حسن بن محمد نجم الدين بن كمال الدين

أبي محمد بن كمال الدين القرشي القرطبي الصفدي الشافعي

تاريخ الولادة658 هـ
تاريخ الوفاة723 هـ
العمر65 سنة
مكان الولادةالكرك - الأردن
مكان الوفاةغير معروف
أماكن الإقامة
  • الكرك - الأردن
  • دمشق - سوريا
  • صفد - فلسطين

نبذة

كان فارساً منبر، وإمام من برى قلما ومن بر، ناظماً ناثرا، يجري في ميدان البلاغة فما يرى جواد قلمه عاثرا. كتب الإنشا، وتصرف فيه كيف شا، مع أمانة لا يرى من التكلف في وجهها كلف، وديانة لا يلمح في رونقها تصنع من صلف، وكرم بموجوده الحاضر وود يخجل من حسنه خد الورد الناضر، وصدق لهجه، وقول حق ولو أن فيه تلاف المهجه. وكان شعاره أشعريا، وعلمه عن التقليد عريا، فكم كان عنده من التقليد أدلة وبراهين إذا أوردها كأنها له طبيعة وجبله

الترجمة

حسن بن محمد
الشيخ الإمام الفاضل البليغ المنشئ الكاتب نجم الدين أبو محمد بن الشيخ كمال الدين القرشي القرطبي الصفدي الشافعي الخطيب بصفد.
كان فارساً منبر، وإمام من برى قلما ومن بر، ناظماً ناثرا، يجري في ميدان البلاغة فما يرى جواد قلمه عاثرا. كتب الإنشا، وتصرف فيه كيف شا، مع أمانة لا يرى من التكلف في وجهها كلف، وديانة لا يلمح في رونقها تصنع من صلف، وكرم بموجوده الحاضر وود يخجل من حسنه خد الورد الناضر، وصدق لهجه، وقول حق ولو أن فيه تلاف المهجه.
وكان شعاره أشعريا، وعلمه عن التقليد عريا، فكم كان عنده من التقليد أدلة وبراهين إذا أوردها كأنها له طبيعة وجبله، ومسائل أصول إذا سردها قلت هذه سحائب مستهله، لم أر بعده من يقول: أيها الناس أفصح منه، ولا من خطب زان منبره ولم يشنه، يؤدي الألفاظ بتجويد حروفها، ويذكر القلوب القاسية بما نسيته من خطوب الدنيا وصروفها، كم جعل العبرات على الخدود وهي هوامي هوامع، وكم غادر العيون وهي دوامي دوامع، شدت الفصاحة لحييه، وسدت البلاغة نحييه، تزور في الموعظة حدقتاه، وتحمر لفرط الحرص على القبول وجنتاه، كأنه منذر جيش، أو منكر طيش.
وكانت له في البحث سلطه، وغلظة على خصمه لا تصحف بغلطه، وله قدرة على التعليم، وفراسة في وجه التلميذ إذا أخذ قوله بالتسليم، يعلم من الطالب إذا فهم، ولا يخفى عليه إذا بهم، فلا يزال يغير له الأمثلة، ويدير الأسئلة إلى أن تتكشف عنه الغيابه، ويظهر له أنه حصل على العنايه.
ولم يزل يذكر بوعظه ويحبر بلفظه إلى أن رمي تفيهقه بالصمات، ونزلت بذويه سمات الشمات.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده بالكرك سنة ثمان وخمسين وست مئة.
كان والده الشيخ كمال الدين خطيب قلعة صفد، وكان ينوب عن والده ويكتب الإنشاء، ويوقع عن النواب بصفد، فلما قدم الأمير سيف الدين بتخاص إلى صفد نائباً حضر معه القاضي شهاب الدين أحمد بن غانم، وكان زين الدين عمر بن حلاوات قد قدمه الشيخ نجم الدين وجعله يكتب عنده، فما زال يسعى إلى أن وقع الاتفاق بينهم وبين القاضي شرف الدين النهاوندي وغيره، وقرروا الأمر مع النائب إلى أن قطع الشيخ نجم الدين من التوقيع، وبقي بيده خطابة الجامع الأموي، ثم إنهم صادروه، حتى توجه خفية إلى دمشق، وكان الأمير سيف الدين بلبان بدمشق مشد الدواوين، وهو يعرفه من صفد، فاستخدمه موقعاً بدمشق، وكتب قدامه، وكان القاضي محيي الدين بن فضل الله يأمن إليه ويقدمه ويستكتبه في السر وغيره، وأضيف إليه خطابة جامع جراح بدمشق. ولما تولى الأمير سيف الدين كراي نيابة دمشق كان يعرفه من صفد ويركن إلى أمانته وعفته، فقلده الأمر وغدقه به، فتعب بذلك تعباً مفرطاً ونصح مخدومه، فكان لا يعلم لا من يده، فعادى الدماشقة ومقتوه، ولما أمسك كراي اختفى وسلمه الله منهم لما سلكه من الأمانة والعفة. أخبرني من لفظه قال: رددت ليلةً مئتي دينار، ورهنا تلك الليلة طاسةً على زيت القنديل.
