عبد الله فكري بن محمد بليغ بن عبد الله المصري

تاريخ الولادة1250 هـ
تاريخ الوفاة1307 هـ
العمر57 سنة
مكان الولادةمكة المكرمة - الحجاز
مكان الوفاةالقاهرة - مصر
أماكن الإقامة
  • مكة المكرمة - الحجاز
  • استانبول - تركيا
  • دمشق - سوريا
  • الخليل - فلسطين
  • بيت المقدس - فلسطين
  • بيروت - لبنان
  • القاهرة - مصر

نبذة

عبد الله فكري " باشا " بن محمد بليغ ابن عبد الله بن محمد: وزير مصري، من المتأدبين. له نظم. ولد بمكة (وكان والده قد ذهب إليها مع جيش والي مصر) ونشأ في القاهرة، وتعلم في الأزهر. ثم كان وكيلا لنظارة المعارف، فكاتبا أول في مجلس النواب، فناظرا للمعارف المصرية سنة 1299

الترجمة

(1250 - 1306 هـ = 1834 - 1889 م) عبد الله فكري " باشا " بن محمد بليغ ابن عبد الله بن محمد: وزير مصري، من المتأدبين. له نظم. ولد بمكة (وكان والده قد ذهب إليها مع جيش والي مصر) ونشأ في القاهرة، وتعلم في الأزهر. ثم كان وكيلا لنظارة المعارف، فكاتبا أول في مجلس النواب، فناظرا للمعارف المصرية سنة 1299 هـ واستقال بعد أربعة أشهر. واتهم بالاشتراك في الثورة العرابية، فسجن، وبرئ. واختير سنة 1306 هـ رئيسا للوفد العلمي المصري في مؤتمر استوكلهم. وتوفي في القاهرة.
له كتب، منها " الفوائد الفكرية - ط " و " المملكة الباطينة - ط " و " شرح بديعية صفوت - ط " ورسائل ومقالات. ولمحمد عبد الغني حسن، كتاب " عبد الله فكري: عصره، حياته، أدبه - ط " قلت: اقتنيت إضبارة من أوراقه الخاصة، تشتمل على مسودة " رحلته " إلى استوكهلم، بخطه، غير تامة، و " ديوان شعره " بخطه أيضا، صغير، كتب عليه: " من نظم الفقير عبد الله فكري بن محمد بليغ بن عبد الله بن محمد بن عبد الله " وفيه مساجلات شعرية كانت بينه وبين بعض معاصريه ك الأمير شكيب أرسلان والشيخ الليثي وأحمد فارس صاحب الجوائب، ومسودة " أنموذج كتاب لتعليم صغار الأطفال " من تأليفه، وجزأين من " دفاتره " بخطه، كتب على أحدهما: " الجزء الثالث من الدفتر، لجامعه عبد الله فكري " وفيها فوائد، في الأدب والاجتماع والجغرافية وغيرها، وكتابات من إنشائه، تدل على أنه كان يجيد مع العربية التركية والفرنسية، ومسودة " نبذة في عقائد الإيمان وقواعد الإسلام على مذهب أبي حنيفة النعمان " من تأليفه، بخطه أيضا .
-الاعلام للزركلي-

 

الأمير عبد الله باشا فكري بن الأمير محمد أفندي بليغ بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد المصري رحمهم الله تعالى أجمعين
هذا الأمير حيا الرضوان منه تلك الشيم، وعامله بالمن والإحسان والجود والكرم، إن لم يكن فوق أبي تمام، فهو نظيره في النثر والنظام، وإن كل ناطق بلسان، وعارف بحسن واستحسان، مجمع على فضله الذي اقتضى لذكره التخليد، فالعالم عرفه بعلمه والجاهل قال بالتقليد وهو منذ لاح هلاله في أوجه، وحل نجم سعوده في برجه، يطير صيته في الأقطار، ويسير ذكره في البلاد والأمصار، وحينما شرف إلى الشام هو وولده أمين بك الهمام حصلت بيني وبينه مودة، ومجالس اجتماعات لمذاكرة الأدب معدة، ولقد رأيت من فضله ما لم أكن رأيته قبل ذلك، وشاهدت من بديع كمالاته ما لم أكن شاهدته من قبله لسالك. فلعمري هو المعروف بأصله وفصله، والمشهود له بنبله وفضله، له المقام الأحظى، والمعارف التي ملأت سمعاً ولحظا، وهو منذ حلت عنه تمائمه، ونيطت عليه عمائمه مخطوب الحظوة عند الأنام، مطلوب الاتصاف بكل فضل ومرام.
تروى محاسن لفظه وكأنها ... درر وآراء كمثل دراري
ومآثر قد خلدت فكأنها ... غرر وعزم مثل حد غرار
ولد رحمه الله في أوائل شهر ربيع الأول، من شهور سنة ألف ومائتين وخمسين من هجرة السيد المكمل، ومن غريب الاتفاق الموقع في العجب العجاب، أن تاريخ ميلاده وافق جمل قوله تعالى: " قال إني عبد الله آتاني الكتاب " وجمل ذلك ألف ومائتان وخمسون، وهذه الموافقة المتفاءل بها على كماله من أعجب ما يكون، وكان له في الكتابة النفس العال، ولأسلوب الذي ليس له مثال، حتى قيل فيه أنه لو تقدم به الزمان، لكان له بديعان، أعني المترجم وعلامة همذان، مع الديانة والعبادة، والورع والزهادة، والصلاح والتقوى، والإخلاص في السر والنجوى. ولقد حفظ القرآن المجيد، وأتقنه وجوده غاية التجويد، ثم اشتغل في طلب العلم في الجامع الأزهر، والمكان الأنور، وتلقى العلوم المعروفة المنقولة، والرياضيات المشهورة المعقولة، عن سادة أفاضل، معروفين بالفضائل، كالشيخ إبراهيم السقا والشيخ محمد عليش والشيخ حسن البلتاني وغيرهم من السادة العظام والعلماء الأعلام، من أهل الفروع والأصول، والمعقول والمنقول، ثم اتصل بخدمة الحكومة السنية، بعد أن أتقن اللغة التركية، وذلك في أوائل جمادى الآخرة، سنة ألف ومائتين وسبع وستين من الهجرة الفاخرة، ولم يزل ينتقل من مكان إلى أعلى، ومن محل إلى أولى، إلى أن توفي وزير مصر سعيد باشا رحمه أرحم الراحمين، وذلك سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين، وخلفه الوزير إسماعيل باشا على البلاد المصرية فذهب المترجم المرقوم معه إلى الآستانة العلية، لاستلام تقليد الولاية وأداء التشكر للحضرة السلطانية. وفي عام اثنين وثمانين ترقى إلى رتبة " بيك " المعروفة بالرتبة الثانية، ولم يزل بعد ذلك يتنقل إلى المقامات السامية، وفي سنة ست وثمانين نقل إلى ديوان المالية، وفي سنة ثمان وثمانين جعل وكيل ديوان المكاتب الأهلية، وفي سنة أربع وتسعين وجهت إليه رتبة المتمايز، وفي سنة ست وتسعين صار وكيلاً لنظارة المعارف العمومية فكان لها حائزاً وأي حائز، وترقى إلى رتبة ميرميران، ثم ضمت إليه وظيفة الكاتب الأول بمجلس النواب مع بقاء الوظيفة المتقدمة الذكر العالية الشأن، وفي سنة تسع وتسعين فوضت إليه نظارة المعارف العمومية، في ضمن النظار الذين كان منهم عرابي باشا صاحب الوقعة المصرية، وفي سنة تسع وتسعين استقال من وظيفته، مع بقية النظار الذين كانوا في معيته، بناء على ما حصل من الفتنة والاضطراب، والخلف بين العرابيين وحضرة الخديوي فخيم الجناب، أثناء الحادثة العسكرية المشهورة، وفي أواخر السنة المذكورة عقب الثورة العرابية، طلب المترجم في الضبطية، وسجن مع المتهمين من العلماء، وغيرهم من الأكابر والأمراء، ومنعوا عنه معاشه، وتكلم فيه بعض حاسديه بكل قباحة ووحاشه، بما ليس له حقيقة، ولا أصل ولا طريقة، وتكرر عليه السؤال، وتكدرت عليه الأحوال، ولما ظهرت براءته، وانفرجت عنه مساءته، خرج من السجن المعلوم، وظهرت براءته لدى العموم، فنظم قصيدة بارعة سارت مسرى الأمثال، يمدح بها الجناب الخديوي ويتبرأ مما افتراه عليه الجهال، ولما عرضت على حضرة الخديوي أجلها، وأحلها من القبول محلها، وطلبه للمثول بين يديه، وأقبل عليه بكليته وأعاد معاشه إليه، فنظم قصيدة ثانية ضمنها واقعة الحال، مع التنصل مما نسب إليه والتشكر على ما نال، وفي سنة ثلاثمائة واثنتين توجه إلى الأقطار الحجازية، لأداء فريضة الحج الشرعية، فاجتمع بأكابر علمائها، وأفراد فضلائها وأدبائها، فاعترفوا له بقدره، وصدق كل منهم على ارتقائه في سره وجهره، وله في هذه السفرة رحلة جليلة، قد احتوت من بديع النظم والنثر على كل نكتة جميلة. وفي سنة ثلاثمائة وثلاث سافر من مصر لزيارة بيت المقدس والخليل والشام، ومعه حضرة نجله عز تلو أمين بك الشهم الهمام، فحينما حضر اعترف له الجميع بكماله، وأنه يندر في هذا الوقت وجود مثاله، وشهد له فقاؤهم بالتضلع من علوم الشريعة، وفصحاؤهم بالبراعة في كل بديعة، ومحدثوهم بصحة الرواية، وعقلاؤهم بكمال الدراية، ولا يزال أثره بينهم مأثوراً، وفضله على ألسنتهم مذكوراً، ثم رجع من دمشق إلى بعلبك وأخذ طريق الجبل إلى بيروت، وألوان الزهور في طريقه وأرجها يغني عن الشراب والقوت. وقد كان رحمه الله من الطبقة الأولى في النظم والنثر، ومن الفرقة الذين انفردوا بالجاه والرفعة والقدر، قد اشتهر ببراعة القلم في ريعان شبابه أيام كانت مصر خالية من الكتاب، يقل فيها الناظرون إلى لباب الآداب، وكان على تأخره في الزمان، يذهب في نثره مذهب أهل القرون الوسطى من أبناء اللسان، تمتزج عباراته بالأرواح رقة، وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة، ولا شيء أسلسل من سجعه، إلا ما وهب من طبعه، وغاية ما أقول أن شهرته رحمه الله في النثر والشعر معلومة تغني عن إطالة الكلام. شبابه أيام كانت مصر خالية من الكتاب، يقل فيها الناظرون إلى لباب الآداب، وكان على تأخره في الزمان، يذهب في نثره مذهب أهل القرون الوسطى من أبناء اللسان، تمتزج عباراته بالأرواح رقة، وتسري معانيه إلى عمائق القلوب دقة، ولا شيء أسلسل من سجعه، إلا ما وهب من طبعه، وغاية ما أقول أن شهرته رحمه الله في النثر والشعر معلومة تغني عن إطالة الكلام.
وكان من حال شبابه له في أكثر العلوم تضلع وإلمام، فكان يكتب للملوك والأعيان، على لسان الدولة المصرية ذات القدر والشان، ولا يقدر أحد من أهل الأدب، أن يقلده إذا أنشأ أو كتب، فكأن هذا الأمر قد انتهى إليه، ودار مدار قطبه عليه، وقد نوه بفضله وعلو قدره، كثير من ذوي مصره وأهالي عصره، منهم الأديب الماهر، والناظم الناثر، أحمد أفندي فارس صاحب الجوائب والرأي العال، فقد ذكره في كتابه سر الليال، حين تكلم على السجع فقال: وممن برع فيه في هذا العصر، وحق لديه العلو والفخر، في الإنشاءات الديوانية، وهي عندي أوعر مسلكاً من المقامات الحريرية، الأديب الأريب الفاضل العبقري، عبد الله بيك فكري المصري، فلو أدركه صاحب المثل السائر، لقال كم ترك الأول للآخر. فسبحان المنعم على من يشاء بما شاء، ومن أجل تلك النعم الإنشاء.
ومن إنشائه كتاب له في زمن جناب إسماعيل باشا الخديوي السابق على لسان سعادة علي باشا مبارك ناظر المعرف العمومية إلى المرحوم سلطان باشا حين كان مفتش الأقاليم الصعيدية يستحثه فيه على ترويج جريدة روضة المدارس وهي صحيفة استحدثت إذ ذاك في ديوان المدارس.
قال رحمه الله بعد ديباجة الكتاب:

