الأعسر بن مهارش الكلابي
تاريخ الولادة | غير معروف |
تاريخ الوفاة | غير معروف |
الفترة الزمنية | بين 300 و 400 هـ |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
الأعسر بن مهارش الكلابي:
فارس شاعر أعرابي من بني كلاب، قدم حلب على سيف الدولة أبي الحسن بن حمدان، وحكى له حكاية عشقه الصيقل بنت طراد بن خشرم الأسدي، فاستحسن سيف الدولة خبره وزوجه إياها وأحسن اليهما.
قرأت الحكاية في مجموع عتيق مكتوب في أيام سيف الدولة، أو قريب من عصره، وشاهدتها في المجموع على الصورة التي أذكرها بخط بعض الاخباريين في جزء وقفت عليه في وقف الامام الناصر أبي العباس أحمد بالخلاطة في الجانب الغربي ببغداد.
قال: وبلغني أن سيف الدولة- رحمه الله، وفد عليه الأعسر بن مهارش الكلابي في ثلاثين رجلا من بني كلاب، بعد ما صالح سيف الدولة بني كلاب، فدخلوا عليه فخطبوا خطبا حسنة، فأجازهم، وأعطاهم، وكانوا أتوا في رسائل، فأقاموا ينتظرون الجواب لرسائهم، وكان الأعسر يحضر مجلس الامير سيف الدولة في كل يوم، فإنه ذات يوم في مجلسه اذ أخذوا في حديث العشق والتتيم، فقال أبو فراس الحارث بن حمدان: أيها الأمير بلغني أن مع الأعسر طرفا من ذلك فاسأله يخبرك، فقال سيف الدولة: حدثنا حياك الله فإنا نحب حديثك، فقال: أيها الامير أما إذ سألتني قبل إعلامي لك فإني سأحدثك: إعلم أيها الأمير أطال الله بقاءك، إنا كنا نسكن بسنجار، وخيامنا هناك، وكان على فرسخين من حلتنا حلة بني أسد، وكان لي فيها ودّ كان لوالدي وصديق يقال له طراد بن خشرم، وكنت كثيرا أطرقه وأسلم عليه وعلى جماعة أودهم من الحلة، وإني طرقته أيها الأمير في بعض الأوقات فلما قربت من الحلة، وإذا أنا بعطعطة وزعقات، فأجريت فرسي فإذا أنا بأهل الحلة في حرب عظيم وأمر مهول، فتقدمت الى أول بيت لقيني فقلت: يا أهل البيت أنعموا صباحا، فخرجت وليدة سوداء فقالت: وأنت نعم لك الصباح، قلت: ما أوقع الحرب بين هذين الفيلقين؟ فقالت: إعلم أن طراد بن خشرم له ابنة يقال لها صيقل من أحسن النسوان، لم ير أحد مثلها، وأن خفاف بن ندبة كان ودا لوالدها وصديقا، وكان يطرقة كثيرا، ويقيم عنده، فرأته ابنته ورآها فتحاببا وتعاشقا، وزاد ذلك حتى فشا في الحي، فلما كان قريبا وجه يتهدده، ويقول له: والله لئن لم تزوجني لأكبسن الحلة ولأدوسنها ببني قشير، فقال له: ما أنت إلا أهل لذلك، ولكن قد فشا الحديث بين أهل الحي، وأنا أكره القالة القبيحة، فعاوده فسبه وخرج خفاف مغضبا يزأر، ولم نشعر به حتى طرقنا البارحة بسحرة، في بني أبيه من بني قشير وأحلافهم من عجلان وطئ، وقد طحنوا الحلة طحنا، فلما سمعت ذلك تهلزت للحرب، وأردت أري أهل الحلة شجاعتي وفروسيتي وتنكرت، واختلطت ببني أسد، ثم خرجت بين الصفين والقوم زردقا زردقا، فضربت ميمنة وميسرة وقلبا وارتجزت وقلت:
من منكم ينشط للنزول ... الى شجاع بطل بهلول
يفرق الجمع ولا يزول ... يرديكم من فوق ذي الخيول
حتى يغادي جيشكم مفلول
فانتدب لي شاب من بني عجلان يقال له حنظلة بن دارم فخرج وجال بين الصفين وقال:
