محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد نصيف:
عالم (جدة) وصدرها في عصره. ولد بها. وتوفي مستشفيا بالطائف ودفن بجدة. مات والده وهو صغير، فرباه جده عمر.
وأولع بالكتب فجمع مكتبة عظيمة. ونشر كتبا سلفية وأعان على نشر كثير منها. وكتب في الردود.
وكان مرجعا للباحثين، قال أمين الريحاني في ملوك العرب: هو دائرة معارف ناطقة يجيب على السؤالات التي توجه إليه ويهدي إلى مصادر العلوم الأدبية والتاريخية والفقهية. ومن خط الشيخ ابن مانع، قال: (لم نعلم في الحجاز رجلا يساويه في الكرم وحسن الخلق. وفي 25 شعبان سنة 1376 كنت في بيته بجدة، وسألته عن أصل نسبه، فأجاب: الأصل من صعيد مصر، وجماعتنا في الصعيد يدعون أنهم من قبائل حرب، ولكن جدي عمر كان يرى أنهم ليسوا من العرب) . وكان بيته ملتقى الفضلاء القادمين من مختلف البلاد. كتب السيد محمد رشيد رضا في المنار فصلا عنوانه (محمد نصيف، نعم المضيف) وكان حلو الحديث قويّ الذاكرة لا يكاد يصدر كتاب مما يروقه إلا اشترى منه نسخا وأهداها إلى المكتبات العامة وبعض معارفه. وخلف مكتبة حافلة بالمخطوطات والمطبوعات .
-الاعلام للزركلي-
محمد حسين نصيف
مستدير الوجه، أبيض اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وسيم، جسيم، قوى البنية، متين الأركان، تزين وجهه لحية غلب فيها البياض على السواد يرتدى الجبة والعمامة الحجازية وكان له سمت خاص في لباسه فهو سلفي المذهب والشارة، فحينما كان يلبس العمامة كانت عمامته بيضاء خالصة ولم تكن تزدان بالنقوش الحمراء والخضراء التي تتميز بها العمامة الحجازية وحينما تحول عن الجبة والعمامة الحجازية إلى العباءة والعقال كانت عباءته بيضاء كذلك ولم تكن مزدانة بالقصب الذي تتميز به العباءة العربية، وكان عقاله أبيض خالصا، فهو رجل متميز بطبعه يتخذ سمات العلماء السلفيين ويرتدي ما يراه متفقا مع كرامة العلم ومقام العلماء.
ولد الشيخ محمد حسين نصيف في أوائل القرن الرابع عشر الهجري 1302 هـ ومات أبوه وهو طفل فكفله جده لوالده الأفندي عمر نصيف وكان كبير أعيان جدة أو على الأصح كان ثاني اثنين هما أكبر أعيان جدة في ذلك الزمان أما الثاني فهو الأفندي موسى البغدادي وكان الرجلان كما سمعنا يكيدان لبعضهما البعض وينفس كل منهما على الآخر مكانه فيحاول النيل منه وكان الأفندي عمر نصيف وكيل شريف مكة ولعله كان وكيلا لكل من يتولى إمارة مكة من الأشراف كما كان على صلة كبيرة بالوالي التركي في الحجاز والذي كان يتخذ من قصر الأفندي عمر نصيف الشهير بجدة مركز إقامة له في فصل الربيع، قالوا وكان في أعلى القصر مجلس منيف يتخلله الهواء من كل مكان وكان الوالي التركي راتب باشا يصعد بفرسه إلى هذا المجلس الذي كان يسمى بالتركية (كشك) وفي حضانة هذا الجد الكبير وفي ظل هذا الجد تربى الشيخ محمد حسين نصيف، وكان الولد الوحيد لجده كما بلغنا فقد كانت ذرية الأفندي عمر نصيف جميعا من البنات ثم تزوج الزوجة الثانية فولدت له حسين نصيف والد الشيخ محمد نصيف، ولكن حسينا هذا توفي في أوج الشباب وترك بعده محمدا الذي احتضنه جده الأفندي عمر نصيف، فكان هو الذكر الوحيد لهذا الجد وهو المعصب له حين وفاته.