لا يخفى أن تقدم الأمة في طريق التمدن، ورسوخ أقدامها في ذروة التمكن، إنما يكون بواسطة عظمائها وعلمائها، وفضلائها ونبلائها، وهذا إنما يمكن الوصول إليه، والحصول عليه، بنشر آثار بيانهم، واستفادة العامة من استفاضة أنوار أذهانهم، وهذا أيضاً لا يتأتى إلا بالوسائل النشرية، أي بوسائط الصحف الدورية العلمية والخبرية، وهذه إنما تستقيم سوقها، وتنفق سوقها، بواسطة أعيان الأمة الكرام، وترويجهم لها عند الخاص والعام، وهذا كما يقال تشبيب بعده مديح، وتلويح يعقبه توضيح وتصريح، والغرض من هذه الوسائط المتصلة، والوسائل المتسلسلة، إنما هي روض المدارس وهي روضة ابتدئ غراسها، وجنة أنشئ أساسها، فإن ساعدها الإقبال بإقبال سعادتكم عليها، وتوجيه نظر أولي العوارف والمعارف إليها، رويت بماء الفضل والإفضال، وانتعشت بنسمات الكمال والجمال، فعند ذلك تتنوع أشجارها، وتتضوع أزهارها، وتينع ثمارها، وتثبت أصولها، ويكثر محصولها، وتتسع مزارعها، وتعم الأمة منافعها، وإن نالها من الإغماض سموم الإدبار، وأصابها من الإعراض إعصار فيه نار، خصوصاً وهي قريبة العهد بالوجود، عاطشة لماء الفضل والجود، ذبلت أغصانها، وذوت أفنانها، وانتثرت أوراقها، وسقطت ساقها، وأنتم أولى من يغار للفضل وأسبابه، وينهض ويستنهض غيره لفتح بابه، لا سيما وإقليم الصعيد، أول ما عمر من هذا القطر السعيد، وقد صار والحمد لله سلطان الفضل به ظاهراً، وصادف من العناية العلية الخديوية قوة وناظراً، والمرتب فيه الآن، من روضة المدارس نسختان لا غير، وهو أقل القليل بالنسبة لمن به من أهل الفطنة والخير " إلى آخره ". ومن إنشائه مقدمة وجيزة له، في محاسن آثار الداروي المعظم محمد علي الكبير وأخلافه قال: بك اللهم نستفتح باب النجاح، ونستمنح أسباب الفلاح، وبالثناء عليك بجلائل أسمائك، نستوهب المزيد من جزيل نعمائك، وباستدعاء صلات صلاتك على خير الشفعاء لديك، نتقرب به ونستشفع به إليك، فإنه أكرم الخلق عليك، باسطين على أبيابك أكف السؤال، متوسلين إلى جنابك ببضاعة الرجاء وضراعة الابتهال، أن تديم دولة أمير المؤمنين، وأمين أمور المسلمين، خليفة رسولك الأمين، على من استرعيته من العالمين، وتعز به الملك والدين، أبد الآبدين، وأن تمتع بطول الدوام، وحصول المرام، حضرة عزيز مصرنا، وغرة وجه عصرنا، وتحفظ له أنجاله الأمجاد، وتبلغه من حسن أمرهم ما أراد، وأن تديم توفيقه لما فيه صلاح حالنا ومآلنا، ونجاح أعمالنا وآمالنا، وفوز أوطاننا بأوطانا، وسمو أقدارنا بأقطارنا، وأن تعين أمراءه وعماله وأمناءه، على معاضدته في أعماله الناجحة، ومساعدته على آماله الراجحة، وأن توزعنا شكر نعمك، وتودعنا بر كرمك، وتهدينا سبيل الرشاد، وتوفقنا للخير والسداد، " كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً ".
وبعد فلما كان التحدث بالنعمة طاعة، والشكر عليها واجباً على قدر الاستطاعة، كان علينا أن نحلي بنان البراعة، ونطلق في ميدان البلاغة عنان اليراعة، بذكر ما أنعم الله به على هذه الديار السعيدة الجد في عهد عزيزها الأسعد، ووالده الماجد وجده الأمجد، وقد أفادت التواريخ العظيمة بإجماعها، وشهدت الآثار القديمة بلسان إبداعها، إن هذه الديار، كانت في سالف الأعصار، قدوة الأمصار، في المجد والفخار، وكعبة الفضل التي يحجها كل ناجب، من كل جانب، ومدينة العلم التي يقصدها كل طالب، من الأجانب، ليستفيدوا من أهلها عوارف معارفهم، ويستزيدوا في طرائف لطائفهم، ويتعلموا عليهم، ما لم يكن إلا لديهم، من الصنائع العجيبة، والبدائع الغريبة، فهم الذي سهلوا سبل البراعة لسالكيها، وذللوا أعنة الصناعة لمالكيها، على حين كان غيرها لم ينشق عن صبح المعارف ظلامها، ولا انزاح عن وجه التمدن لثامها، فكانت مصر أم الدنيا تقدماً وتقديماً، وأهلها آباء الناس تربية وتعليماً، وكان الكل عيالاً عليها، وأطفالاً بالنسبة إليها، وناهيك دلالة على فضلها القديم، ما حكاه أفلاطون الحكيم، أن سولون الفيلسوف الكبير، أحد حكماء اليونان المشاهير، لما قدم إلى إقليم الغربية، ليمارس العلوم والمعارف الحكمية، وذلك قبل المسيح عليه السلام، بنحو من سبعمائة عام، قال له قسوسها: يا سولون إنما أنتم معاشر اليونان بالنسبة إلينا أطفال، ليس فيكم من شيخ يعد في الرجال، إلى آخر ما قال. وحسبك من بقاياها، ما تراه في خبايا زواياها من بدائع الأسرار المرموزة، في روائع الآثار المكنوزة، التي سارت بأحاديث فضلها الأيام فهي نجائب، وعقمت عن إنتاج مثلها حبالى الليالي التي تلد العجائب، فهي أحدوثة الزمان، وأعجوبة الإمكان، وبكر الفلك الدائر، ويتيمة الدهر الداهر، وقد طالما حاولت يد الزمان الغالب أن تعفي آثارها، وطاولت همم المتغلبين عليها من الملوك الأجانب دمارها، فلم تزل منها بقية يغالبهم إفناؤها، ويعاندهم بقاؤها، حتى شلت عنها يد الأعادي، وملت منها غوادي العوادي، وحتى خضعت لديها أرباب الأفكار العالية، وتقطعت عليها رقاب الأمصار الخالية، وحتى لقد هرمت الأيام، وهي متباهية بشبابها، وتصرمت الأنام، وهي باقية بين أترابها، ناطقة ببراعة عبارتها، شاهدة في إشارة حسن شارتها، شاهدة لمصر بما لها من قدم المجد المؤيد، وقدم الصدق في السبق إلى كل سؤدد، على أنها لو جحد الخصم دعواها وهيهات، وطالبها خصمها في محافل الفخر بإثبات ما فات، لكفاها أن تقيم شاهديها الكريمين، من هرميها الهرمين، فيخبرا بما كان، من قبل الطوفان، ويشهدا بما علم من فضلها، وما كان من مجد أهلها، وأنهم كانوا أثبت الناس في التمدن قدماً، وأسبقهم إلى التفنن قدماً، وأطولهم في محاسن الفضائل باعاً، وأميلهم إلى محاسن الشمائل طباعاً، ثم تناولتها الأيادي المتطلبة، وتداولتها الأعادي المتغلبة، فنددوا فضلها، وبددوا شملها، وأتلفوا ما استطاعوا من تلك المعالم، وتفننوا في أنواع المظالم، حتى أصبح مزاج الفضل بها فاسداً، وسوق العلم فيها كاسداً، وربع المعالي خالياً، وبيت الأماني على عرشه خاوياً ولم تزل كذلك إلى أن انتهت إلى المرحوم محمد علي علي الشان، سقى الله ضريحه سحائب الغفران، وأحل روحه رياض الرضوان، فخلصها من مصاعب المصائب، واستخلصها من نيوب النوائب، وصيرها موطنه ومأمنه وحماه، ومنع جانبها من صنوف الصروف وحماه، وبذل الجد في لم شعثها، ولم يأل الجهد في تسهيل دعتها، وأعاد ما سلب الفقر من نضارة نضارتها، ورد ما غصب لدهر من غضارة حضارتها، حتى زهت بحسن علاها وحلاها، ونسيت ما كان من بلائها وبلاها، إلى آخر.