أنا الشجاع البطل البهلول ... لتعلمن غب ما تقول
سوف أعممك على الفلول ... بصارم ليس يرى مفلول
وتدانى إلي وتدانيت إليه، وكف العسكران، وأحجموا ينظرون إلينا، فطال بيننا الضرب الى أن ضربته ضربة على حبل عاتقه حلت كتفه وأرديته عن فرسه وجريته الى أصحابي، وجلت بين الصفين وأنشأت وأنا أقول:
من شيمتي الكر على القبائل ... والخوض في دم الفتى المقاتل
إني أنا الفارس والحلاحل ... قبيلتي تسمو على القبائل
معروفة بالكر في الجحافل
فبرز لي رجل من طيء يعرف بهمدان بن عكرمة فجال بين الصفين وارتجز وهو يقول:
الحرب تارات أبا مقاتل ... لا تحسبني مثل ذاك الفاشل
لتعلمن أينا حلاحل ... وأينا يفلل الجحافل
ويقتل السادات في القبائل
ودنا مني ودنوت منه، وجرى بيننا أمر عظيم، وبدرني بضربة في قمتي كشطت من رأسي قطعة، وضربته ضربة في هامته قطعتها، وحمل أصحابه عليه فأخذوه واشتملت وجعلت أجول بين الصفين، فتغيظ مني أمير الجيش وهو خفاف بن ندبة، فقال: من هذا الذي قد فلّل جموعكم وقتل أبطالكم؟ قالوا: ما نعلم غير أنه بطل، فقال: دونكم فرسي الغضبان، فأتي بفرسه، فركبه وتدرع وخرج وهو غائص في الحديد وبارزني فتجاولنا ومضت بيننا عركات ورأيته ثبتا جريّ الجنان، قوي القلب لا رعديد ولا فشل، فلما لم يكن لي معه شيء خاتلته وأخذت من طريق الخديعة وقلت: أخذتك ورب الكعبة، وأريته أني أضرب رجليه فاشتغل بها فضربت يده أطرتها، ونفرت به فرسه فأردته، وحمل أصحابي فأخذوه وهو حي إلّا أن يده قد ذهبت ونصف ساعده، فلما علموا أن رئيسهم قد مضى وقع الصراخ والبكاء وانطفأ الحرب، وكفّ الناس وعملوا المواتيم، وأتيت طرادا فقلت له: ما هذه الحروب؟ فأخذ يحدثني وقال لي: لولا أن الله من علينا برجل لا أعلم من هو، غير أني رأيت دابته حنفاء ، وكانت فرسي حنفاء غير انه لم يكن مثلها في السباق والركض، فقلت له: إن رأيت الفرس حاسرا تعرفه قال: نعم فحدرت لثامي فقال: الله أكبر الأعسر ورب الكعبة مرحبا، وقام فقبل رأسي ورأس بني عمي، وكان صحبني من الحلة خمس من بني عمي كانوا معي في الحرب، وبقي خفاف تلك الليلة الى الصباح ينزف دمه، ولم تأت الظهيرة حتى قضى نحبه، ووقع في الحي البكاء والنحيب وفرغوا من أمره، وأخذ أهبته ودفن، وكثر البكاء والنحيب في بني قشير، وأقمت عند طراد ثلاثا، ثم ودعته في اليوم الرابع وقلت: المضي، قال والله لا أقمت عندي إلّا عشرا لأكرمك وأقضى بعض واجب حقك، فسأله بنو عمي الانصراف فأذن لهم بعد شدة، فأقمت أنا عنده يومين بعد ذلك، وكنت لا أصبر عن الشراب، إنما هو قوام حياتي، فقلت لطراد: اني أريد الشراب قال: وكرامة، وأنقذ فأتاني من بعض الحانات بشراب، فسمطت طعاما وشرابا على فرسي وخرجت ومعي عشرة من شباب بني أسد نتنزه ونشرب وأمعنا في السير الى أن وقعنا على موضع خضر نضر فيه شجر قد عرش، وزهر قد انفرش، وماء جار، وموضع طيب فشربنا على الغدير إلى قرب العصر، ثم فني شرابنا فكررنا راجعين فقال لي بنو عمي: ترغب في السباق إلى الحي؟ قلت: نعم، وطمعوا فيّ لأنهم رأوا دابتي حنفاء فأطلقنا أعنة خيولنا ومررنا سباقا الى الحلة، فسبقتهم أنا بأجمعهم بنحو الميل ووقفت على كثيب أحمر على ظهر الحلة على نشز منها أنتظر أصحابي، فأنا واقف إذ سمعت بكاء وشجى وحنينا وعويلا، فالتفت فأنا بجارية جالسة على قبر مبيض جديد، وهي تبكي بكاء شجي حرق وتندبه وهي تقول:
