فرنسيس بن فتح الله بن نصر مراش:
أديب، من الكتاب، على ضعف في لغته. له نظم كثير، في بعضه جودة وجزالة. مولده ووفاته في حلب. عمي في أعوامه الأخيرة.
من كتبه " رحلة إلى باريس - ط " و " شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة - ط " و " غابة الحق - ط " و " مشهد الأحوال - ط " و " المرأة الصفية في المبادئ الطبيعية - ط " رسالة، و " مرآة الحسناء - ط " ديوان منظوماته .
-الاعلام للزركلي-
فرانسيس مراش
(1836 ـ 1873م)
كانت منزلة آل مراش بين نصارى حلب بنهضتهم الأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كمنزلة آل اليازجي وآل البستاني في لبنان والديار الشامية، فإنهم أيقظوا روح المعارف في أبناء وطنهم، وخدموا العلوم بالتأليف والصحافة.
واشتهر فتح الله مراش، وكان ذا إلمام وافر باللغة العربية وآدابها، وترك فيها آثاراً مخطوطة، وفي سنة 1850م سافر إلى فرنسا وأقام فيها ثلاث سنين، واستصحب معه في هذه الرحلة ولده المترجم فرانسيس الذي خلفه في آدابه، وفاق عليه بالذكاء والمعارف وشؤون الإنشاء شعراً ونثراً.
مولده ونشأته: ولد فرنسيس بن فتح الله بن نصر الله مراش في 29 حزيران 1836م، وتلقى العلوم اللسانية وآداب الشعر، وانكب على دراسته الطب أربع سنوات، وسافر إلى فرنسا لإكمال دراسته، فلم يسعده الدهر في غربته فعاد إلى وطنه، وتفرغ للتصنيف رغماً عما أصابه من ضعف البصر وانحطاط القوى.
مؤلفاته: ألف كتاباً سماه (شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة)، و(غاية الحق)، وقد جمع فيه بين الفلسفة والأدب، و(مشهد الأحوال)، ورواية حسنة دعاها (درّ الصدف في غرائب الصدف)، و(المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية)، ثم خطبة في (تعزية المكروب وراحة المتعوب)، و(الكنوز الغنية في الرموز الميمونية)، وهي قصيدة رائية في نحو خمس مئة بيت، ضمنها رموزاً خفية على صورة رواية شعرية، ومن نظمه (ديوان مرآة الحسناء).
وكان المترجم مترفعاً عن الأساليب المبتذلة، وكان يطلب في نثره ونظمه المعاني المبتكرة والتصورات الفلسفية، فلا يبالي بانسجام الكلام وسلاسته، فنجد في أقواله شيئاً من التعقد والخشونة مع الإعضاء عن قواعد اللغة، ومن شعره ما قاله يشكو الدهر:
رمت قلبي نبال الدهر حتى
رأيت دمي يسيل من العيون
فلو كان الزمان يصاغ جسما
لكنت أذيقه كأس المنون
وكان المترجم يراسل أهل الأدب والفضل في زمانه كالشيخ ناصيف اليازجي وغيره، وله مآثر عديدة وفصول إنشائية وقصائد وأراجيز نشرها في كثير من الصحف والمجلات.
وفاته: وفي سنة 1873م وافاه الأجل، ورثته أخته الشاعرة مريانا الشهيرة فقالت:
ويلاه من جور الدهر قد أحل بنا
مصائباً شأنها أن تصدع الحجرا
يشتت الشمل منها حيثما نزلت
تفني الجميع ولا تبقي له أثرا
له ترجمة في الكتاب المرفق: أعلام الأدب والفن – لأدهم الجندي – الجزء 2. ص 26
فرنسيس فتح الله مراش
فرنسيس فتح الله مراش ١٨٣٦–١٨٧٣م.