ومن كلام هذا الشهم المصان عليه سحائب الرحمة والرضوان مقالة تليت يوم توزيع المكافأة على تلامذة المدارس والمكاتب بحضور الخديوي السابق إسماعيل باشا المعظم تلاها أحد التلامذة بحضوره وقد جعل في أثناء المقالة أبياتاً مرتبة في مواضع منها، فكلما وصل التالي إلى موضع ترنم بما فيه من النظم جماعة من التلامذة بألحان معجبة، وأنغام مطربة، صنع ذلك حسب الاقتراح، والمقالة المذكورة هي هذه " قال ": يا مفيض الجود على الوجود، ويا جامع الناس ليوم مشهود، نحمدك اللهم حمداً يكافئ مزيد نوالك، ونشكرك اللهم شكراً يستتبع دوام أفضالك، ونسألك أن تهدي لسيد الشاكرين، وأشرف الأولين والآخرين، صلة صلاة تليق بجنابه، وتعم جميع آله الكرام وأصحابه:
أزكى صلاة وأسناها يرادفها ... أزكى سلام على المختار هادينا
وآله الطهر والصحب الأماجد من ... بهديهم قد أقاموا للهدى دينا

ونتوسل اللهم بهم لديك، باسطين أكف الضراعة إليك، سائلين من فضل كرمك، متمسكين بحبل نعمك، أن تديم عزة عصرنا، وقرة عين مصرنا، من أعاد لهذه الأوطان العزيزة قديم اشتهارها، وجدد ما اندرس من معالم فخارها، وأجرى ما نضب " قوله نضب أي غار " من منابع يسارها، فأضحت تباهي سائر بلاد الدنيا وأمصارها، ونشر أنوار الفنون والمعارف بين أبنائها، بما أنشأ من المدارس والمكاتب في جميع أنحائها، وما صرف من جزيل كرمه عليها، وما عطف من جليل هممه إليها، حتى أصبح نور العلم والعدل في ظل أيامه فاشياً، وظلام الظلم والجهل بحكمة أحكامه متلاشياً.
في ظل دول إسماعيل قد ظهرت ... في مظهر الشرف الأعلى معالينا
وساعدتنا الليالي وازدهت فرحاً ... أوطاننا وسعدنا في أمانينا
أدامه الله محفوظ الجناب على ... طول الزمان وهناه المنى فينا
ودام أنجاله في عز دولته ... مدى الليالي فهم عز لوادينا
فحق على جميع أهل الوطن الكريم، شكر هذا الجناب الخديوي الفخيم، على ذلك الخير العظيم، والبر العميم، ولا سيما نحن أبناء المدارس الميرية، والمكاتب المحلية، الأهلية والخيرية، فقد نشأنا في ظل عدله، وربينا على موائد فضله، وتعلمنا كل ما تعلمنا بحسن إرشاده، وتقدمنا فيما تعلمنا بمساعدته وإسعاده، فنحن صنائع كرمه، وربائب نعمه، وغرس أياديه الكريمة، وثمرات مساعيه الجسيمة، غرسنا في أرض أفضاله، وسقانا زلال نواله، وتولانا بكامل عنايته، وتعهدنا بعلي رعايته، وسنكون بمشيئة الله وعونه أرواح نجاح، ونثمر بمنه ويمنه للوطن حسن صلاح وفلاح، وها هو أدام الله أيامه، وبلغه من جميع الخير ما رامه، شرع يكافئنا على نعمه بنعمه، وشرفنا في هذا المحفل الباهر بنقل قدمه، كرماً على كرم، ونعمة على نعم، فعلينا من الواجب البين، وجوب الفرض المتعين، أن نجعل أيامناً ظرفاً لشكر نعمته، وأجسامنا وقفاً على حسن خدمته، وألسنتنا مدى الدهر ناطقة بمدحته، وقلوبنا مدة العمر متفقة على طاعته، ومحبته، وأن نبذل في تحصيل رضاه غاية إمكاننا، ونجاري إن شاء الله مقاصده الكريمة في نفع أوطاننا، وحق لنا الآن أن نتهادى بيننا علائم التهاني. ونبشر نفوسنا وأوطاننا بغايات الأماني، وعلينا أن نعلن بعد شكره وشكر حضرات الأمراء العظام، وإعلام علماء الإسلام، وسائر الحضائر الكرام، أدام الله معاليهم، وأسعد بهم أيامهم ولياليهم، وعلينا أيضاً أن نعترف بحسن اجتهاد رؤسائنا معنا في التربية والتعليم، على وفق مقاصد الجناب الخديوي الفخيم، ونقوم لهم بواجبات الشكر والتكريم، شكر الله أياديهم، وتقبل مساعيهم، وأعاد لنا وللجميع في مثل هذه الأيام، عيد هذه العادة الحسنة الخديوية كل عام، ببقاء ولي النعم، الخديوي الأفخم، متعه الله بدوام توفيقه وإقباله، وكامل أشباله الأماجد وأنجاله، وسائر ذويه الكرام، وبلغه غاية المرام.
ندعو له وإله العرش يسمعنا ... فضلاً ويعلن بالإخلاص داعينا
دعاء صدق إذا الداعي استهل به ... يقول سامعه آمين آمينا
ومن كلامه رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ما كتبه لبعض أصحابه ذكر فيه من أحوال الذين يلبسون لباس العلم على تماثيل الجهل، وينتحلون النسبة إلى الفضل، وليسوا منها في كثر ولا قل، وقد جاء في ذلك الكتاب على ذكر اللغة العربية وقواعدها، وآدابها وفرائدها، بما فيه تنبيه لغافل، وعظة لعاقل، بعبارات تأخذ بالألباب، إلى جادة الصواب، قال رحمه الله في وصف أشخاص: أما فلان وأترابه، وفلان وأضرابه، فهم أعجوبة الأيام، وأحدوثة الأنام، أحوال متناقضة، وأفعال متعارضة، فكبر وفقر، وعجز وفخر، وأنف في السماء، وقدم في الماء، وحال تحت التراب، ونفس فوق السحاب، إن صدقتهم كذبوا، وإن أرضيتهم غضبوا، وإن تباعدت عنهم لاموا وعذلوا، وإن تقربت منهم سئموا وملوا، كلاب في جلود أسود، وجوه بيض وقلوب سود، صغيرة السيئة عندهم كبيرة، وكبيرة الحسنة لديهم صغيرة، عيون منتقدة، وقلوب متقدة، وألسنة حداد، وأفئدة شداد، وأجسام صحيحة وقلوب مريضة، وجهل طويل ودعاو عريضة، النصح لديهم خيانة، والسوء عندهم ديانة، وقد بذلت في مرضاتهم جهدي، وأجنيتهم مري وشهدي، وقابلتهم باللطف والعنف، وعاملتهم بالنكر والعرف، فلا وأبيك ما زادوا إلا فجورا، وعتوا عتواً كبيرا، ومكراً وشرورا، وكبراً وغرورا، ولو وقف عليهم ليلتي ويومي، وهجرت لديهم راحتي ونومي، وفديتهم بعشيرتي وقومي، ثم أطعمتهم من جسمي، وآثرتهم من العافية بقسمي، لما بلغت من نفوسهم رضاها، ولا أديت من حقوقهم على زعمهم مقتضاها، بل ولو صاحبهم جبريل، وخاطبهم بالتنزيل، وأهداهم الجنة في منديل، وأنزل الشمس إليهم في قنديل، ونظم لهم النجوم عقودا، وشق لهم من المجرة برودا، وصير الأنس والجن لهم عبيدا، وجعل الملائكة لهم بعد ذلك جنودا، وأطلعهم على غيب السماء والأرض، وخبرهم بما كان وما يكون إلى يوم العرض لما أصبح عندهم إلا مذموما، ولا أمسى لديهم إلا ملوما، ولكان منسوبا للقصور والتقصير، والإخلال بالقليل والكثير، قوم هذه طباعهم وتلك أوضاعهم، من ذا يرضيهم بحال، ولو فعل لهم المحال إلى آخر ما قال.
ومن ذلك ما كتبه رحمه الله تعالى إلى الأديب الفاضل، والأريب الكامل الشيخ عبد المجيد أفندي الخاني، يصف له رحلته من الشام إلى بعلبك وما رآه من الرياض البديعة، والمناظر الرفيعة، والمياه الصافية الجارية والنسمات العليلة السارية مما يشرح الخاطر ويسر الناظر، فقال: أهدي إليك من منعشات التحية والسلام، وأتلو عليك من مدهشات الشوق والغرام، ما يجمل أجماله لواصفه، ولا يلزم تفصيله لعارفه، وأحمد إليك الله سبحانه على كرامة السلامة، ومنحة الصحة، حمداً أستفيض به غمام عطائه، وأستفيد به دوام نعمائه، وأقص عليك من أمر الرحلة البعلبكية، نظير ما سلف من خبر الرحلة المكية، وذلك أنا سرنا، يوم ثرنا، من دمشق في طريق دمر، نستحث إليها الضمر، بين مياه تتكسر في مجاريها، ونسائم تتعثر في مساريها، وأشجار تميد بأغصانها، كما تميس الخود بين أخدانها، وأحاديث عن الشام ومبانيها وبهجة مغانيها، ولطف أهليها لا سيما بيت خانيها، تستطيبها الشفاه، وتتعطر بها الأفواه:
فإن أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
وأقول:
يا أهل جلق لا زالت مفاخركم ... في المجد تسمو علاها فوق كيوان
أغنت مكارم خانيها نزيلكم ... عن أن يعرج في المثوى على خان
ورب واصف خان لي ألم به ... فقلت حسبك ما قصدي سوى الخاني