يا واحدا لست بناسيه ... نعى إليّ العيش ناعيه
والله ما كنت أرى أنني ... أقوم في الباكين أبكيه
والله لو لم يتقبل فدية ... لكنت بالمهجة أفديه
بيضت منك القبر يا سيدي ... لأنني لست بناسيه
عاذلتي في جزعي أقصري ... قد غلق الرهن بما فيه
فبهت أنظر إليها والى حسن وجهها، ورأيت ما لم أر مثله قط فحاذيتها، وأنشأت أقول:
جرى الدمع من عينيك كالسلك إذ ... وهى من العقد أو كالطل في ورق الورد
فخلت البكاء من رقة الخدّ أنه ... يؤثر من حر على صفحة الخد
فلو أنت أقصرت البكاء ودعيته ... لناداك بالحسنى وقام من اللحد
فلما علمت بي ردت البرقع على وجهها، فكأن الشمس كانت تحجبها بالغيم، وقالت اعدل عني يا عبد الله فما أنا لك بصاحبة فلا تكن طامعا، أما تستحي من ربك أن تنظر ما ليس لك بمحرم، ولحقني أصحابي وأنا في النار فقالوا: سبقت والله بالحنفاء أعيذك بالله، فقلت يا قوم دعوني فإني في حالة، قالوا من أيش؟ قلت: رأيت هذه الجارية فوقعت والله في نفسي، وقد شغلتني عن سائر أهلي، فقالوا: تدري هذه من؟ قلت: لا، قالوا هذه ابنة الأمير طراد، وهي التي وقع الحرب من جهتها، وهذا قبر خفاف، قلت: هذه صيقل؟ قالوا: نعم، وكان طراد سيدا في قومه يركب وحده ويرجع في خمسمائة عنان، وسرنا حتى دخلنا الحلة، وأنا كالمريض من جهتها، فأقمت عنده عشرة أيام، فلما كان اليوم الحادي عشر قلت: قد فعلت ما أمرت، وقد أحببت أن تضيف الى أياديك المخلوفة، وأفاعيلك المألوفة أن تشرفني، قال: بماذا؟ قلت: توصل حبلي بحبلك وتزوجني من الصيقل ابنتك، قال: حبذا والله أنت، ولكن ليس نجيب أحدا بعد الماضي، وإنما الحرب جرى من جهتها وفي سبيلها، ولكني أخاطبها ويكون بمحضر منك.
ثم أخذ بيدي أيها الأمير وأتى بي مضربها، فأجلسني برّا منه حيث أسمع ما يدور بينهما، ودخل اليها فقال لها: يا بنية، الأعسر ممن تعلمين فضله وكرمه وسؤدده، وقد أتانا خاطبا لك فلا تلجين وأنعمي، فبكت وقالت: والله لئن لم تتركني لأقتلن نفسي فعاودها دفعات وهي تأبى، فخرج وهو يشتمها ويلعنها، وخبرني فجزيته خيرا، وودعته وسرت وأنا قلبي عند الصيقل حتى أتيت أهلي ففرحوا بي وتباشروا، واجتمع أهلي وبنو عمي فقلت لهم:
مضيت من عندكم بقلبي ... وعدت مضنى بغير قلب
وكنت حيا فصرت ميتا ... من حسرة بي تشد كربي
كدت وحق الإله حقا ... والبيت والقاصدين سغب
أقضي من حرقة ووجد ... ولوعة في الفؤاد نحبي
حسبي يا صيقل بهذا لا ... تكثري في الجفا فحسبي
فبهت أهلي وأصحابي، وقالوا: ما الذي دهاك؟ قلت لا تنطق ، وأسرع فأحمل الى طراد جميع ما يطلبه وأطرح عليه جميع من قدرت عليه حتى يزوجني من ابنته، وحدثته الحديث فاغتنم وبكى، وأنفذ الى طراد يرغبه وأكثر له وهي تأبى أن تتزوج بأحد.