هو فرنسيس بن فتح الله مراش، ولد بمدينة حلب في ٢٩ يونيو سنة ١٨٣٦م، من أرومة طيبة الأصل. ولما بلغ الرابعة من عمره أصيب بداء الحصبة، وثقلت وطأتها عليه حتى كادت تودي به، ثم منَّ الله عليه بالشفاء، إلا أنه بقي من آثارها في جسمه وبصره ما نغَّص عليه عيشه، وأوهن قواه مدى العمر. ولبث في حلب إلى أن يفع يتلقن القراءة ثم مبادئ العلوم، إلى أن كانت سنة ١٨٥٠م، فسار والده إلى أوروبا واستصحبه معه، فتجول فيها مدة تنيف على السنة، ثم رأى والده أن يطيل مكثه في فرنسا لضرورة دعت إلى ذلك، فأرجعه إلى حلب وبقي فيها إلى سنة ١٨٥٣م.
ولما عاد والده من أوروبا في هذه السنة دعته مقتضيات تجارته إلى التعرج على بيروت، فعرج عليها واستدعاه من حلب، فسار منها إلى بيروت، وأقام بها معه نحوًا من سنة. ثم عاد إلى مسقط رأسه وألقى به عصا التسيار مدة مديدة، وأقبل يشتغل في خلالها بالأدب، وهو الفن الذي كان قد ولع به منذ صبوته، حتى إنه عرف له نظم على طريقة الصبيان، نظمه وهو ابن تسع سنين ودونها، ولكنه لم يقصر درسه على الأدب وحده، بل أقبل يدرس غيره من العلوم، وكان يتخرَّج في كل علم منها على من يلقاه من الأساتذة. ولما رأى آخر الأمر أن علم الطب لا يبلغ أحدٌ منه إربًا ما لم يَنَلِ الإجازة في تعاطيه عملًا، وتيقن أن أعظم الإجازات اعتبارًا في تلك الأيام ما كان صادرًا منها من مدرسة باريز، رحل في طلب ذلك إلى هذه المدينة حوالي سنة ١٨٦٧م، وأقام بها نحوًا من سنتين يتردد على مدرسة الطب فيها إتمامًا لدروسه واستعدادًا للامتحان، ولكن صروف الدهر عاندته وخانته الجدود العواثر من وجوهٍ أخرى، فاعتراه من أسقام البدن وضعف البصر ما صرفه عن المثابرة على الدرس، فلم يظفر بمراده من التقدم للفحص لنيل الإجازة، بل اضطر أن يقفل راجعًا إلى حلب وهو عليل ومكفوف البصر أو يكاد، ولم يزل مقيمًا بحلب إلى أن توفاه الله في أواسط سنة ١٨٧٣م.
أما تصانيفه، فالمطبوع منها «غابة الحق» و«مشهد الأحوال»، وكلاهما مطبوع في بيروت، وله ديوان سمَّاه «مرآة الحسناء» أرسله بحياته إلى المرحوم سليم البستاني فطبعه له في مطبعة المعارف في بيروت. أما الكتابان الأولان فقد سلك فيهما مسالك فلسفية، وبث فيهما آراءه بأسلوب بديع، صنف معظم الأول منهما في باريز والثاني في حلب. وله أيضًا رسائل موجزة في مواضيع شتى، ولكنها لم تطبع، فلذلك لم تُعرَف. وله رحلة إلى باريس طبعت في بيروت، وشهادة الطبيعة بوجود الله والشريعة، طبعت بمطبعة الأميركان بعد نشرها في النشرة الأسبوعية، وله غرائب الصدف، وغيرها من الرسائل.
وكان في الجملة مشاركًا في كثير من العلوم، إلا أنه كان إلى العلوم الفلسفية أميل، وكان يؤثرها على العلوم الرياضية وغيرها؛ لما في تلك من سعة المجال للخواطر، ولما في هذه من ضيق المجال وحرج القيود والقوانين على من يريد أن يقتدح زناد نفسه، فإنه كان لا يطيق احتمال الأسر المعنوي فضلًا عن الحسي؛ ولذا كان يحاول التملص من رِق العادات الجازمة بحجز حرية التصرف، بل طالما كان ينزع إلى الإغضاء عن قيود اللغة وأغلال قوانينها وسلاسل قواعدها أيضًا، حتى صار قليل الالتفات إلى تحرير أساليبه وتنقيح عباراته على ما تقتضيه أصول الإنشاء.