فلما جاوزنا دمر عرجنا تعريجة، نبتغي الطريق إلى الفيجة، وبين يدينا مكار، جاهل بها ممار، لا يهتدي إليها سبيلا، ولا يستهدي عليها دليلا، فمشى يخبط بنا خبط عشواء، في بهماء دهماء، لا يدري في أي أنحائها يسير، ولا إلى أي أرجائها يصير، فما زال يخطونا ويخطي، ويسرع ويبطي، حتى وافينا على طريقنا شجرا، ألفينا عنده نفرا، فسلمنا عليهم، وجلسنا إليهم وعرفناهم ما نحن فيه، وعرفونا الطريق الذي نقتفيه، ثم أكلنا ورحلنا، وانبرى معنا شاب منهم خفيف الخطا، وأهدى من القطا، فمضى يتخلل بنا شجر التين، ذات الشمال وذات اليمين، حتى وصل بنا إلى درب دمأته الأقدام، وقال لنا الأمام الأمام، فقال المكارى عرفت الدرب بشارته، وفهمت إشارته، فلا تخافوا دركاً ولا نضل من بعد مسلكاً، فلم يكن إلا أن غاب الشاب، في خلال الغاب، وسرنا نحو ما قصدنا قاب قوسين أو أدنى، وتفرقت على المكاري الشعاب، فأخطأ صواب الصواب وأضل الأسباب، فسلك ذات اليمين طريقاً ترجح عنده، وانقلب على عقبه فسلك ضده، ثم ارتد ثانياً، ولوى عطفه ثانياً، ولعن الحصان الذي تحته وسبه، وألحق به دينه ومذهبه، ومن باعه ومن ركبه، وأمواته وأحياءه، وعشائره وأحياءه، ووقف بين الطرق وقفة المتخير، والأحرى في العبارة أن نقول وقفة المتحير، يتنفس حسرة، ويتلفت يمنة ويسرة، بنفس يائسة بائسة، بين جبال يابسة عابسة، في معطشة تجفف الريق في الحلوق، وتكاد تسيل الدم من العروق، فصرنا نتردد بين تلك الجبال، تردد الحب بين جوانب الغربال:
كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق
ثم جاز بنا إلى طريق توخيناه، " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "، فوافينا خضرة ونضرة، وجمال سعة ونظرة، وأشجاراً وأنهاراً، وأثماراً وأزهاراً، وحدائق ذات بهجة، وحقائق تنعش المهجة، حتى انتهينا إلى موضع غدير، من ماء نمير، غزير الموارد، عذب بارد، غير مزدحم بالصادر والوارد، ونهر أحلى من لمى العذراء، يعرف بالعين الخضراء، وجدناه أبهى من العين السوداء، وأشهى من الوجنة الحمراء، وأغلى من البيضاء والصفراء، وأحسن ما تحت الزرقاء، وفوق الغبراء، تحف حافتيه أشجار بديعة الائتلاف والاصطفاف، مكللة بآلاف من الفاكهة متنوعة الأصناف، عليها من رونق الورق المونق، ثياب سندس خضر واستبرق، ومن الثمر والزهر، أنواع زمرد وجوهر، والنهر بفرط صفائه، ورقة مائه، ينم على ما بأسفل أجزائه، من رحله وحصبائه، كأنها در منثور، في باطن بلور، أو كافور مذرور، في غلائل من نور، يظفر فيه كل من الحواس الخمس بحصته، من نعيمه ولذته، فالباصرة بحسن رؤيته وبهجته، واللامسة بطلف ملمسه مع برودته، والذائقة بعذوبته، والسامعة بخرير تياره، والشامة بعبير أشجاره وأزهاره، فلم نتمالك أن ملنا إليه، وترامينا عليه، لائذين من خطر ما مر، عائذين به من ضرر الظمأ والحر، لنتبوأ به مقيلا، ونتفياً منه ظلاً ظليلا، ونتلو " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا "، ونتمثل بقول الأول:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
يرد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
إلى آخر ما قال وبالجملة فلا عيب يذكره لهذا المنظر، سوى إعجاز واصفيه، عن وصف ما فيه. فلما أخذنا بغيتنا من الراحة والاستقرار، وخشينا أن ينهار جرف النهار، نهضنا إلى الترحال فشددنا الرحال وملأنا المزاود من ذلك الماء الزلال، ونزعنا عنه والنفس نازعة إليه، حائمة عليه، مرفرفة حواليه، ثم سرنا نخبط، ونصعد ونهبط، والنهر يبعد ويقرب، ويشرق نوره ويغرب، حتى وصلنا الفيجة فوجدناها مغلقة الأبياب، خالية الدروب والشعاب، لا يرى سالكها من أنيس، ولا اليعافير ولا العيس، إلا كما قال الأعرابي:
عجائزاً مثل السعالى خمسا ... يأكلن ما يلقى لهن همسا
لا ترك الله لهن ضرسا
كأن الإنسان يمر بها في جبانة قبور، وأرض متناسقة الصخور، أو مساكن قوم بور فجاوزناها واستمر مريرنا في المسير، وإن كنا لا ندري كيف يكون المصير، نسأل عن الدرب والسؤال ذل، إن وجد في طريقنا من يدل، وما زلنا في صعود وهبوط، ورجاء وقنوط، حتى وصلنا إلى رأس السوق، وكأنا قد ظفرنا ببيض الأنوق، فصادفنا بها مجمع فئام، بين قعود وقيام، فزعموا أن ليس بها دار للمقام، غير ما سبق إليه بعض مأموري الحكام، فأخبرناهم بأنا لسنا من أولئك الأقوام، وأنا لا نبخل ببذل الحطام، فمضى معنا بعضهم إلى دار لبعض أهاليها، من خير مبانيها على ما فيها، وسألنا عما ينبغي للمأكول، من اللحم والبقول، فلم نجد غير دجاجات أضلتهن أيدي الحدثان، وأفلتتهن مخالب أنسر لقمان، قد وعين الطوفان وتطاول عليهن تقادم الزمان، فما زلن يصاولن الأيام، ويواصلن الصيام، حتى يبسن وسمجن، وفني عليهن الحطب ولم ينجضن، فرغبنا عنهن، ويئسنا منهن، وملنا على بقية ما معنا من الزاد، وسارعنا بعد ذلك إلى الرقاد، فهاجمتنا بالسير الحثيث، جيوش البراغيث، تدب الضراء، وتمص الدماء، ولله در القائل:
وليلة بتنا لدى معشر ... قد غرت الناس أحاديثهم
فما أكلنا عندهم قدر ما ... قد أكلت منا براغيثهم
ولكن غلب علينا النوم، من تعب ذلك اليوم، حتى عطس الفجر بالأذان، وتنفس الصبح بأذن الرحمن، وأقبلت جيوش النهار من شرقها، وولت رايات الليل إلى غربها، وأشرقت الأرض بنور ربا، فبادرنا إلى المسير، يدل بنا على الدرب فارس خبير، جمعنا معه في الطريق لطف التقدير، لا عمل التدبير، حتى انفصل عنا منحرفاً لبعض القرى، بعد أن أشار لنا إلى طريق واضحة المسالك لمن يرى، فمضينا حتى انتهينا إلى الزبداني وهي قرية كثيرة الغراس، عامرة بالناس، فمكثنا بها حيناً للاستراحة من تعب السفر، وأخذها منها للوازم الغذاء بعض ما حضر، وأردنا أن نستأجر من أهلها من يرشدنا إلى المسالك، فكأن المكاري أنف من ذلك، فزعم أنه لن يضل بعد الآن، وأنه يعرف باقي الطريق حتى العرفان، وأكد الكذب بالأيمان:
وأكذب ما يكون أبي المثنى ... إذا آلى يميناً بالطلاق
فخرجنا، حتى وصلنا، رأس عين سائغة صافية، لدى ظلال سابغة ضافية، فنزلنا وأكلنا، واسترحنا وانشرحنا، ثم سرنا أميالاً، نعدها طوالاً، فصادفنا رجلين من السفار، من أهل تلك الأقطار، فعرفنا منهما أننا قد انصرفنا عن القصد ببعد، وانحرفنا بالكلية عن الطريق ولله الحمد من قبل ومن بعد، فاستصحبنا منهما من ردنا إلى الطريق المقصود، بعد بذل المجهود، في الهبوط والصعود. ثم وصلنا سرغاية فنزلنا واسترحنا، وبتنا حتى أصبحنا، فاتخذنا دليلاً من أهلها لما عرفناه مما أسلفنا، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين بل مرارا، ولا يلقي المرء بيده إلى مهالك التيه اختيارا، والحاصل أن مشى معنا ساعات من الزمان، بين جبال ووديان، في طريق تتلوى تتلوي الأفعوان يضل فيها الخريت، ويخاف بها العفريت، إلى أن وصلنا إلى الصراط المستقيم، بعون الله الكريم، فقال من هاهنا طريق بعلبك واضحة الأعلام. ثم ودعنا وانصرف بسلام، وسرنا حتى وصلناها بنية المقام فيها عدة أيام، وأعدنا المكاري بالدواب وباقي الأجرة إلى دمشق الشام، وتلونا بعد مفارقة طلعته، " وأن يتفرقا يغن الله كلا من سعته "، وفي العزم الجولان، أياماً في جبل لبنان ثم العودة لبيروت ومنها إن شاء الله للأوطان.
ومن توسلاته العلية حين زيارته للذات النبوية قوله:
يا أكرم الثقلين دعوة آمل ... عان ضعيف جاهد مجهود
يا أكرم الثقلين ضيف وافد ... ونداك أجدر بالقرى لوفود
يا أكرم الثقلين هذا سائل ... وافى لسدة بابك المقصود
يرجو لبانته ويشكو ضره ... ويرى منال السول غير بعيد
ويمد كف الذي روما للعطا ... وللاعتصام بحبلك الممدود
فامدد إليه يداً تعود جودها ... أن لا يرد يداً لطالب جود