ولما حضر الأمير جمال الدين نائب الكرك إلى دمشق أغروه به، وأرادوا منه الإيقاع به، فقال: أخذ لأحد شيئاً؟ فقالوا: لا، قال: فما أصنع به إذا نصح لمخدومه. ثم إنه جهز إلى صفد خطيباً وموقعاً، وكان زين الدين بن حلاوات قد انفرد بالأمر وتمكن من نواب صفد، ودخل إلى النائب وقرر معه ما أراد، فلم يمكنه من مباشرة شيء، فبقي في صفد إلى أن حضر له توقيع ثان، وكلما حضر له توقيع عطله، إلى أن أشركوا بينهما في التوقيع والخطابة، فأقاما مدة، فوقع بينهما، فطلبا إلى دمشق، وقرر الأمير سيف الدين تنكز أن يخيرا وينفرد كل واحد بوظيفة، فاختار الشيخ نجم الدين خطابة القلعة والمدينة، واستقر زين الدين بن حلاوات في التوقيع، فأقام يخطب ويشغل الناس تبرعاً، وتخرج به جماعة فضلاء، وقل من قرأ عليه ولم ينبه، ولم أر مثل في مبادئ التعليم، كان يفتق أذن المشتغل، ويوضح له طرق الاشتغال، ولم أر مثله ف تنزيل قواعد النحو على قواع المنطق، وكان يحب إفساد الحدود والمؤاخذة فيها والرد عليها والجواب عنها.
وممن قرأ عليه أولاً العلامة القاضي فخر الدين المصري وغيره.
وكان لي منه - رحمه الله تعالى - نصيب وافر من المحبة، وكنت أجد منه حنواً كثيراً وبراً، ولم أقرأ على أحد قبله، وكان شديد المحبة لأصحابه، شغوفاً عليهم صادق اللهجة، مفرط الكرم، وكانت بينه وبين الشيخ صدر الدين قرابة، وكان هشاً بشاً بساماً، وعمته مليحة، ولم أر أعف يداً ولا فرجاً منه، وكان خطه مليحاً ونظمه سريعاً، ونظمه أرشق من نثره، ولم أره يخطب بغير الخطب النباتية. وكان جيد المشاركة أشعري العقيدة، شافعي المذهب، يحب الكتب ويبالغ في تحصيلها ويحرص على المنافسة فيها، ولكنه كان مقلاً من الدنيا ماله غير علومه. قال: ما أعرف أنه وجبت علي الزكاة في عمري. رأيته بعدما مات رحمه الله في المنام بمدة، فقمت إليه وقبضت على يده بعدما قمت إليه وصافحته، وقلت له: قل لي ما الخبر؟ فقال لي: لا تعتقد إلا وحدانيته، فقلت له: هذا شيء قد جبل عليه اللحم والدم، فقال: ولا بأس مع الفاتحة سورة أخرى من القرآن، وقصيصات الناس، فعلمت بذلك أنه قد نصحني حياً وميتاً، لأنه كان في حياته رحمه الله تعالى يتوقف في توقيعه ويتحرى ويتحرز كثيراً فيما يكتبه، ولا يكتب إلا ما هو سائغ، فكان صاحب القصة يتعذر عليه مطلبه.
ولما توفي رحمه الله تعالى كنت في حلب فحصل لي بسببه ألم عظيم إلى الغاية، وكتبت إلى ولده كمال الدين محمد وإلى غيره من الأصحاب مراثي كثيرة نظماً ونثراً، ثم جمعت ذلك وسميته ساجعات الغصن الرطيب في مراثي نجم الدين الخطيب. ومما نظمته فيه قولي:
يا ذاهباً عظمت فيه مصيباتي ... بأسهمٍ رشقت قلبي مصيبات
قد كنت نجماً بأفق الفضل ثمّ هوى ... فاستوحشت منه آفاق السّموات
سبقت من بات يرجو قرب خالقه ... ولم تزل قبلها سبّاق غايات
بكى الغمام بدمع الودق مذ عقدت ... حمائم البان من شجوي مناحات
ولطّم الرّعد خدّ السّحب وانتشرت ... ذوائب البرق حمراً في الدّجنّات
أصمّ نعيك سمعي من تحقّقه ... وهان ما للّيالي من ملمّات
جنحت فيه إلى تكذيب قائله ... تعلّلاً بالأماني المستحيلات
وكدت أقضي ويا ليت الحمام قضى ... حسبي بأن الأماني في المنيّات
وراح دمعي يجاري فيك نطق فمي ... فالشان في عبراتي والعبارات
إن أبدت الورق في أفنانها خطباً ... فكم لوجدي وحزني من مقامات
جرحت قلبي فأجريت الدموع دماً ... ففيض دمعي من تلك الجراحات
لو كنت تفدى رددنا عنك كلّ أذىً ... بأنفسٍ قد بذلناها نفيسات
فآه من أكؤسٍ جرّعتها غصصاً ... وقد تركت لنا فيها فضالات
نسيت إلاّ مساعيك التي بهرت ... عين المعالي بأنوارٍ سنيّات
ومكرماتٍ متى تتلى مدائحها ... تعطّر الكون من ريّا الرّوايات
وفضل حلم تخف الراسيات له ... وعز علم علا السبع المنيرات