فأقمت مدة بأسوإ حال، ثم إني اشتقت اليها ذات يوم وطرقني خيالها ليلا، فغدوت أريدها فسرت على فرسي حتى أتيت الحلة، فشممت على قدر ميل نتن روائح وجيفة، فلما وصلت الى الحلة اذا بقتلى كثيرة بعضهم فوق بعض، وأهل الحي زردق زردق، ومحفل محفل في المواتيم والبكاء والنحيب، فتقدمت الى بيت لقيني فناديت يا أهل البيت أنعموا صباحا، فخرجت جارية كالمهاة، وقالت وأنت نعم لك الصباح ما تريع؟ قلت: ما طرق الحي، من بني أسد؟ قالت وهي تعصر عينيها من البكاء: طرقهم أسد أخو خفاف بن ندبة فسبى حريمهم وقتلهم وشردهم، وفعل بهم ما ترى قلت: فما فعل طراد وابنته صيقل؟ قالت أسرهما جميعا أسد وهما عنده، فبكيت لذلك، وأتيت أصدقائي في الحي فعزيتهم وهم يبكون فهمت نفسي أن أصير الى حي بني أسد لما أصابني من الحب والوجد، وأن أتحيل في تخليصها، فقلت لهم: وعلى كم فرسخ نحن من حي بني قشير؟ قالوا: ثلاثة فراسخ، فودعتهم وكان مغيب الشمس وسرت على العيوق والنسرين أطلب قاع الريح، وكانوا بها نازلين، فلم يمض الثلث من الليل حتى أشرفت على الحي واذا الخيام والقباب والأحمال كالكواكب، ولم أصل الى الحي حتى أطفئت المصابيح وهدأ النبيح، وكانت ليلة مقمرة، فنظرت والحي هاد الأخبية مطنبة الى جوانب الجدرانات، فحملت في واد كثير العوسج والمدر فاختفيت فيه، ثم اني فكرت وحسبت من الأسد، فارتقيت في أعلى شجرة دوم أتنظر راعي غنم، راعي إبل، بعض عجائز الحي ممن يخرج يلتقط الحنظل، فاني لكذلك، وإذا بجويرية سمراء قد أقبلت ومعها عباء فبسطتها وأقبل معها شاب فبركا جميعا يتحادثان ويتشاكيان أطيب من قضم السكر، ومن الشهد المصفى، فأقاما على ذلك ساعة من الليل، ثم قال يا بصيرة ارقدي حتى نرقد ساعة، قالت: والله يا محبوب ما الى ذلك من سبيل لأني مع النسوان الذين قد وكلوا بحفظ الصيقل، فأصغيت حينئذ اليها، فقال لها: والله ما بد لي من ذلك، ثم أكرهها، ورقدا جميعا فمكثا هويا من الليل، ثم قاما، وعاد الرجل الى نومه، وقامت الجارية فنزلت فاعترضتها في سنم الوادي، فقلت لها: ممن أنت؟ قالت من هذا الحي، قلت اجلسي أتعرفيني، قالت: لا، قلت: أنا الأعسر وقد رأيتك وما صنعت مع محبوب. فاكتمي عليّ أكتم عليك، قالت: قل يا انسان فو الله لا تقول شيئا بعد ما رأيتنا الا ويكون عندي كقول الشاعر:
جعلت فؤادي مقرا لسرارة ... فما أن له طول الزمان ظهور
كذا الميت لا يرجو الخروج ولا ... اللقاء ولا النشر إلّا أن يكون نشور
قلت: جزاك الله خيرا، إعلمي أن هذه الصيقل حبتي، وقد أتيت الليلة أريد أخنسها فأريد أن تتوصلي اليها وتقولين لها: ان الأعسر بوادي الاراك ومعه دابته الحنفاء، وموعدك الشجرات فاخرجي، قالت: وكرامة ومضت وأتيت أنا الوادي فعقلت فرسي وأنفقت بالرجل فقال: ممن أنت؟ فأعلمته أني قد رأيتهما وقلت: حدثني حديثك، قال: أعلم أن هذه ابنة عمي وان أسد- لعنه الله- أغار علينا، ونحن من بني كنانة فأخذ نسوان جماعة استعبدهم منهن ابنة عمي، وكنت أجد بها وجدا عظيما، فلما فقدتها ضاقت علي الأرض بما رحبت، ولم أزل أتوصل حتى خدمت أخاه خفافا في غنمه، فكنا نجتمع في كل ليلة، فلما قتل خفاف صرت معه وقد رضيت منها بهذا، ولا أقدر أخنسها لئلا يتبعنا ويأخذ وله عيون ومراصد، فقد قنعت بهذا، وبكى فرحمته، وأنا أحدثه اذ زعق أفزعني فنظرت فاذا أفعى عظيم أسود سالخ قد لدغه، فاضطرب ساعة وخمد فأصابني والله أمر عظيم، ووقفت بصف الطريق أتنظر النصيرة، واذا بها قد أقبلت فقالت: سوف أخرج، وهي والله فرحانة بذلك، فعرفتها أمر حبيبها المسكين، فبكت بكاء عظيما، وغشي عليها دفعات وأفاقت فتركتني ومضت الى الحي، ثم ركبت فرسي وقد مضت الكواكب، وبدت كواكب السحر تتحدر، واذا بصوت الحديد وخشخشته، واذا بها قد أقبلت في نسوان جماعة فلما وقفت بي، علمت موضعي فقالت: بالله يا أخوات قفن غير صاغرات حتى أقضي حاجة، قلن والله لئن جاء وعلم باخراجك ليقتلنا، قالت لهن: وأين خرج؟ قلن خرج الى ابن عم له عليه مال يريد قبضه ولعله يغيب يومه أو يوما وليلة، فقالت لهن: فلست أتأخر، قلن: فامضي فدخلت إليّ فقالت: فك قيدي، فتمطيت في قيودها فقطعتها وأركبتها الحنفاء وأنا أسير خلفها عريان إلّا سراويل عليّ شاهرا سيفي وأبطت عن النسوان فنذروا بنا فتزاعقوا وتصارخوا، وقام أهل الحي فركبوا خيولهم، فبين مسرج وملجم ومزعج ومرهج فامتد خلفنا ثلاثمائة عنان بين أيديهم العبيد بالحجارة يرمونا، وأنا أعدو فكلما علمت أنهم قد قاربوني أتقدم اليهم فأقتل واحدا واثنين وأعطي رجلي الريح، فقطعتهم على ذلك فرسخين، ثم صحت بها خذي عرضا فانك على غلط، فأخذت عرضا وسرنا وهم خلفنا فصرنا قريبا من الحلة، واذا صوت حوافر، فلم نشعر إلّا وقد طلع أسد في مائتي رجل من قومه شاكين في السلاح، عليهم السكينة والوقار، فلما سمعوا الزعقات أمسكوا أعنتهم وحبسوها، وأحجموا ساعة حتى عرفوا أصحابهم، وفطنت أنا بذلك فصحت بها الحقي بأهلك فأنت قريبة منهم، فأطلقت للفرس عنانه فمر كالريح الهبوب، أو كالماء السكوب حتى دخلت الحلة، واجتمع عليّ الفيلقان وداروا بي كالإكليل، ولما دخلت الصيقل الحي أنذرت أهلها فركبوا على كل صعب وذلول، واستنجدوا ببني تميم أحلافهم، وساروا نحوي فلحقوا بي، فقاتلوا عني حتى خلصوني وفيّ ضربة مثخنة في كتفي، وأنا أقاتل فساعدني القوم فقتلنا منهم مقتلة عظيمة، وأسرنا أسدا وانهزم الباقون، وأخذته أقوده الى الحي، فلما أدخل وقعت البشارة وفرحوا فرحا تاما، فأقام محبوسا ثلاثة أيام ونفذ بنو قشير يسألوني أن أخلص أسد فقلت: لا أفعل أو يدفعون الى طرادا ومائة ناقة حمرا بحلالها قالوا: لا ولكن ندفع اليك طرادا، قلت: لا إلّا ومائة ناقة، فلما رأوا مني التصعب أنفذوا الي طرادا ومائة ناقة فسرحت أسدا، ووقع الفرح في الحي وتشكر لي سائر أهل الحي وأقمت عشرة أيام وأنفذت الى طراد أسأله التزويج فكلمها، فأبت فعاودها دفعات فأبت فكتبت إليها بشعر هذا وأومأ الى أبي الطيب المتنبي .
أرى ذلك القرب صار إزورارا ... وصار طويل السلام اختصارا
تركتني اليوم في حيرة أموت ... مرارا وأحيى مرارا
أسارقك اللحظ في خفية ... وازجر في الخيل مهري سرارا
فلما قرأت ذلك ووقفت عليه لم تجبني عليه، وأبت وقد رحلت بها وبأبيها اليك أيها الامير- أطال الله بقاءك، وأدام نعماءك، وكثر في العلو ارتقاءك- وأنا وأبوها نسألك أن تنفذ اليها فتسألها أن تجيب أو تحتم عليها، فاستحسن حديثه سيف الدولة ورحمه وكل من حضر، وأنفذ الى الصيقل فأمرها بالطاعة والتزويج فقبلت، فزفت في دار سيف الدولة الى الأعسر، وأقاما في كنك سيف الدولة في رفاهية من العيش حتى أتاهما اليقين.
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)