ومن غرر قصائده ودرره وفرائده، تهنئته السنية ومدحته البهية، يمتدح ويهني بها الحضرة التوفيقية يوم جلوسه على الأريكة الخديوية، وهي بنت ليلتها مع عذوبتها وبلاغتها، وسهولتها وسلامتها، وذلك أنها بعد الموكب التوفيقي بليلة عرضت على مسامعه الشريفة الجميلة وهي:
اليوم يستقبل الآمال راجيها ... وينجلي عن سماء العز داجيها
وتزدهي مصر والنيل السعيد بها ... والملك والدين والدنيا وما فيها
قد أطلع الله في سعد السعود سنى ... بدر بلألائه ابيضت لياليها
وقام بالأمر رحب الباع مضطلع ... بالعبء جم شؤون النفس ساميها
ذو همة دون أدنى شأوها قصرت ... غايات من رام في أمر يدانيها
وراحة لو تحاكيها السحائب في ... فيض الندى هطلت تبرا غواديها
يزهو بها قلم سام يسوس به ... أمر الأقاليم نهائيها ودانيها
يجري بما شاء من حكم ومن حكم ... يصبو لحسن معانيها معانيها
ورأفة بعباد الله كافلة ... بخير ما حدثت نفساً أمانيها
مؤيد بالهدى والحق ملتمس ... رضا البرية لاسترضاء باريها
تربو على وصف مطريه محاسنه ... وهل يعد نجوم الأفق راعيها
توفيق مصر ومولاها وموئلها ... وركنها ومفداها وفاديها
وغصنها النضر أنمته منابتها ... من دوحة أينعت فيها مجانيها
خديوها، ابن خديويها ابن فارسها ... أميرها البطل الشهم ابن واليها
رأى الخليفة فيه رأي حكمته ... وللملوك صواب في مرائيها

رآه أجدر أن يرعى رعيته ... وأن يقوم بما يرجوه راجيها
وأن ينحي عنها ما أحاط بها ... من الخطوب التي هالت أهاليها
فجاء مرسومه السامي تطير به ... نجائب البرق يطوي البر ساريها
لله يوم جلا عن نور غرته ... كالشمس مزق برد الغيم ضاحيها
في موكب مثل عقد الدر في نسق ... أو كالنجوم الدراري في مساريها
يسير في مصر والبشرى تسابقه ... من حيث سار وتسري في نواحيها
يحفه أخواه الماجدان به ... مع الوزير شريف النفس عاليها
مشير صدق بحزم الرأي قد غرفت ... أفكاره بين باديها وخافيها
لا تنثني عن صواب الرأي رغبته ... لرهبة كائناً ما كان راعيها
حتى أتى القلعة الفيحاء فانطلقت ... فيها المدافع بالبشرى تواليها
واستقبلته صفوف الجند قد نظمت ... نظم القلائد زانتها لآليها
داعين تعلن ما في النفس ألسنهم ... بدعوة الخير والتأمين تاليها
فلتفتخر مصر إعجاباً بحاضرها ... على محاسن ماضيها وآتيها
إيه لقد أبدت الأيام سر منى ... طالت عليه الليالي تماديها
وأسعد الطالع الميمون أنفسنا ... بخير أمنية كانت تناغيها
هذا الذي كانت الآمال ترقبه ... دهراً وتعتده أقصى مراميها
ما زال في قلب مصر من محبته ... سر تبوح به نجوى أهاليها
تصبو له وأمانيها تطاوعها ... في حبه ولياليها تعاصيها
وترتجيه من الرحمن سائلة ... حتى أستجيب بما ترجوه داعيها
فالحمد لله شكرانا لأنعمه ... فالشكر حافظ نعماه وواقيها
يا ابن الذين لهم في المجد قد عرفت ... أخبار صدق لسان الحمد راويها