وكم مناقب في علمٍ وفي عملٍ ... أضحت أسانيدها فينا صحيحات
ومنها:
فأين لطفك بي إن هفوةٌ عرضت ... كأنّما حسناتي في إساءاتي
وأين فضلك إن وافى أخو طلبٍ ... فتخجل الغيث من تلك العطيّات
نبكي عليك وقد عوّضت من كفنٍ ... أُلبسته بثيابٍ سندسيّات
وما تلبّثت في مثوى الضريح إلى ... أن صرت ما بين أنهار وجنّات
تصافح الحور والولدان منك يداً ... كم أظهرت في النّدى والفضل آيات
من ذا يعيد دروس النحو إن درست ... ربوعها بالعبارات الجليّات
ومن لعلم المعاني والبيان ومن ... يبدي بعلميهما سرّ البلاغات
ومن يزفّ عروس النظم سافرةً ... قد حلّيت بعقودٍ جوهريّات
إذا أُديرت على أسماعنا خلبت ... ألبابنا بكؤوسٍ بابليّات
ويرقم الطّرس أسطاراً فنحسبها ... سوالفاً عطفت من فوق وجنات
ومن إذا بدعةٌ عنّت يمزّقها ... سطا براهينه بالمشرفيّات
وإن أتت مشكلات بعدما اتضحت ... وأقبلت كالدياجي المدلهمات
نضى نصول أصول الدين لامعة ... فيقطع الشّبهات الفلسفيّات
ومن يفيد الورى في علمه حكماً ... تجلى ويبدي رياضاً في الرياضات
ومن يذيب دموع العين من أسفٍ ... إذا ارتقى منبراً بين الجماعات
ويوقظ الأنفس اللائي غدت سفها ... من لهوها والتّصابي في منامات
وتقتفيه إلى العرفان تاركةً ... قبيح ما ارتكبته من غوايات
ليهن قبرك ما قد حاز منك فما ... ضمّت حشا كلّ قبرٍ طاهر الذات
وجاد تربتك الغرّاء ساريةٌ ... تحلّ فيها العقود اللولويات
وكلّ يومٍ تحيّاتي تباكرها ... فتفضح النّسمات العنبريات