إلا أنه كان يعرف حق المعرفة أن الحرية المطلقة هي كالكِبْريت الأحمر، لا تقوم إلا في الذهن، ولا وجود لها في الخارج، وهذا ما حداه إلى أن يقول:
رقُّ الزمان جوى على كل الورى واقتادهم بسلاسلٍ وقيودِ
رسف الأمير مكبلًا بنضاره رسفَ الأسير مكبلًا بحديدِ
وأن يقول:
صدِّقوني كل الأنام سواءٌ من ملوكٍ إلى رعاة البهائم
كل نفسٍ لها سرورٌ وحزنٌ لا تني في ولائمٍ أو مآتم
كم أميرٍ في دسته بات يشقى باله والأسيرُ في القيد ناعم
أصغر الخلق مثل أكبرها جر مًا لهذا وذا مزايا تلائم
هذه النمل تستطيع الذي تعجز عن فعله الأسود الضياغم
والخلايا للنحل أعجب صنعًا من قصور الملوك ذات الدعائم
وكان مَن أَنْعَمَ النظرَ في تصانيفه خيِّل له أنه لم يكن في كل الأحوال راضيًا عن الزمان وأهله، وأنه كان كثير التبرُّم بالناس والأشياء كافة، وأن كلامه في كثير من المواطن يشفُّ عن الشكوى من الدنيا وأهلها. وهذا لا يستغرب من رجلٍ رماه الدهر بالأرزاء حتى أصبح كئيبًا كاسف البال، وقد حداه ذلك إلى أن قال:
توتر أقواس الردى لرمايتي ومن أعين الحساد تبرى سهامها
يجرُّ عليَّ الدهر جيش خطوبه فتلقاه نفسٌ يستحيل انهزامها
ومن خبِّر الدنيا وأدرك سرها تساوى لديه حربها وسلامها
ومن هذا القبيل ما أورده في «غابة الحق»:
إذا كان وقع السيف ليس يُمِضُّني فعندي سواءٌ غمده وغراره
وإن كان جمر الخطب ليس يصيبني فلا خوف لي مهما يهبُّ شراره
أنا لا أرى في الأرض شيئًا يروقني لذلك نور العمر عندي ناره
أيطربني هذا الزمان وكله عراكٌ على الدنيا يثور غباره
هذا ما يلمح من خلال نظمه ونثره، إلا أنه كان في معاشرة الناس ومخالطتهم متوددًا أنيسًا، تأبى نفسه أن يصيب الناس أذًى مما ابتلاه الله به من الأشجان. وكان إذا عنَّ له خاطر أملاه على كاتب أو صديق، وتوفاه الله وهو في شرخ الشباب.
ومن نظمه قوله من قصيدة:
أنا على ما أنا من الخلق باقٍ على مذهبي وفي طرقي
ما لي عدوٌّ سوى الكذوب فلم يزل عدوًّا لصاحب الصدق
لا أكذب الله أن لي شيمًا تحمي فمي من شوائب الملق
فلا كبيرٌ سطا عليَّ ولا يدٌ لها منة على عنقي
ولا تسابقتُ في المفاخر بل سرت الْهُوَيْنَا وفزت بالسبقِ
ولا اشتريت الثناء من أحد بالمال بل بالجهاد والأرق
أسقي غروسي فإن أجد ثمرًا أقطف وإلا رضيت بالورق
وقال في وصف الجمال:
يا ربة الحسن جمالك لا يدوم إلا كدوام الخيال
فحسن وجه ذاهبٌ كالهبا وحسن طبع راسخ كالجبال
فجملي الطبع وحلي النهى لتقتني الحسن العديم الزوال
هذا هو الحسن البسيط وما للجوهر البسيط قط انحلال
ومن هذا القبيل قوله:
طرقت خباها بغتة يوم تبكير فصبَّحني وجه كرقعة تصوير
هناك على المرآة كانت مكبَّة تموِّه خديها بصبغة حنجور
فأيقنت أني في الهوى كنت والعًا بمسحوق تبييض ومحلول تحمير
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 319 – 323.