قادوا الجنائب من مصر مسومة ... إلى الحجاز إلى أقصى أعاليها
غرا سوابق مشهوراً سوابقها ... مقرونة بأعاليها عواليها
قباً ضوامر كالآرام يكنفها ... ليوث حرب بأيديها مواضيها
تموج في زرد الماذي سابحة ... تحدي بأرجلها عدواً أياديها
رموا بهن صدور البيد معنقة ... على نحو أعاديها عواديها
قد عددوهن أن لا ينثنين عن الهيجاء إلا إذا كفت عواديها
وإن يطأن على هام الكماة إذا ... لف الوغى بهواديها تواليها
فاستنفذوا حرم الرحمن من عصب ... لم يرع حرمة بيت الله راعيها
وأوردوا الخيل نجداً فاستبوه ولم ... تعسر عليها عسير في مساعيها
وكان تأييدها أمر الخلافة في ... مواطن الحرب من جلى معاليها
مولاي دعوة إخلاص يكررها ... داع أياديك أرضته أياديها
هنئت علياء قد وافتك خاطبة ... تختال تيهاً وتزهو في تهاديها
علياء فاقت علواً كل منزلة ... فلم يكن في سواها ما يساويها
رأت علاك فشاقتها حلاك فلم ... تسمح لغيرك من خل يخاليها
وكم سمت نحوها نفس تؤملها ... من قبل لكنها ضلت مساعيها
تجاذبوها فرثت في أناملهم ... حبالها وتمادت في تنائيها
قضوا غراماً ولم يقضوا بها وطراً ... فكان أصل مناياهم أمانيها
فاسلم أقر بك الرحمن أعيننا ... ولا برحت لها مولى تواليها
وأقر سمعك من حلو الثناء حلى ... يلهو بلحن المثاني صوت شاديها
حلى كما انتظم العقد الفريد على ... لبات حسناء تجلوه تراقيها

وهاك غراء من حر القريض إذا ... ما أنشدت خلب الألباب تاليها
وفخرها أنها في المدح قد صدعت ... بقول صدق فلا حي يلاحيها
يسهو بها الراكب المزجى مطيته ... عن حاجة راح يغدو في تقاضيها
يسائل الناس أي الناس قائلها ... وأي بر به الممدوح جازيها
وإنما حسبها براً وتكرمة ... منه قبول وإقبال يوافيها
تدري القصائد أني لست أقصدها ... إلا وللحب داع من دواعيها
ولا تجافيت عنها قبل من حصر ... بحمد ربي ولا ضنت قوافيها
لكنها نفس حر لا تهم بما ... لا يستوي فيها باديها وخافيها
تسعى إليك وفرط الشوق قائدها ... إلى رحابك والإخلاص حاديها
وافت تهنئ مولاها مؤرخة ... توفيق مصر بأيد الله راعيها
سنة 1296 وله أيضاً رحمه الله تشكراً للحضرة الفخيمة الخديوية بناء على إحسان سموه إلى حضرة نجله عز تلو أمين بيك فكري بالنيشان العثماني من الدرجة الرابعة قوله:
لمولاي العزيز علي فضل ... بنعمته على ولدي الأمين
تحقق في مقام الشكر عجزي ... فآثر أن أرى ولدي معيني
ومن ذلك قصيدته التي تلاها يوم فتح المؤتمر العلمي السويدي بحضرة جلالة الملك اشكار المعظم وأمراء دولته، ووجهاء الوفد المذكور، وقبل ذكر هذه القصيدة نذكر فصلاً خفيفاً مما حصل قبل فتح المؤتمر في السويد والنرويج فنقول: أنه لما وصل الوفد العلمي إلى استكلم ونزلوا الأوتيل " الفندق " وكان هناك الكونت لاندبرج فحضر وسلم عليه ومضى بهم إلى مكتب المؤتمر محل أشغاله، فأطلعهم على المحل المعد لانعقاد المؤتمر في جلساته العامة والخاصة، وموضع كل من الوافدين فيه، وفي ذلك الموضع محل معد للوفد المصري، وهو في جزء مرتفع عن باقيه بدرجة، وبه كرسي الملك، وخلف ظهره كراسي العائلة الملوكية، وعن يساره موقف من يخطب، وكراسي لجلوس الوفد المصري، وهو الجزء المذكور، وعن يمينه بعض وزرائه، وسفير العجم في الآستانة العلية محسن خان، والوفد العثماني وبقية وفد العجم، وبين يديه الكتب المهداة إليه، وفي باقي المحل أسفل من هذه الدرجة مواضع باقي الناس أعضاء المؤتمر، والمحل يسع الخمسمائة نفس، وفي أعلاه محل مرتفع مشرف عليه لجلوس النيابة، يسع نحو مائة وخمسين. وقد حضر جلالة الملك في أثناء وجودهم في المحل المذكور، فرآهم وعرفه بهم الكونت لاندبرج، فسلم عليهم بيده واحداً واحداً، وقابل الجميع بغاية البشاشة، ولما سلم على سعاد تلو المرحوم عبد الله باشا فكري المترجم أظهر له محبته الزائدة، ومحبة جناب الخديوي المعظم، وشكره على إرسال هذا الوفد للمؤتمر العلمي الذي كان سبباً لحضور المترجم، ولما سلم على حضرة نجله عز تلو أمين بك فكري وكان أحد أعضاء الوفد المصري، قال له أنت ترجماني لوالدك مما دمتما هاهنا، ولم تكن مقابلتهم هذه رسمية. وفي ثاني يوم طلبهم الملك إلى سرايته وأرسل إليهم عربات مخصوصة حضرت إليهم لمقابلة جلالته المقابلة الرسمية فتوجهوا بالكساوي التشريفية والنيشانات فأعلن المسرة والمنونية، والثناء على الجناب الخديوي الفخيم، فسلم إليه المترجم المحرر الكريم الذي أرسله الخديوي لجلالة الملك، وأجاب رحمه الله قائلاً: مولاي أقدم لجلال مقامك الرفيع الشان تحايا التعظيم والإجلال والثناء الفائق من لدن مولاي خديوي مصر المعظم، مؤيداً ذلك بتقديم محرر سموه المنطوي على خاص المودة، المتضمن تعييني وتعيين رفاقي الماثلين بين يدي عظمتكم للحضور في المؤتمر العمومي العلمي الذي توجهت خواطركم الملوكية لانعقاده في هذه المملكة العامرة، لما يترتب عليه من الفوائد المهمة لنشر العلم وتقدمه واتحاده باشتراك القريب والبعيد والشرقي والغربي فيه، ولم يكن ذلك ليأتي إلا بتوجيه همة الملك إليه. فلك يا مولاي الفضل الجزيل على ذلك المسعى الجميل، وأختم قولي بتقديم واجب تشكراتي لما نلت من لطف الرعاية الملوكية في هذا الموقف النبيل، لا زال موقع إجلال ومنتهى كمال. وكان ذلك يوم الأحد غرة سبتمبر سنة 1889 وانصرفوا.
وفي ثالث يوم اجتمع الناس لافتتاح المؤتمر، وحضر الملك وحضر الناس، وأخذ كل موضعه، فافتتح الملك المؤتمر بخطبة حسنة ألقاها وأجاد فيها وفي حسن أدائها، قال في ضمنها: إن السلطة قبل كانت للقوة والاستبداد، وليست الآن إلا للعلم، ومضى فيها حتى أتمها واقفاً، والناس بين يديه وقوف، ثم جلس، وخطب بعده المسيو كريمر وافد النمسا، ثم سفر العجم، فخطب خطبة باللغة الفارسية، ثم وافد السلطنة العلية العثمانية أحمد مدحت بك، فتلا مقالة باللغة التركية. ثم أشير إلى سعادة المرحوم المترجم، فأنشد قصيدة وهي بألفاظها الرائقة، ومعانيها الشائقة، قوله:
اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس سمائها أنوار
وزهت فنون العلم وازدهرت به ... أفنانها وتناسقت أزهار
وغدت لأرباب المعارف دولة ... غراء صاحب ملكها أسكار
اسكار الثاني الذي اعترفت به الأقطار وارتفعت به الأقدار
ورعى حقوق العلم يعلي قدره ... فنما بهمته له مقدار
ودعا له الفضلاء دعوة ناصر ... للعلم فهو بهم له أنصار