وكتب هو يوماً إلي وقد فارقته متأذياً:
بالله لا تغضب لما قد بدا ... فأنت عندي مثل عيني اليمين
ما أتعب النفس سوى من غدا ... يجحد ما أوليته أو يمين
وأنت عندي جوهرٌ قد صفا ... من دنس الذّمّ نفيسٌ ثمين
ووالذي يعلم ما قلته ... إخبار من أخلص في ذي اليمين
ما حلت عن حسن الوفا في الهوى ... وأنت في هذا المكين الأمين
نسأل الله أن يحرس تلك الروحانية الطاهرة من الكدر إن شاء الله تعالى، فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
بررت فيما قلت يا سيّدي ... ولست تحتاج إلى ذي اليمين
والله لم أغضب وحاشى لمن ... أراه عندي مثل عيني اليمين
ولم يكن غيضي إلاّ لمن ... يمين عن طرق الوفا أو يمين
ويفتري الباطل في قوله ... عني وليس الناس عنه عمين
ويظهر الودّ الذي إن بدا ... ظاهرة فالغشّ فيه كمين
فغثّه غثّى نفوس الورى ... ممّن ترى والسمّ منه سمين
وكتب إلي من صفد وأنا بدمشق كتاباً نظماً ونثراً عدمته، وكتبت الجواب في سنة ثمان عشرة وسبع مئة:
تذكّرت عيشاً مرّ قدماً وقد حلا ... وربعاً عمرناه بلهوٍ وقد خلا
فهاجت لي الذّكرى غراماً ألفته ... وشنّت على الأحشاء حرباً مقسطلا
ولله صبري في الرّزايا فإنّه ... جميلٌ ولكن خان فيكم وبدّلا
وقيل أتبكي في دمشق من الأسى ... وإن حلّ جيش الهمّ فيه ترحّلا

زماناً تقضّى أو ربوعاً تطاولت ... عهودك منها وانمحت بيد البلى
ففاضت جفوني بالدموع لقولهم ... وقلبٌ له أبكى حبيباً ومنزلا
وهل نافعي أنّ الرياض تدبّجت ... بساحتها أو صوت قمريّها علا
وللورق من زهر الرياض مجامرٌ ... إذا حركت عوداً تحرّق مندلا
وقد راح منها الدوح لابس حلّة ... وصاغ من الأزهار تاجاً مكلّلا
وغنّى حمام الأيك ثمّ تراقصت ... غصونٌ سقتها الريح كاساتها ملا
فمالت سكارى ثمّ صفّق جدولٌ ... فألقت عليها من معاطفها الحلى
فمن جدولٍ أضى حساماً مجرّدا ... ومن هيف أغصانٍ تحرّك ذبّلا
وللبين في الأحشاء ما لو أقلّه ... يثير قليلاً ملّ ثمّ تململا
كأنّ اجتماع الشّمل عقدٌ تعلّقت ... بأسلاكه كفّ النّوى فتفصّلا
ففارقت مخدوماً حمى الله ربعه ... من الدهر يوماً ما أبرّ وأجملا
سقاني طفلاً قهوة العلم والنهى ... وزاد إلى أن طال قدري واعتلى
وألبسني لمّا اتّصفت برقّة ... من الفخر والعلياء مجداً مؤثّلا
وكم نعمٍ لو رمت تعدادها أبت ... وكانت من الإحصاء للذرّ أسهلا
إذا غبت عن أبوابه فهباته ... إليّ كأنفاس النّسيم توصّلا
وإن قذفتني غربةٌ كان جوده ... سحاباً يوافيني فأعطى ونوّلا
ووافى في كتاب منه من بعد جفوة ... فأضحى به دمعي على الخدّ مرسلا
لقد أنشأته راحةٌ كفّ كفها ... من الخطب ما أعيى الأنام وأعضلا
تمنى ملثّ الغيث لو كان بطنها ... وودّت بها الأنهار لو كن أنملا
على أن كتبي لا تزال كتائباً ... أُلاقي بها في ساحة الوجد جحفلا
أقبّل فيها الأرض أعني مؤدّيا ... بذلك فرضاً ما أراه تنفّلا
وإن كان في الأحشاء ما يمنع الفتى ... من الوجد والتّبريح أن يترسّلا
فلا زال محروس الجناب مظفّرا ... بأعدائه ما هيّج الشوق مبتلى

