، بيت القضاء والفضل والعلم، وكان ساطع هذا من أعيان أهل المعرة، وكان يتردد الى حلب، واجتمعت به مرارا متعددة بمعرة النعمان وبحلب، وسمعت منه مقاطيع من شعره، وقصائد مدح بها الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب، وكان قد نفق عليه ومال اليه، فمما سمعته من لفظه قصيدة أنشدها بقلعة حلب بين يديه، وذلك في بعض ليالي شهر رمضان من سنة اثنتي عشرة وستمائة، وذكر فيها ولده الملك العزيز محمد بعد أن ولد، فاستحسنها الملك الظاهر، واستعاد منه أبياتا منها، وذلك بمحضر رسول الملك الاشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وهو المجد البهنسي، وأثبت هاهنا القصيدة بكمالها:
سمعت القاضي ساطع بن أبي حصين ينشد الملك الظاهر لنفسه:
أما لحج تلاقي الحيّ ... ولا لرمي جمار الهجر أوقات
لعل في عرفات من عوارفكم ... وصلا لصب له بالخبت أخبات
وليت يجمعنا جمع ويشعرنا ... سعيا بمشعر تلك الدار ساعات
كيما أقوم مقاما لا أخاف به ... نوى وتشرح من حالي مقامات
فهمتي في أسار الهم موثقة ... ما سرت عنكم سرت عني المسرات
ولي اليكم ومن ظمئاكم ظمأ ... مبرح والى لبنى لبانات
أحنوا اليكم حنينا كلما نسمت ... صبا ويعتادني منكم صبابات
يا راحلين وقلبي في رحالهم ... تجدوه وان غفل الحادون روعات
عودوا والا عدوا حسنا بقربكم ... فللجميل وللاحسان عودات
عسى يبين لعيني بعد ما بنيت ... عليه أنماطكم للبين بانات
حفظتكم وأضعتم ما أمنتكم ... له ومن مثلكم ترعى الامانات
فيا عذولي أقل اللوم وابق فما ... يفيد عذلي ولا تغني الملامات
عهدي بنا قبل وشل البين يجمعنا ... ظل ظليل وروضات أريضات
في سرحة سرحت أنهارها وزهت ... أزهارها وبها للهو لدات
سماؤها الدوح تبدي الزهر من زهر ... وأرضها كيف سار الطرف روضات
تدير فيها شموس الراح في فلك ... من الزجاجة أقمار منيرات
ياقوتة تجتلى من درة ولها ... لآلىء من حباب مستديرات
رقت وقد سفك الراووق من دمها ... الحرام ما حللت منه الاراقات
من حيث حلت عقال العقل قيدها ... التحريم وانطلقت عنها الاباحات
دارت عليها رحا الادوار جاهلة ... منها بما عملت منها الديارات
كرميه كرمت صوتا متى فقدت ... حشا الاباريق صانتها الحشاشات
لو أنها كنيت من حيث ما اعتصرت ... أم العناصر لم تخط الكنايات
هوى وماء ونار والاناء لها ... من جوهر الترب فهي الاستقصات
متى أغار عليها الماء غار لها ... من سخطها زرد تحكيه ميمات
تجلا على الشرب في شرب تمزقه ... الأفواه وهو بأعلى الجام جامات
يحنى عليها فنحبى من لذاذتها ... موتا ونشرا فاحياء وأموات
ونحن في جنة ما فات ساكنها ... فيها نعيم ولا تعروه آفات
قد أبدع الله فيها كل رائقة ... تناوحت فنواحيها بديعات
نمارق وزرابي مفوفة ... نسج الربيع لرائيها أنيقات
حبا يطيب وورد يانع شبم ... وجنة أمنت فيها الجنايات
للعين من عينها مستوقف بهج ... وللمسامع ألحان وأصوات
ما أعربت قينة إلّا شدا طربا ... من أعجم الورق في الأوراق قينات
وللنفوس لما تختار أنفسه ... من صالح لا تدانيه الدنيات
كأنها دولة الغازي التي كملت ... وصفا وعمت رعاياه الرعايات
الظاهر الملك المخلوق من ملك ... ومن أياديه أنواء مطيرات
تخافه الأسد في الأخياس مشبلة ... وتستحي من حياة المستهلات