قصر نصيف
والحديث عن الشيخ محمد حسين نصيف يقتضي الحديث عن قصر نصيف الذي فيه نشأ وتربى وعاش طيلة حياته التي امتدت نحوا من تسعين عاما أو تزيد.
كان قصر نصيف الذي بناه الأفندي عمر نصيف جد الترجم معلما من معالم مدينة جدة بل أبرز معالمها في حينه نزل فيه الملوك والأمراء والعلماء والوزراء وقد شهدت السلطان وحيد الدين آخر سلاطين العثمانيين ينزل فيه بعد أن أقصى عن الخلافة ودعاه الشريف الملك حسين بن علي لزيارة الحجاز، وكان الوالي التركي يتخذ منه مركزا لإقامته في بعض فصول العام كما أسلفنا، وكان أمراء مكة من الأشراف ينزلون فيه ثم تحولوا إلى قصر آل مهنا فكان الملك حسين ثم ابنه الملك علي ينزلون فيه، وكان كل من قدم إلى الحجاز من الملوك والأمراء وأعاظم الرجال ينزلون في هذا القصر المنيف قصر نصيف، فلم يكن في مدينة جدة فندق أو دار ضيافة فكان قصر نصيف هو قصر الضيافة لكل من قدم إلى الحجاز من عظماء الرجال وفى عام 1344 هـ حين استيلاء المغفور له الملك عبد العزيز على الحجاز بعد انتهاء الحكم الهاشمي كان قصر نصيف بجدة هو منزل جلالته حين دخوله إلى جدة لأول مرة وفي هذا القصر كانت الوفود تصل إلى جلالته لمبايعته ملكا على الحجاز كما شهد هذا القصر كل الاجتماعات التي كانت تعقد لترتيب أمور الدولة الجديدة وقد اتخذ جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله من هذا القصر مقرا له لسنوات طويلة كلما قدم إلى مدينة جدة، ثم انتقل إلى القصر الأخضر بالعمارية الذي بناه المرحوم الشيخ علي العماري ناظر عموم الرسوم بجدة خصيصا لنزول جلالته وقد سميت المنطقة بالعمارية نسبة إلى اسم الشيخ علي العماري رحمه الله، وبعدها انتقل جلالة الملك عبد العزيز إلى قصر خزام بالنزلة وهو القصر الذي قام ببنائه خصيصا لجلالته المعلم محمد بن لادن رحمه الله واستمر جلالته يتخذ من قصر خزام مقرا له إلى حين وفاته.
ولما توفي الأفندي عمر نصيف انحصر إرثه في بناته الست وفي الشيخ محمد نصيف الذى كان المعصب لجده المتوفى فعمل والي جدة التركي راتب باشا على أن يكون القصر من نصيب الشيخ محمد نصيف لأنه الشخص الوحيد من الورثة القادر على إبقائه مستعدا لاستقبال الضيوف من ملوك وعظماء وهكذا كان، وتقديرا لمكانة هذا القصر ومنزلته التاريخية أمر جلالة المغفور له الملك فيصل بشرائه من ورثة الشيخ محمد نصيف بعد وفاته بما يحويه من مكتبة الرحوم الشيخ محمد نصيف ليكون القصر بالمكتبة نواة لمكتبة عامة في مدينة جدة حيث يقع القصر في قلب المدينة القديمة وقد اشترته الدولة ولكن استعماله كمكتبة عامة لم يتم حتى الآن.