فكتب الجواب عن ذلك رحمه الله تعالى: يقبل الباسطة ألهمها الله الوفاء لمن وفى بعهوده، وأطلع نجمها المتقد في مطالع سعوده، وأعاد غصنها إلى منبت سما منه رافلاً في خلع بروده، مثمراً بدوحة منشئه الذي ما يفتح ورده إلا لما سقي ماء ورده عند وروده، وينهي بعد وصف شوقه الذي تطاول عليه ليله فادلهما، ولمع في دجنته بارق اللواعج فأضرم بين الجوانح نيران الخليل لما، وأجرى من جفنه القريح طوفان نوح فلأجل ذلك هجره الوسن ومن بعد الهجران به ما ألما، وكابد فؤاده هما، ووالذي يعلم خائنة الأعين بالسلو ما هما، وعاهده على الأخذ بسنة الصبر الجميل فلم يف بعهد " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً "، وأراد القلم أن يصف ما وجد بعد البعد من الأسف نثراً، فأبت البلاغة إلا أن يكون نظما، وهو:
نأيتم فأمسى الدمّع منّي مورّدا ... على صحن خدّ صار بالسّقم عسجدا
إذا ما بدا في وجنتي منه صيّبٌ ... رأيت من الياقوت نثراً مبدّدا
وإن نظمته فوق نحري صبابةٌ ... تبيّنت عقداً بالشذور منضّدا
وما حثّه إلا بريقٌ تتابعت ... لوامعه يبدين نصلاً مجرّدا
وكم أذهب التذهيب منه حشاشةً ... وأودع حزناً في الفؤاد مجدّدا
بدا من سفيرٍ مستطيرٍ ضياؤه ... فآنست ناراً في الدجنّة مذ بدا
وأمى فؤادي كالكليم ولم يجد ... على النار لما أن تحقّقها هدى
وكيف اهتداء الصبّ والقلب والهٌ ... وإدراكه مذ غبت عنه مشرّدا
يهيم إذا هبّت نسيمة جلّق ... ويصبوا إذا ناح الحمام وغرّدا
ويذكر أياما تقضّت بسفحها ... فيبدئ نوحا في الظلام مردّدا

ليالي تحكي الروض في حلل الحيا ... وغضن النقا يبدي عليه تأوّدا
تبسّم ثغر الزهر لمّا بكى أسىً ... ولاح كصبحٍ بالظلام قد ارتدى
أأحبابنا غبتم فكم لي وقفةٌ ... على صفدٍ والقلب مني تصفّدا
وكم لي بهاتيك الطلول مواقفٌ ... وقفت عليها الدمع إذ رحت منشدا
تناءى خليلٌ يا خليليّ فاسعدا ... بدمعٍ يضاهي المزن إن كنت مسعدا
وأبدى صدوداً والصدود ملامةً ... وأنجز هجراناً وأخلف موعدا
كذا شيمة الدهر الخؤون ودأبه ... يخون وفيّاً أو يكدّر موردا
وأنشدني لنفسه على طريق ابن رشيق في الأبيات المشهورة:
ولقد ذكرتك بين مشتجر القنا ... والموت يختطف النفوس بمخلب
وأسنّه المرّان مثل كواكبٍ ... تبدو أشعتها بظلمة غيهب
ولوامع البيض الرقاق كأنّها ... برقٌ تألّق مذهباً في مذهب
والحتف قد لعبت كؤوس مدامه ... بعقولنا والذّكر غاية مطلبي
وأمرني أن أنظم على هذا الأسلوب فقلت:
ولقد ذكرتكم بحربٍ ينثني ... عن بأسها الليث الهزبر الأغلب
والصّافنات بركضها قد أنشأت ... ليلاً وكلّ سنا سنانٍ كوكب
والبيض تنثر كلّما نظم القنا ... والنّبل يشكل والعجاج يترّب
وحشاشة الأبطال قد تلفت ظماً ... ودم الفوارس مستهلٌّ صيّب
والنفس تنهب بالصّوارم والقنا ... وأنا بذكركم أميل وأطرب
وكتب يوماً في الاعتذار من وداع الحبيب:
يوم الوداع بدت شواهد لوعتي ... نار الخليل تشبّ في الطوفان
وأردت أعتنق الحبيب فخفت أن ... يغشاه يمٌّ أو لظى نيران