تاهت بدولته الدنيا وجمّلها ... اثاره ومساعيه الأبيات
يمحو ويثبت أرزاق الورى بيد ... لا زال فينا لها محو واثبات
عدل وحلم ورأي ثاقب وسطا ... تغنى بتدبيرها في الروع رايات
وهمة هامة الجوزاء تحسدها ... وعزمة تتوقاها المنيات
مناقب لوحوتها الشهب ما خفيت ... وأظهرت ما أجنته الظهيرات
وطيب نشر به الأقطار في قطر ... تراوح الريح طيبا منه فوحات
لا غرو يأسف عصر قد خلا أسفا ... عصرا بنوه الخلال اليوسفيات
اذ بدا الليل نقعا والرعود صهيل ... الجرد والبرق بيض مشرفيات
والسمهرية كالأشطان واردة ... خرصاتها شرع والسحب هامات
أبدا محياه بدرا والملوك له ... أهلة تجتلى واللثم هالات
من أخوة يتوخى أن يعود لهم ... إشراق ملك له في الغرب عادات
هم الملوك وأبناء المليك واخو ... ان المليك وحسبي والتحيات
يتلوهم أمراء كالليوث لها ... في موقف الروع وقفات ووثبات
أسد لها السرد لبد والظبى عوض ... من البراثن والأرماح غابات
علام لا يعجز الوصاف وصفهم ... وهم بملكك في الدنيا علامات
ما يممت بلواء منك دار عدى ... إلّا وسام لها التدبير شيمات
وما الشآم الذي جملت بل لك من ... حسن المساعي بوجه الأرض شامات
يا أيها الملك السلطان لا برحت ... تهدى اليك التهاني والمسرات
هنيت بالناصر ودمت له ... ما دامت الأرض تسمو بالسموات
ملك أبى الله إلّا أن يكون له ... جد كجديه تتلوه السيادات
تاهت بمولده التيجان وابتهجت ... أسرة الملك والجرد الصفيات
ماذا يقول الذي يتلو مآثرها ... في مشهد الحمد ما تبنى المقالات
جدوده أم أبوه أم عمومته ... أم الخؤولة إن لم تسم حالات
استعادة الملك الظاهر هذا البيت تنبيها للبهنسي على ذكر جده لأمه الملك العادل، وذكر أخواله الذين الملك الأشرف أحدهم:
لا زلت في دولة بالسعد دائلة ... جديد عمر تواليك السعادات
ما أسفر الصبح عن لألاء داجية ... وأظلمت وتلت ضوءا دجنات
وسمعت ساطع بن عبد الباقي ينشد الملك الظاهر لنفسه، أول يوم من شهر رمضان من سنة اثنتي عشرة وستمائة بدار العدل قصيدة منها:
تحية ممنوع لذيذ حياته ... مشوق إلى حي الحيا وحياته
سليم أسى قد أسلمته أساته ... فمن لعليل داؤه من أساته
أسأتم به ظنا وأحسن ظنه ... باحسانكم والعفو عن سيئاته
لئن حسرت أيدي الملاك قناعه ... فقد نشر المطويّ من حسراته
يواصل بالشكر الجزيل صلاتكم ... ويدعو لكم في صومه وصلاته
وفي فيه من ذكراكم ما تعمرت ... فيافي الفلا طيبا لطيب شذاته
هو الدهر أصماه بسهم بعاده ... وأخنى عليه عامدا بهناته
فحيوه من انعامكم لا عدمتم ... حيا منبت للحمد طول حياته
فقد فاء اذ كادت تفوت حياته ... الى ملك يحييه بعد وفاته
أنشدنا ساطع بن عبد الرزاق بن أبي حصين لنفسه في الحاضر السليماني بظاهر حلب:
دعاها فبرق الأبرقين دعاها ... أيا حادييها والغرام دعاها
ذراها تباري الريح نحو مرامها ... فجذب البرا عما تروم براها
ولا تلوياها أن تحاول باللّوى ... ديونا لها بعد المزار لواها
ألم ترياها كالحنايا وفي السّرى ... سهاما ورام بالجنين رماها
مرض ساطع بن أبي حصين بحلب في بعض شهور سنة احدى وعشرين وستمائة وحمل الى معرة النعمان فمات في الطريق بين معرة النعمان وحلب في السنة المذكورة رحمه الله.
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)