أحمد بن محمد أبو عبد الله الواسطي الكاتب:
وبعضهم يسميه محمد بن أحمد، حدث عن: الهيثم بن سهل، وعاصم بن علي روى عنه: محمد بن حمدون بن خالد النيلي، وأبو سليمان عوف بن اسماعيل وسنذكر حديثه فيمن اسمه محمد بن أحمد فيما يأتي من هذا الكتاب ان شاء الله تعالى، وكان شاعرا كاتبا، وكتب لأحمد بن طولون الى أن مات، وتولى تدبير ولده خمارويه بن طولون بعده.
ثم ان خمارويه لما خاف من اضطراب الشام بعد موت أبيه نفذ اليه مع سعد الأيسر جيشا، وأمده بأحمد بن محمد الواسطي لتدبير الجيش، وتولي النفقات واستكتب عوضه محبوب بن رجاء، فلم يقع ذلك بموقع يرضي أبا عبد الله الواسطي، فتغير الواسطي وفسد حاله معه، فكاتب أبا العباس أحمد بن الموفق يحثه على الوصول الى مصر، وقال: أسست أمر أبي الجيش، والله لأهدمن ما كنت بنيته، فلما قرب أبو العباس سار اليه وسار في صحبته وهو متوجه الى وقعة الطواحين، فلما تلاقي الجمعان بالطواحين من أرض الرملة، وانهزم ابن الموفق، هرب أبو عبد الله الواسطي الى أنطاكية، وأقام بها الى أن مات.
أخبرنا أبو البركات الحسن بن محمد اذنا قال: أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي قال: قرأت بخط أبي الحسين الرازي قال: أحمد بن يوسف: اجتمع الحسن بن مهاجر وأحمد بن محمد الواسطي للغد من يوم مات أحمد بن طولون على أخذ البيعة لأبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون فبدأوا بالعباس بن أحمد بن طولون قبل سائر الناس لأنه أخوه وأكبر منه سنا فوجهوا إليه عدة من خواص خدم أبيه يستحضرونه لرأي رأوه، فلما وافى العباس قامت الجماعة اليه، وصدروه وأبو الجيش داخل قاعد في صدر مجلس أبيه، فعزاه الواسطي وبكى وبكت الجماعة، ثم أحضر المصحف وقال الواسطي للعباس: تبايع أخاك، فقال العباس: أبو الجيش فديته ابني وليس يسومني هذا، ومن المحال أن يكون أحد أشفق عليه مني، فقال الواسطي: ما أصلحتك هذه المحنة، أبو الجيش أميرك وسيدك ومن استحق بحسن طاعته له التقدم عليك، فلم يبايع العباس، فقام طبارجي وسعد الأيسر فأخذا سيفه ومنطقته وعدلا به الى حجرة من الميدان، فلم يخرج منها إلّا ميتا، وبايع الناس كلهم لأبي الجيش وأعطاهم البيعة وأخرج مالا عظيما ففرقه على الأولياء وسائر الناس، وصحت البيعة لأبي الجيش يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين.
قال: وهذا ما كتب به أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي الكاتب إلى أبي العباس أحمد بن الموفق بالله يستحثه على حرب أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون والخروج إليه قبل وقعة الطواحين بأيام، وبعد انصراف اسحاق بن كنداجيق، ومحمد بن أبي الساج، وجعفر بن يغامردي، والعساكر معه عنه:
يا أيها الملك المرهوب جانبه ... شمّر ذيول السرى فالأمر قد قربا
كم ذا الجلوس ولم يجلس عدوّكم ... عن النهوض لقد أصبحتم عجبا
لا تقعدن على التفريط معتكفا ... واشدد فقد قال جلّ الناس: قد رهبا
ليس المريد لما أصبحت تطلبه ... إلا المشمّر عن ساق وإن لغبا
فان نصبت فعقبى ما نصبت له ... ملك تشاد معاليه لمن نصبا
طال انتظاري لغوث منك آمله ... وما أرى منك ما أصبحت مرتقبا
ولو علمت يقين العلم من خبري ... وما نهضت له في الله محتسبا
لسرت نحو امرئ قد جد مجتهدا ... حتى يكون لما تسعونه سببا
أجاد مروان في بيت أراد به ... عين الصواب وما أخطا وما كذبا
إذ قال حين رأى الدنيا تميد بهم ... بعد الهدو وصار الحبل منقضبا
إني أرى فتنا تغلي مراجلها ... فالملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وله إليه أيضا:
قل للأمير ابن الموفّق للهدى ... حتّام عن أهل الضلالة يطرق
جرد خيول العزم هذا وقتها ... وأخو العزيمة في الخطوب محقق
أصدق بني الأعداء ضربا وقعه ... ينبي الطلا قدما فمثلك يصدق
هذا وأنت أبو الفتوح وأمها ... وأخو الحروب غداة يحمى الفيلق
لا تجزعن فقد جرى لك سانحا ... طير السعادة بالبشارة ينطق
ولقد هتكت جموعهم لك عنده ... وكشفت رأسي حين حان المصدق
وحسرت جلباب التستر ساحبا ... ذيل النصيحة والنصيح يصدق
وجمعت من صيد القبائل جحفلا ... لو رام يأجوجا إذا لتمزقوا
وأقمت سوقا للضراب تجارها ... بيض الصفائح والوشيج الأزرق
فالبيض من ظمأ تعج ظباتها ... ولطالما ظلت بها لا تشرق
قد جردت للضرب دون موفق ... أعداؤه في نكثهم ما وفقوا
بيضا مصقلة فليت متونها ... بدماء من نكث العهود تخلق
هذا ما ذكره في هذه الرواية، وذكر غيره أن الأبيات البائية كتبها مع كتاب، ووصل الكتاب إلى أحمد بن الموفق وهو بحلب، وبها كنداج وابن أبي الساج، فقال لهما: ما قعودكم؟! وضرب طبله وسار، وساروا معه فكبسوا أصحاب أبي الجيش بشيزر.