وطلب مني أن أنظم شيئاً في هذه المادة فقلت:
لم أطّرح يوم الوداع عناقه ... مللاً ودمع المقلتين سكوب
إلا مخافة أن يفترّ عن ... بردٍ وتبدو حرقتي فيذوب
ومن نظمه وقد أهدي إليه قراصيا:
يا سيّداً أصبحت كفّاه بحر ندىً ... تولي سحائبه الأنعام والقوتا
كنّا عهدنا اللآلي من مواهبه ... واليوم ننظرها فينا يواقيتا
ومنه وقد أهدي إليه بطيخ أصفر:
أهديت شيئاً يروق منظره ... ماءً تبدّى في جامد اللهب
أو شمس أفقٍ قد كوّرت فبدا ... شعاعها مثل ذائب الذهب
لما تبدّت لها بروق مدىً ... أبدت حشاها أهلّة الشّهب
وكم أرتنا القسيّ من قزحٍ ... مبشّراتٍ بواكفٍ سرب
أخضرها قد زها بأحمرها ... كورد خدّ بالآس منتقب
وأرشقت من عقيق مبسمها ... خمرة ريقٍ أحلى من الضّرب
فبتّ من نشوةٍ بها ثملاً ... أهزّ عطف السّرور من طرب
ومذ ترشّفت برد ريّقها ... خلت فؤادي العزيز في حلب
ومنه، وقرأته عليه، ونقلته من خطه:
سرى برق نعمان فأذكره السّقطا ... وأبدى عقيق الدمع في خده سمطا
فلاح كسيفٍ مذهبٍ سلّ نصله ... وروّع وسميّ السّحائب فانحطا
وأدّى رسالاتٍ عن البان والنّقا ... وأقرأه معنى الغرام وما خطّا

وأهدى إليه نسمةً سحريّةً ... أعادت فؤاداً طالما عنه قد شطّا
تمرّ على روض الحمى نفحاتها ... فتهدي إلى الأزهار من نشرها قسطا
وتنثر عقد الطلّ في وجناتها ... فتظهر في لألاء أوجهنا بسطا
وتطلع منه في الدجا أيّ ألجم ... وتلبس عطف الغصن من سندسٍ مرطا
وتوقظ فوق الدوح ورق حمائمٍ ... جعلنا قلوب العاشقين لها لقطا
هم نسبوا حزناً إليها وما دروا ... وما أرسلت من جفنها أبداً نقطا
وكم تيّمت صبّاً بلحن غريبه ... رواه الهوى عنها وما عرفت ضبطا
فيا ليت شعري هل بها ما بمهجتي ... من الوجد أم لم ترع عهداً ولا شرطا
هل هي في دوحات كلّ خميلةٍ ... تغرّد أو ناحت على فقدها السّبطا
ولو أنّها قد تيّمتها صبابةٌ ... لما طوّقت جيداً ولا جاورت شطّا
ولا عانقت غصناً بكفّ مخضّب ... ولا اتّخذت من زهر أعطافه قرطا
ولا لبست ثوباً يروق مدبجاً ... ولا نسيت عهد الهديل ولا الأرطى
ولو ذكرت أيامنا بطويلعٍ ... لأجرت كدمعي مذ بدت لمّتي شمطا
وقد نفّرت عني غرابيب صبوتي ... غرابيب دهرٍ جار في الحكم واشتطّا
وخطّ على فوديّ سطراً حروفه ... رقمن بقلبي عارض الحتف مذ خطّا
ولكنّه قد أودع الفكر حكمةً ... أفادته عرفانا فيا نعم ما أعطى
تجارب أيامٍ لها الغدر شيمةٌ ... فكم سترت فضلاً وكم أظهرت غمطا
وألبسه ثوباً من العلم معلماً ... بدا لذوي جهلٍ فأورثهم سخطا
إذا ما روت عنه البلاغة منطقاً ... يرى النجم في عليائه عنه منحطّا
وإن غاص في لجّ البيان يراعه ... أرى جنّةً لا أثل فيها ولا خمطا