هي دعوة طنت بآذان العلى ... وتناقلت أخبارها السمار
عرفت بقيمتها البلاد وأهلها ... وملوكها وتسامع الأقطار
أمر أمير المؤمنين أعاره ... نظراً وأنظار الكبار كبار
فسرى به في مصر من توفيقه ... نور ومن بركاته أسرار
وإذا المليك أراد ينجح مقصداً ... نالته من توفيقه آثار
مولى له في كل مكرمة يد ... ولكل موقع مقصد أنظار
وأعان كل زعيم مملكة له ... بشؤون أهل بلاده استبصار
يحدو إلى أرض السويد أماثلاً ... من قومه أمثالهم أخيار
مستظهرين بدعوة الملك التي ... عمت وما لسماعها إنكار
فتسارع العلماء تلبية له ... بالطوع تسبقهم له الأخيار
بفنائهم صيت يشوق سماعه ... ويسوقهم شوق إليه مثار
سمعوا بشهرته وصيت ثنائه ... سمعاً يذكرهم به التكرار
وسما بهم في استكلم بأمره ... ناد تشاخص دونه الأبصار
جمعته من شرق البلاد وغربها ... وجنوبها وشمالها الأقدار
ألقت بأفلاذ الكبود إليه من ... أبنائها في حبه الأمصار
ناد به احتفل الأفاضل حفلة ... بحديثها تتقادم الأعصار
جمعت لنا من مرة معدودة ... في الدهر لا ينسى لها تذكار
جمعتهم الأقدار جمع سلامة ... والله في أقداره مختار
متآلفين بعيدهم بقريبهم ... والفضل أقرب وصلة تمتار
من كل فياض القريحة ورده ... عذب وبحر علومه زخار
تتدفق الأفكار نحو يراعه ... فيفيض من أنبوبه تيار
من كل معنى شف عنه لفظه ... كالخمر نم بها الزجاج تدار
ومؤزر بالفضل مشتمل به ... منه شعار زانه ودثار
حبر إذا ولى اليراع بنانه ... زان الطروس بوشيها الأحبار

ويغوص أعماق المباحث باحثاً ... عن كشف كل فريدة تختار
درر يروق الطرف منها رونق ... بهج تحار بوصفه الأفكار
لذوي المفاخر من حلاها زينة ... تبقى ولا يبلى لهن فخار
لا زال ملك الفضل معمور الذرا ... بذويه ممدوداً له الأعمار
ولما فرغ رحمه الله من قراءتها، كل من في المؤتمر استحسنها وصفق، وخاطبه ناس منهم في ذلك اليوم باستحسانها، وحضر إليه كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها وساره بطلب نسختها، فأخذها في الحفلة وخطب بعد ذلك أناس منهم الموسيو شفر وافد فرانسا، وغيره، وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك ليس فيها تقديم موضوعات علمية، وبعد ذلك صارت الناس تجتمع في المؤتمر في أوقات مخصوصة، ويقدم كل واحد ما أراد تقديمه، وقدم المترجم ما أعده لذلك، فقوبل منه بغاية الاستحسان والاعتبار، وأعطي للمترجم نيشان " وسام " من النوع المسمى " وازا " من الدرجة الأولى، فشكر الملك على ذلك. وبعد انتهاء المؤتمر والمأمورية، ورجع كل إلى بلاده، نظم رحمه الله تعالى قصيدة غراء قالها في البحر، وهم عائدون إلى وطنهم العزيز، وهي مدحة سنية لمآثر الجناب الخديوي المعظم، ويقص على مسامعه الزكية بعض أحوال هذا المؤتمر، وهي:
دنت الديار ودانت الأوطار ... هذا المنار وهذه الأنوار
هذا المنار يلوح نجم هداية ... للناظرين تؤمه الأنظار
والثغر وضاح المباسم باسم ... للبشر في قسماته آثار
فرح يبشرنا ببشر سروره ... إن الخديو له به استقرار

فاليوم نلثم من بنان يمينه ... سحباً موارد فيضهن غزار
من كف فياض اليدين يمينه ... يمن ويسراه ندى ويسار
ونشنف الأسماع من ألفاظه ... دراً غدت أصدافه الأفكار
ونرى منار الحق فوق جبينه ... كالشمس ليس وراءها أستار
نور تلألأ في جبين موفق ... للحق في توفيقه أسرار
مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي ... لرضاك ما تسمو به الأقدار
نصل المغارب بالمشارق والسرى ... بالسير لا ملل ولا إقصار
ونلف أذيال الأباطح بالربى ... تنتابنا الأنجاد والأغوار
لا البحر ذو الأمواج نخشى بأسه ... يوماً وليس البر فيه نضار
البحر بر في رضاك بمن به ... والبر من جدوى نداك بحار
ومدى النهار صباح خير كله ... بسعود جدك والدجى أسحار
نطوي البلاد بطيب ذكره نشره ... عبق ونفحة ريحه معطار
ونؤرج الأرجاء باسمك مدحة ... طابت بها الأسحار والأسمار
يهتز سامعها بحسن سماعها ... طرباً ويخبر غائباً حضار
ويروح سامعها يميل بعطفه ... ثملاً كأن دارت عليه عقار
نفشي بها صدر الندي ندية ... يحلو بها الإيراد والإصدار
نتلو مديحك معلنين بنشره ... جهراً فلا كتم ولا أسرار
لا يعتري فحواه وصمة ريبة ... تخشى ولا رد ولا استنكار

ثم امتطينا للسويد ركائباً ... لا الركض يجهدها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه تيار
سرع الخطى لا السوط حل بجلدها ... يوماً ولا شدت به أكوار
تذر الرياح إذا جرين وراءها ... حسرى طلابح جريهن غبار
سرنا بهن على العشي فأصبحت ... في أستكلم وقد بدا الأسفار
ولقبت صاحب تاجها في قصره ... والوفد ثم بصحبتي نظار
فدنا وصافح باليمين مردداً ... شكر الخديو يزينه التكرار
فشرعت مقتصداً أجاوبه بما ... أرضاه لا قل ولا إكثار
ونحوت مؤتمر العلوم أؤمه ... بالوفد تهوي نحونا الأبصار
حتى إذا احتل الندي وأقبل العظماء والعلماء والأخيار
وتلا به اسكار رب سريره ... قولاً به لذوي النهي اسكار
وأجابه الخطباء كل محسن ... يزري بنظم الدر منه نثار
ودعيت باسمي للمقال موفياً ... حق الوفادة والوفاء شعار
أقبلت أبتدر القريض يزينه ... مولاي باسمك بهجة ووقار
حتى استتم الشعر فاصطفقت له الأيدي وذاك بمدحه أشعار
وتشعبت شعب الفصول مقرراً ... في كل فصل للعلوم قرار
فنحوت بالوفد الذين بصحبتي ... خير الفصول وصحبتي أخيار
ما فيهمو وهل الفؤاد يهوله ... حفل ولا واهي القوى خوار
كل أعد من المعارض ما اصطفى ... للعرض ثمة جملة تختار
وأجاد فيما قد أفاد بمنطق ... طوع المراد أمده استحضار
في لهجة العرب الفصيحة لفظهم ... حر، وهم في نفسهم أحرار
لا في مقالة قائلينا وقفة ... عرضت ولا لمقولنا إنكار