نعود الآن بعد هذا الاستطراد عن قصر نصيف إلى إكمال ما بدأناه من حديث عن الشيخ محمد نصيف ففي هذا القصر المجيد وفى ظل جده الكبير نشأ محمد نصيف وتربى وتعلم على أيدي خيرة العلماء في زمانه وكان القصر منتدى لكل من تضمهم مدينة جدة من علماء ورجال سياسة فلم يكن يفد إلى جدة عضو في سفارة عربية أو إسلامية إلا كانت زيارة قصر نصيف والاجتماع إلى الشيخ محمد نصيف من أوائل الأعمال التي يقوم بها بعد وصوله إلى المدينة، وكان الشيخ محمد نصيف يقضى سحابة نهاره وصدرا من الليل في الدور الأرضي من القصر الذي كانت المكتبة تحتل أجزاء كثيرة منه وكان يتناول الوجبات الثلاث في غرفة المائدة في هذا الدور مع أولاده ومن يضمهم القصر من الضيوف والأصدقاء وكانت هناك مضيفة ملحقة بالقصر لاستقبال الضيوف بصورة دائمة طوال العام وخاصة في موسم الحج ولعلي لا أفشي سرا إذا قلت أن واردات الشيخ محمد نصيف من العقار الكثير الذي ورثه عن جده الأفندي عمر نصيف لم تكن تكفي دائما لمقابلة المصاريف الضخمة التي كان ينفقها في إبقاء قصره مفتوحا للضيافة طوال العام وقد علمت بحكم صلة القرابة التي تربط أسرتنا به أنه كان يبيع في بعض الأعوام بعضا من عقاره لسدِّ هذه النفقات الطائلة التي كان يتكلفها كل عام، وخلال الخمسينات من هذا القرن وحين اشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية وهبوط قيمة العقار كان واضحا أن الشيخ محمد نصيف أخذ يعاني من هذه الأزمة وما أن علم جلالة المغفور له الملك عبد العزيز بذلك حتى أصدر أمرا بصرف قاعدة سنوية له كل عام وكان الشيخ إبراهيم بن معمر قائم مقام جدة في ذلك الوقت هو الذي كتب لجلالة الغفور له الملك عبد العزيز ودون علم الشيخ محمد نصيف بذلك ولا شك إن الشيخ محمد نصيف كان من أحق الناس بعطف جلالة الملك عبد العزيز ومعونته فقد كان معروفا بعقيدته السلفية منذ نشأ وقد أخبرني المرحوم الشيخ عبد الرؤوف الصبان وكان من رواد مجلس الشيخ محمد نصيف كما كان من أوائل المتعلمين في ذلك العهد قال كنا نجلس في مجلس الشيخ محمد نصيف وكان يمر بنا جماعات الطرق الصوفية وهم يرقصون ويغنون وكان هذا في العهد الهاشمي قال فكنا نسفه آراءهم ونحصبهم بالحجارة، وحينما تم فتح مكة الكرمة في عام 1242 هـ وأحاطت جيوش الملك عبد العزيز بمدينة جدة كان معروفا أن الشيخ محمد نصيف على صلة بجلالة الملك عبد العزيز وسواء أكان الخبر صحيحا أم مبالغا فيه فقد سجن الشيخ محمد نصيف ومعه الشيخ سليمان عزاية وغيرهم في الثكنة العسكرية خارج مدينة جدة إذ ذاك ولم يطل الأمر بهما فقد أطلق سراحهما بعد أيام قلائل ثم لم يمض طويل وقت حتى دانت مدينة جدة بالولاء لجلالة الملك عبد العزيز واتخذ جلالته كما أسلفنا من قصر الشيخ محمد نصيف مقرا لإِقامته على مدى سنوات حينما كان يحضر إلى جدة كل عام وهكذا بقي قصر الشيخ محمد نصيف يمثل الوجه المشرق لمدينة جدة منذ تأسيسه في أوائل هذا القرن وعلى مدى ما يزيد من ستين عاما ولولا أن الشيخ محمد نصيف كان رجلا مطبوعا على الكرم والفضل لما استطاع أن يقوم وحده بهذا العبء الذى لا يضطلع به الا الأفذاذ من الرجال.
هذا ولقد كان الشيخ محمد نصيف مرجعا لكثير من المعلومات التاريخية عن العهود التي عاصرها وهي كما ذكرنا تقرب من قرن كامل وإني لأذكر حينما وصل ماء العين العزيزية إلى جدة عام 1367 هـ أن أصدرت مجلة الحج عددا خاصا عن هذا الموضوع وقد كلفني يومها معالي المغفور له الشيخ محمد سرور الصبان بكتابة بحث عن تاريخ الماء في مدينة جدة ولم أجد في مدينة جدة كلها إذ ذاك مصدرا لهذه المعلومات سوى الشيخ محمد نصيف رحمه الله وإني لأذكر كيف كان يتدفق في حديثه عن تاريخ الماء في مدينة جدة بأسلوب يجمع بين حقائق التاريخ وطرافة المعلومات وقد نشر هذا البحث في مجلة الحج وذكرت فيه مصدر هذه المعلومات في صلب البحث المذكور، كما كان فضيلة الشيخ محمد نصيف يوافي المجلات والصحف في بعض المناسبات بمعلوماته التاريخية عن الأحداث التي يرى ضرورة التعليق عليها كما كان يجيب السائلين سواء في رسائل خاصة أو على صفحات الصحف عما يسألونه عنه فلم يكن ممن يضنون بعلمهم أو يكتمونه.
مكتبة نصيف
ولا يكتمل الحديث عن الشيخ محمد نصيف إلا بالحديث عن حبه للكتب واقتنائه لها فلقد نشأ وتربى على حب القراءة وكانت صلته بعلماء عصره سواء المقيمين أو القادمين مدعاة لتنمية حبه للقراءة والدرس وهكذا عكف الشيخ محمد نصيف منذ فجر صباه على جمع الكتب واقتنائها وتتبع النادر منها حيث وجد، وإني لأذكر أنه علم بوجود نسخة من أحد الكتب الأندلسية القديمة في مكتبتي فلم يتردد رحمه الله في الكتابة إلي بطلبها ولم أتردد في تقديمها له لأن وجودها ضمن مكتبته الثمينة أولى من وجودها لدي وهكذا صرف الشيخ محمد نصيف حياته الطويلة المديدة في جمع مكتبة تعد أثمن مكتبة خاصة في مدينة جدة كلها وهي من أثمن المكتبات الخاصة في الحجاز كله وهذه المكتبة هي التي آلت ملكيتها كما ذكرنا إلى الدولة مع القصر لتكون نواة لمكتبة عامة في جدة ونرجو أن يتم تنفيذ هذا المشروع الهام قريبا ليتم النفع به.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن الشيخ محمد نصيف قام بطبع ونشر كثير من الكتب على نفقته وبالاشتراك مع الغير منها كتاب العلو للعلى الغفار الذهبي طبع في عام 1325 هـ وكتاب الجواب الباهر في حكم زيارة المقابر وبهامشه.
كما أعرف أنه شجع بعض أصدقائه على طبع ونشر بعض الكتب على حسابهم الخاص مثل المرحوم الشريف شرف رضا الذي قام بطبع ونشر كتاب للإمام البخاري على ما أذكر بمشورة الأفندي نصيف وتشجيعه، وتوفي الشيخ محمد نصيف بمدينة الطائف بمستشفى الملك فيصل في 8 جمادى الثاني سنة 1391 هـ ونقل جثمانه إلى جدة حيث دفن بها في مشهد حافل شاركت فيه الجموع الكثيرة وواسى في وفاته رجال الدولة وعلى رأسهم جلالة الغفور له الملك فيصل رحمه الله وكبار الأمراء وأعيان البلاد.
تغمده الله برحمته الواسعة فلقد كان نمطا فريدا من الرجال استطاع بفضله وكرمه أن يكون مصدر فخار لحقبة طويلة من الزمن لمدينة جدة بل للحجاز كله وليس هذا بالأمر السهل أو القليل الأثر فمثل هؤلاء الرجال يعدون من مفاخر الأمم.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 208 - 215.