بها حور عينٍ لو رآها زهيرها ... لصيّر خدّيه لأقدامه بسطا
إذا ما تجلّى للأفاضل حسنها ... أدارت عليهم من لواحظها اسفنطا
وتحجب عمّن قد تردّى لجهله ... وأصبح جلباب الحيا عنه منعطّا
ولا غرو ألاّ يدرك الشمس ذو عمىً ... على قلبه من الجهالة قد غطّى
صفاتٌ عزتها نسبةٌ قرشيّةٌ ... إلى من سما مجداً وأكرم بهم رهطا

أعيان العصر وأعوان النصر- صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ).

 

 

حسن بن مُحَمَّد الْقُرْطُبِيّ الأَصْل ثمَّ الصَّفَدِي نجم الدّين الْخَطِيب كَانَ أَبوهُ خطيب قلعة صفد وَدخل نجم الدّين هَذَا ديوَان الْإِنْشَاء وَوَقع عَن نواب صفد وناب عَن وَالِده فِي الخطابة ثمَّ حصل لَهُ نكد فِي زمَان ابْن غَانِم فَتوجه إِلَى دمشق فَأَقَامَ بهَا وَقدمه ابْن فضل الله وَولي خطابة جَامع جراح وَقدم كراي وَهُوَ نَائِب دمشق فقدمه على الْجَمِيع لما كَانَ يعرف من خَيره وَدينه فنصحه وَالْتزم الْعِفَّة حَتَّى ذكر أَنه رد مرّة مِائَتي دِينَار فِي قَضِيَّة مَعَ شدَّة حَاجته إِلَى بَعْضهَا حَتَّى أَنه رهن فِي تِلْكَ اللَّيْلَة طاسته على زَيْت الْقنْدِيل ثمَّ أُعِيد إِلَى صفد على توقيعه وخطابته فعانده زين الدّين حلاوات وكتبت لَهُ عدَّة تواقيع وَهِي تبطل إِلَى أَن أشركوا بَينهمَا ثمَّ اخْتَار نجم الدّين الخطابة وَاسْتقر حلاوات فِي التوقيع فاستمر نجم الدّين يخْطب ويشغل النَّاس تَبَرعا وَكَانَ حسن التَّعْلِيم جدا شَدِيد الْعِنَايَة بتنزيل قَوَاعِد النَّحْو على قَوَاعِد الْمنطق مغرى بالمناقشة فِي التعاريف والمؤاخذة وَالرَّدّ وَالْجَوَاب وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخ فَخر الدّين الْمصْرِيّ وَكَانَ مفرط الْكَرم مَعَ قلَّة ذَات يَده وَكَانَ خطه مليحاً ونظمه سَرِيعا وَكَانَ لَا يخْطب بِغَيْر الْخطب النباتية وَله محبَّة فِي الْكتب أشعري العقيدة جيد الْمعرفَة بالفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ فِي التوقيع يتحَرَّى ويتحرز فِيمَا يَكْتُبهُ وَلَا يكْتب إِلَّا مَا هُوَ سَائِغ شرعا وَمن عنوان شعره
(يَوْم الْوَدَاع بَدَت شَوَاهِد لوعتي ... نَار الْخَلِيل تشب فِي الطوفان)
(واردت اعتنق الحبيب فَخفت أَن ... يَغْشَاهُ ثمَّ أَذَى لظى نيران) وَأنْشد لَهُ ابْن فضل الله من نظمه
(وَإِذا مَرَرْت على أثيلات الْحمى ... وبدت محَاسِن غيده وظبائه)
(فحذار ثمَّ حذار من حدق ألمها ... فَهِيَ الَّتِي رمت الْفُؤَاد بدائه) قلت شعر مُكَلّف مَاتَ فِي شهر رَمَضَان سنة 723

-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني-