إسماعيل بن مفروج بن عبد الملك بن ابراهيم:
أبو العرب، ويعرف بابن معيشة الكناني السّبتي، من أهل سبته ، بلدة بالمغرب، وهو من الملثّمة الباديسين، أديب فاضل متكلم، شاعر مجيد، كاتب بليغ، قدم حلب وأقام بها مدة، ومدح بها الملك الظاهر غازي ابن يوسف.
روى عنه: أبو عبد الله بن الدبيثي الواسطي، والفقيه علي بن ظافر بن أبي المنصور الاسكندراني، وروى لنا عنه شيئا من شعره الخطيب تاج الدين أبو عبد الرحمن محمد بن هاشم خطيب حلب، وأثنى عليه، وقال لي: كان من نوادر الزمان، وكان على غاية من الفضل والعلم.
قال لي: وخرج هاربا من المغرب وركب البحر، فرماه الهواء الى اللاذقية، فسأل عن أقرب البلاد اليه، فدلّ على حلب، فسار اليها ودخلها، ومدح بها الملك الظاهر غازي.
قال لي: وكان على غاية من الكرم والجود، وحضرت يوما معه وهو في حمام النطاعين بحلب، ورجل يخاصم ناطور الحمام على شاش علم ضاع له في الحمام، وكان على رأسه بقيار مثمن خلعه عليه الملك الظاهر، فالتفت اليه وقال له: اسكت فأنا أقاسمك على البقيار الذي على رأسي، فظن أنه يسخر منه، فقال له: والله ما أقول لك إلّا حقا، واستدعى منه سكينا وقطع البقيار بينه وبينه.
قرأت في كتاب بدائع البداية تأليف الفقيه أبي الحسن علي بن ظافر بن أبي المنصور قال: وأخبرني الفقيه أبو العرب بن معيشة الكناني السبتي قال: أخبرني شيخ من أهل اشبيلية كان قد أدرك دولة آل عباد، وكان عليه آثار كبر السن، ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق، وينطق بأن قوله الحق، قال: كنت في صباي حسن الصورة بديع الخلقة لا تلمحني عين أحد الا ملكت قلبه وخلست خلبه، وسلبت لبه، وأطلت كربه، فبينا أنا واقف على باب دارنا اذا بالوزير أبي بكر بن عمار قد أقبل في موكب زجل على فرس كالصخرة الصماء قدّت من قنة الجبل، فحين حاذاني ورآني اشرأب الي ينظرني، وبهت يتأملني، ثم دفع بمخصرة كانت بيده في صدري وأنشد:
كفّ هذا النهد عني ... فبقلبي منه جرح
هو في صدرك نهد ... وهو في صدري رمح
أنشدني الخطيب محمد بن هاشم قال أنشدني إسماعيل بن معيشة أبو العرب المغربي لنفسه بحلب في الملك الظاهر:
جنب السرب وخف من أن تصد ... أيها الآمل جهدا أن يصد
واجتنب رشقة ظبي إن رنا ... أثبت الأسهم في خلب الكبد
ثعلى الطرف طائي الحشا ... مازني الفتك صخري الجلد
أهيف لاعبه من شعره ... أرقم ماس على خوطة قد
جادها الحسن يحتفي ردفه ... برذاذ الورد من تغييم ند
فانثنت غصنا ومن أزهاره ... بدر تم حلّ في برج الفند
منعته عقربا أصداغه من ... حنا لثم ومن تخميش يد
وحسام من لحاظ خلته ... صارم الظاهر يوم المطّرد
ملك قامت له هيبته ... عوض الجيش وتكثير العدد
خطب الحرب فولى عقدها ... مرهف الهند فأمضى وعقد
جعل المهر لها خوض الوغا ... وطلا تقطف أو كفا تقد
فأتت عذراء تجلى وأتى ... يسحب اللامة ليثا ذا لبد
لبس الدرع فقلنا غصن ... غاص في جدول ماء فجمد
أو هلال قد تردّى حندسا ... فبدت غرته دون الجسد
وثنى الرمح فقلنا أرقما ... طلبت نصرته كفّ الأسد
وامتطى من طرفه ذا حسب ... مايع الجلده سباح العضد
سابق الافلاك في سرعتها ... برهان فحوى سبق الأمد
فأتى في حلة من شفق ... طفت الشهب عليها كالزّند
علق الفرقد في جبهته ... والثريا في عذار فوق خد
وأرانا سرجه شمس الضحى ... فحسبنا أنه برج الأسد
كتب إلينا الحافظ أبو عبد الله الدبيثي الواسطي قال: إسماعيل بن مفروج ابن عبد الملك بن إبراهيم الكناني، أبو العرب الباديسي المغربي، منسوب الى بلدة بالمغرب تسمى باديس ، شاب فاضل كاتب له معرفة حسنة بعلم الكلام والادب، وله شعر جيد، فدم بغداد، وأقام بها، وتكلم مع جماعة من أهلها في علم الكلام، وجالس العلماء، وناظر، وانحدر منها الى واسط، ولقيته بها، وسمعت منه قصائد من شعره وأناشيد لغيره، وصار منها الى البصرة، وتستر، وعاد الى بغداد، ثم توجه الى بلده فأدركه أجله قبل وصوله اليه، ويقال قتل في طريقه والله أعلم.
كذا قال ابن الدبيثي «منسوب الى بلدة بالمغرب تسمى باديس» ، وهو وهم فاحش، وباديس اسم رجل ينتسب اليه جماعة من الملثمة، وفيهم ملوك منهم: تميم ابن باديس ، وهذا سبتي وباديس التي هي المدينة ليس هذا منها، والله أعلم.
قال لي الخطيب أبو عبد الرحمن بن هاشم: سار ابو العرب بن معيشة الى بلد الروم، ثم عاد منه، وصعد الى مصر في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فوجد فيها الحكيم أبا موسى اليهودي، وكان قد أهدر دمه في بلاد المغرب لفساد ظهر منه، فاصطنعه أبو العرب وهربه منها، فنمى خبره الى ملك المغرب، فطلب أبا العرب، فهرب وحصل في نفس أبي موسى منه شيء، فرشا انسانا بمال جزيل، فترك أبا العرب على شاطىء النيل وأتاه من خلفه فضربه بخشبة عظيمة، فسقط في النيل فمات.
قال لي: وقيل: انما فعل به أبو موسى اليهودي هذا لأن ابا العرب كان عرف من حاله أنه أسلم في بلاد الغرب، وحفظ القرآن، فشهد عليه بذلك، وأراد اقامة البنية عليه، ففعل به ذلك .
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)