زبرج الثملي الاسود:
من موالي ثمل الخادم أمير طرسوس، وكان زبرج من الصالحين المرابطين بطرسوس، المقيمين بجامعها المشتغلين بالعبادة آناء الليل وأطراف النهار، لا يشغله عن ذلك إلّا الجهاد أو تشييع جنازة أو عيادة مريض.
قرأت بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله بن ابراهيم الطرسوسي في كتابه الذي وسمه بسير الثغور، وذكر فيه جامع طرسوس وقال: وفي هذا المسجد زبرج الثملي الأسود، ترك اللذة وزينة الدنيا في أيام ثمل رحمه الله، وحفظ القرآن وبرع فيه وتنسك وجعل قوته من الملح وقوام عيشه مما يجمعه منه من سنة الى سنة، وكان يأوي الى دويرة له بباب الصاف، طريقه اليها على رجل يعرف بأبي الحسن بن العلاء الأذني وكان ابن العلاء هذا من تناء مدينة أذنة، وأحد وجوهها، ويظهر حبّ الصالحين، ويداخل أهل حصن أولاس ومن يجري مجراهم، فوشى به الى بني عبد الباقي من أفسد حاله معهم واقتضت الصورة أن ينحاز عن أذنة الى طرسوس لأنها كانت ملجأ كل طريد وعصمة كل شريد، وكان ذا لسان وحال فحدّث زبرج الثملي من تأنس به أن ابن العلاء هذا سأله مرارا، ورغب إليه أن يجعل إفطاره عنده، وأنه لما أكثر عليه استحيى منه، فأجابه فقدّم له طعاما عهد زبرج بمأكل مثله بعيد، فنال منه زيادة على العادة من قوته وما وظّفه على نفسه، وجاء الى منزله فقام الى ورده فلم يطق القيام لغبة النوم عليه فنام فرأى في منامه رجلا أسود قد تناول عصا أطول ما يكون يضرب بها زبرجا ولا يقلع عنه، ويكرّر عليه، قال زبرج: فقلت له: يا هذا لم تضربني ولأي ذنب تضربني؟ قال: الساعة أقول لك فما زال ينتبه من منامه وتغلبه عينه ويعود الأسود لضربه، ويسأله زبرج عن ذنبه ليتنصّل منه أو يعتذر إليه، فلما بلغ فيه غاية ما يكره وكدّه وتعسفه بالضرب المبرّح قال له: يا زبرج أتأكل طعام ابن العلاء، هذا الضرب لذلك قال: فقلت فإني لا أعود، قال: إن عدت عدنا، فأصبح كئيبا مهموما واجتاز بابن أبي العلاء لأنه على مدرجة طريقه وقد استحكم طمعه فيه فعاوده يسأل أن يفطر عنده، فأبى وعاوده وسأله ورغب إليه وقبّل بين عينيه ويديه ورجليه، فقال: يا هذا ما يمكن بعدها أن أذوق لك طعاما، فضيّق عليه موضع الاعتذار فحدّثه بما رأى في منامه ففارقه ولم يعد لمثلها.
وخرج زبرج عن طرسوس، وخواصّ الناس ينظرون إليه نظرهم الى أبي الخير صاحب التينات أو أفضل لأن زبرجا من القرّاء المجاهدين، وحصل ببيت المقدس يشار اليه، ومات بها رحمة الله عليه.
قلت أظن أن زبرجا خرج من طرسوس الى بيت المقدس لما استولى نقفور على طرسوس في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، والله أعلم.
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)