كالقطر جاد به غمام مبرق ... دانى الهيادب عارض مدرار
نبدي الذي نبدي وكل مطرق ... سمعاً ومنطق ذي المقال جهار
حتى نتم كما نشاء القول في ... أمد أعد لوقته مقدار
فيقول صاحبهم أما من باحث ... فيما يقول وقوله استفسار
وتصفق الحضار لاستحسان ما ... قلنا ويظهر فيهم استبشار
هاهم رجالك أيها المولى ولا ... من عليك ونعم من تختار
لا أبتغي مدحاً لنفسي أنني ... بعلاك أفخر لا عداك فخار
هذي محاسن يمن طالعك الذي ... بسعوده قد ساعد المقدار
ثم انثنينا راجعين يسوقنا ... لحماك أشواق لهن أوار
نأوي لخير حمى بظلك كله ... أمن وما للجور فيه جوار
فاسلم لمصر وأهلها ليرى بها ... لنماء غرس يمينك استثمار
واسلم لأنجال وآل كلهم ... خير وآل الخيرين خيار
وإليكها مولاي صنعة ليلة ... لحق العشار بوشيها الأسحار
حتى كساها الصبح رونق وجهه ... حسناً وألبسها الضياء نهار
إلى هنا اقتصرنا على بعض غرره وفرائده، من شائق نثره ورائق قصائده، وإلا فرحمه الله، درره لا تحصى، وجواهره لا تستقصى، وكم له من نثر فائق، ونظم رائق، والحق يقال أنه لغني بشهرته في الآفاق عن التعريف، وكيف لا وقد سبق رحمه الله فرسان التصنيف والترصيف، وبالجملة فإنه لا يماثله بكل فن مماثل، ولا يعادله في الفضل معادل، وحيث أنه قد أصيب هذا القطر بفقده وهو من أجلائه، لوذعي فاضل من أكابر فضلائه، وعالم من أجل علمائه، وأمير من صفوة أمرائه، وأديب حاز السبق في مضمار الفضل والأدب، وحسيب نسيب زينت أردان فضله سجايا المجد والحسب، رثاه بعض فضلاء العصر وأدباء مصر بقصائد طنانات يلوح عليها من قائليها الحسرات والزفرات، فقد فقد هذا القطر بل الدنيا هذا الحبر الفخيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولنذكر الآن بعض قصائد أولئك الفضلاء، تتميماً لترجمة من حلت روحه بالملأ الأعلى.
ومن ذلك ما كتبه حضرة العالم الأديب، والفاضل الأريب، أخونا عبد المجيد أفندي الخاني، أناله الله أحسن الأماني.
حجب البدرالذي أد ... رك في العلياء ما أدرك
هو عبد الله فكري ... فاختبر في وصفه فكرك
إذ غدا في كل علم ... غاية بالسعي لا تدرك
يا أمين المجد صبراً ... طول الله لنا عمرك
عظم الخطب فأرخ ... عظم الله به أجرك
ومن ذلك قصيدة حضرة الأستاذ العلامة، والحبر البحر الفهامة، الشيخ علي الليثي:
نذم المنايا وهي في النقد أعدل ... غداة انتقت مولى به الفضل يكمل
تخطت أناساً من كثير نعدهم ... وغالت وحيداً من قليل يحصل
ونحن بني الدنيا نباين فعلها ... فلا ننتقي حراً عليه يعول
كأن المنايا في انتقاها خبيرة ... بكسب النفوس العاليات تعجل
فتم لها من منتقى الدر حلية ... بها العالم العلوي أنساً يهلل

وتم نظام العقد وأزينت به ... نحور بدور الحور وهو مفصل
وكل بعبد الله فكري مهيم ... ينافس فيه غيرة حيث ينزل
ومنها:
لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالها لديه تمثلوا
لقد كان ذا بر عطوفاً مهذباً ... سجاياه صفر القطر بل هي أمثل
رقيق حواشي الطبع سهل محبب ... إلى كل قلب حيث كان مبجل
كريم السجايا لا الدنايا تشينه ... عظيم المزايا إذ يقول ويفعل
شمائله لو قسمت في زماننا ... على الناس لازدانوا بها وتجملوا
إلى أن قال بعد كلام نفيس:
ولولا " أمين " المكرمات الذي إلى ... مخايله سر الأبية ينقل
فتى المجد والعلياء والصدق والحيا ... وأوفى أمين يرتجى ويؤمل
يشم شذى المرحوم منه ويجتلى ... بغرته اليمن الذي يتهلل
لذبنا أسى مما عرانا من النوى ... ونحنا كما ناح الهديل المبتل
ومنها:
ومذ سمت نفسي الصبر وارتحت للقضا ... تنفست والمخبوء في النفس أجزل
فخذها أمين الله ما شابها الريا ... ولا عابها إلى امرؤ يتقول
وقل لمشير الحزن عني مؤرخاً ... ألا في جنان الخلد فكري المبجل
وقال حضرة أستاذنا العلامة الفاضل، واللوذعي الكامل، الشيخ سليمان العبد أحد أفاضل الجامع الأزهر:
نضا ثوب الحياة وسار " فكري " ... وكدر بالفراق صفاء فكري
تكبدت القلوب ضرام حزن ... عليه يذيب وجداً كل صخر

ومصر بموته ارتعدت وضجت ... وقد شقت عليه دروع صبر
وصار دم الدموع لها خضاباً ... على كف الأسى يا ويح مصر
إلى أن قال:
أمين لك المعالي في صعود ... وسر أبيك منه إليك يسري
فحسن نفسك العليا بصبر ... فمثلك قدوة بجميل صبر
سقى الرحمن قبر أبيك غيثاً ... من الرحمات عصراً بعد عصر
ورضوان لصفو قال أرخ ... بجنات النعيم مقر فكري
وقال حضرة الفاضل الزاهد، والإمام النحرير العابد، الشيخ أحمد موافي يرثي المترجم رحمه الله تعالى:
ما العيش يحلو والتفرق مشرب ... سبل الفراق بها العيون تسيل
ما العيش في دار الغرور بمشتهى ... وصخور أعمال الجبال تهيل
من يوم غزو البحر بحر علومنا ... لم أرج أن يشفى إلي غليل
ودعته وأنا الموافي صحبة ... أخذت لتغرب والفؤاد عليل
ومنها:
في يوم نيخت للرحيل مطية ... صدعت قلوب فالبعاد طويل
عزريل نادى يا جنود ترحموا ... رفقاً بفكري للعلوم خليل
لولا الإرادة ما نزلت لقبضه ... إني برفق العاملين وكيل
ومبشرات الحق وافت نحوهم ... من قبل قبض والبشير دليل
في لمحة البصر الخفيف أزورهم ... وفراقهم أبدا علي ثقيل
ومنها:
ففوارس العلم الشريف تصرعت ... بالنحو جرح والأصول قتيل
جيش المجاز مع المعاني أدبرا ... والفحل من فقه البديع فصيل
سبيت لغات والعلوم أسيرة ... ويرق حر الفهم وهو جزيل

ولت مسائل قد تقادم عهدها ... فاليوم عقل للغبي يحيل
دار العلوم على الهمامة كئيبة ... والقبر مسرور به وخميل
ومنها:
لاقت لعبد الله باشا حوره ... كانت تئن لبعدها وتطيل
قد كان في الدنيا يحاسب نفسه ... فهو الذي عند السؤال نبيل
قال الثرى أرخته وداً به ... أهلا به ظل الجنان مقيل
سنة 1307 وقال حضرة العالم الفاضل الأديب، والأمير الأفخم الحبيب، عز تلو علي بيك رفاعة:
دنياي لم تبدلين المدح تأبينا ... وتمنعين الوفا ظلماً وتأبينا
وتظهرين إزاء العجز مقدرة ... وإن نويت لنا خباً تناوينا
إذا وعدت وأعددت الصفاء لنا ... تلوين وعدك بالأكدار تلوينا
في روضة العيش كم تدنين من ثمر ... لمن إذا حان أن تجنيه تجنينا
إلى أن قال بعد كلام تركناه خوف الإطالة:
مصاب مثلك عبد الله سيء له ... كل الأنام وملك حل عبدينا
فما مصاب أخي صهطا برزء أخي ... دار المعز فيا مولاي عزينا
من خال بعدك عبد الله أن له ... جواً خلا عنك كنا عنه خالينا
ومنها:
أللبيان نرجي أن يشاد له ... بيت وبعدك سد الباب بانينا
سل دولة هي إنشاء ومقترح ... أمضى يراعك فيها أم مواضينا

هل فوق نثرك ما نزهى بنثرته ... أو فوق شعرك شعري أو يمانينا
من للمطول أو جمع الجوامع أو ... من للمواقف توقيفاً وتبيينا
من للتفاسير تأويلاً لمشتبه ... أو للتواريخ توقيتاً وتأوينا
هل للشفا وحديث المصطفى طرق ... بها طبيب النهى يأتي بشافينا
ومنها:
سل آستانة عن تركي منطق من ... سما عشائرها وهو ابن عشرينا
لو كان فيها لجارى كل ذي قلم ... يختال بالفكر ترصيفاً وترصينا
ينشي القوافي فتحلو في مباسمنا ... ذوقاً كأن بها الصهباء تنشينا
إلى أن قال:
وأنت يا نفحات البرزخ اتجهي ... لوجهه وانفحي ورداً ونسرينا
وأنت يا حور جنات زففن له ... تبارك الله هاك المهر " ياسينا "
وأرخيه فما كفؤ يؤرخه ... في رحمة الله عبد الله فكرينا
سنة 1307
أصيب رحمه الله بداء السكتة بعد ظهر الخميس في اليوم السابع من ذي الحجة الحرام، وفي الساعة الثانية من صباح يوم الأحد عاشر الشهر المذكور وهو يوم النحر وافاه الأجل المحتوم، والقضاء المعلوم، وذلك سنة ألف وثلاثمائة وسبع، فنحرت عليه في يومه القلوب، وشقت المرائر وازدادت الكروب، وامتلأت مصر بالأحزان، وأظلم العصر في كل مكان، وشيع محمولاً على هامات الوقار، والسكينة والتبجيل والاعتبار، والمحاجر تودعه ودموعها تتحدر، والقلوب تكاد من شدة تألمها إذ ذاك

تتفطر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عوضه الله الجنة وأسكنه دار النعيم.

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.