قرأت في سيرة خمارويه بن أحمد بن طولون في نسخة عتيقة، ولم يسم مؤلفها:
إن خمارويه لما خاف أن يضطرب الشام أنفذ إليه جيشا أمرّ عليه سعد الأيسر وأمدّه بأحمد بن محمد الواسطي كاتب أبيه ليدبر الجيش، ويتولى النفقات فيه، وكان الواسطي يطمع أن يدبر أمر خمارويه، وأنه يرد تدبير الأمر إليه، وقال: هذا صبي حدث أدبره كما أرى، فلما أخرجه الى هذا الوجه واستكتب محبوب ابن رجاء بعده فسدت نيته، وقال: محبوب أحد كتابي يتصرف بين أمري ويهيئ، آل الأمر الى أن صرت بعض خلفائه، فتغير على سعد، وافترقا، وتغير الواسطي وكتب الى ابن الموفق كتابا يحثه على المسير الى مصر وقال: أنا أسست أمر أبي الجيش، والله لأهدمن ما كنت بنيته وضمن الكتاب هذه الأبيات:
يا أيها الملك المرهوب جانبه ... شمر ذيول السرى فالنصر قد قربا
كم ذا القعود ولم يقعد عدوكم ... عن القتال لقد أصبحتم عجبا
ليس المريد لما أصبحت تطلبه ... ولا المشمر عن ساق وإن لغبا
لا تقعدن عن التفريط منعكفا ... واجدد فقد قال قوم: إنه رهبا
فأنت في غفلة يقظان ذو سنة ... وطالب الوتر ذو جد إذا طلبا
أجاد مروان في بيت أصاب به ... عين الصواب فما أخطا ولا كذبا
إذ قال لما رأى الدنيا تميد بهم ... بعد الهدو وعاد الحبل مضطربا:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
فلما قرأ ابن الموفق كتاب الواسطي قال لابن كنداج وابن أبي الساج ما قعودكم، وضرب طبله وسار وساروا معه حتى كبسهم في شيزر، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وكان ابن الواسطي بالرملة يقطع الطريق فيما بين ابن أبا وسعد الأعسر وهما بدمشق، فسار أحمد بن الموفق الى دمشق وكبسها على غرّة، فانهزما الى الكسوة وقتل من بقي من أصحابهما، ثم إنهم اجتمعوا وقصدوا ابن الواسطي فهزموه، وأخذ على طريق الساحل حتى لحق بأحمد بن الموفق، ودخل المصريون الى الرملة فنهبوا دار الواسطي وخزائنه، ثم ذكر وصول أحمد بن الموفق وأنه لما أبصر عسكر أبي الجيش هاله وأكبره، وصغر جيشه في عينه، فشجعه الواسطي وضمن له النصرة عليه، وقال له: لا يغرك هذا فأكثرهم عامة، بقال وحائك وفاعل، فثق بالنصر ولا تجزع الى أن التقى العسكران وكانت النصرة على أحمد بن الموفق، فركبا دواب الهزائم ومرّ كل واحد منهما على حدة، فأما ابن الموفق فلم يرد وجهه عن دمشق شيء، فلم يفتح له أهلها بابها ومنعوه من الدخول، فمر على طيّته الى طرسوس، وأما ابن الواسطي فأضرّ به الهرب الى أنطاكية، فأقام بها مديدة، ومات كمدا.
قرأت في تاريخ الأمير مختار الملك محمد بن عبيد الله المسبحي في حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائتين: وأبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي كاتب أحمد بن طولون في شعبان- يعني مات-.
بغية الطلب في تاريخ حلب - كمال الدين ابن العديم (المتوفى: 660هـ)