عبد الغفّار بن عبد الواحد بن وهب:
شاعر من فحول المتأخرين. ولد في الموصل، ونشأ ببغداد، وتوفي في البصرة. ارتفعت شهرته وتناقل الناس شعره. ولقب بالأخرس لحبسة كانت في لسانه. له ديوان سمي " الطراز الأنفس في شعر الأخرس - ط " .
-الاعلام للزركلي-
السيد عبد الغفار بن السيد عبد الواحد بن السيد وهب المعروف بالأخرس
أديب قد تحلى كلامه بقلائد العقيان، ولبيب قد احتوى نظامه على بلاغة قس وفصاحة سحبان، فهو الفرد الذي جرت في بحور شعره سفن الأذهان، ودارت على الندمان كرؤوس نثره ونظمه فأغنتهم عن الحان والألحان.
ولد في بلدة الموصل بعد المائتين والعشرين والألف من الهجرة النبوية، ونشأ في مدينة دار السلام المحمية، ولم يزل يجول في نواحي العراق مرتحلاً وحلاً، تارة مثرياً وتارة مقلاً، فتارة في البصرة وتارة في بغداد، يتنكب الأغوار منها والأنجاد. وفي إبان صباه كان قد أرسله المرحوم الوزير الخطير والمشير الكبير، حضرة داود باشا والي بغداد، عليه رحمة الملك الجواد، إلى بعض بلاد الهند ليصلحوا لسانه عن الخرس، وما كان فيه من الكلام قد احتبس، فقال له الطبيب: أنا أعالج لسانك بدواء، فإما أن ينطلق وإما أن تسارع إلى دار البقاء، فقال له وهو منه نافر وعنه مغضي، إنني لا أبيع كلي ببعضي، واتبع طريق الصواب والسداد، وكر راجعاً إلى بغداد. وبقي فيها مدة يكابد منها بعضاً من اليسر وبعضاً من الشدة. وفي عام التسعين بعد المائتين والألف عزم على التوجه إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وكان ذلك الأثناء في البصرة الفيحاء، فتمرض هنالك بعد أن أقعد فرجع إلى مدينة الزوراء دار السلام، يكابد الشدائد والآلام، ثم في شهر رمضان من ذلك العام، عاد أيضاً إلى البصرة وبه من المرض حسرة وأي حسرة، وصار نزيلاً في دار ذي المقام الموفور، الشهم الكامل الشيخ أحمد نور. فلم يزل يثقل به المرض من جهة ما عرض لجوهر حياته من أنواع العرض، إلى حين الزوال من يوم عرفة فتوفاه الله، وكان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله. فتأسف عليه الخاص والعام، وقالوا أن الأدب قد طويت أعلامه بعد هذا الهمام، فشيع جنازته أفاضل البصرة وبقلوبهم على فقده حسرة وأي حسرة، وأقيمت الصلاة عليه بعد صلاة العيد، وكان ذلك المشهد دليلاً على أنه ختم له بالختم السعيد، فدفنوه بمقبرة الإمام الحسن البصري خارج قصبة سيدنا الزبير، لا زالت تنهل عليه هواطل الرحمة والخير، فهناك طواه ضريحه، وخفقت بحور شعره وأدبه بعد أن سكن ريحه، وانقض بموته ذلك البنيان، ونطقت أفواه نظمه بعد أن سكن منه اللسان، وانطفا نور ذياك الجنان، فسقط بسقوطه نجم النظم والبيان، وأضحى داثر الأثر خفي العيان.
وكان رحمه الله حسن العقيدة سلفي الأثر، ساكناً بجانب الكرخ من بغداد، علوي النسب المفتخر. وقد ناهز عمره السبعين، فلا زالت رحمة المعين تتولاه كل حين. ومن قصائده الحسان، التي اشتهرت في البلدان:
أتراك تعرف علتي وشفائي ... يا داء قلبي في الهوى ودوائي
ما رق قلبك لي كأن شكايتي ... كانت لمسمع صخرة صماء
والشوق برح بي وزاد شجونه ... بأشد ما ألقى من البرحاء
عجباً لمن أخذ الغرام بقلبه ... أنى يعد به من الأحياء
هل يعلم الواشون أن صبابتي ... كانت بلحظ مهاً وجيد ظباء
وتجرعى مضض الملام من التي ... حلت عقيب الجزع في الجرعاء
لم يحسن العيش الذي شاهدته ... من بعد ذات الطلعة الحسناء
فمتى أبل صدى بمرشف شاذن ... نقض العهود ولا وفى لوفائي
وجفا ومل أخا الهوى من بعدما ... كنا عقيدي ألفة وإخاء
ونأى بركب الظاعنين عشية ... أين الركاب وأن ذاك النائي
أصبحت لما ماس عدل قوامه ... أشكو طعان الصعدة السمراء
وأجيب سائل مهجتي عن دائها ... دائي هواك فلا بليت بدائي
لم يدر واللعس الممنع طبه ... أن الدواء بمقتضى الأدواء
إلى آخرها وهي طويلة ومن قوله رحمه الله:
هل تركتم غير الجوى لفؤادي ... أو كحلتم عيني بغير السهاد
قد بعدتم عن أعين فهي غرقى ... بدموعي ولي فؤاد صادي
ثم وكلتمو السهاد عليها ... يمنع العين عن لذيذ الرقاد
من مجيري من الأحبة بجفو ... ن وتعدو منهم علي العوادي
علموا أنني عليل ومن لي ... أن أرى طيفهم من العواد
نزلوا وادي الغضا فكأن الدمع مني سيول ذاك الوادي
تركتني أضغانهم يوم بانوا ... وحدا فيهمو من البين حادي
بين دمع على المنازل موقو ... ف وشمل مشتت بالبعاد
وفؤاد يروعه كل يوم ... ذكر أيامنا الحسان الجياد
يا رفيقي وأين عهدك بالجز ... ع سقاه الغمام صوب عهاد
إلى آخرها وله أيضاً:
أتنكر منك ما تطوي الضلوع ... وقد شهدت عليك به الدموع
ولولا أن قلبك مستهام ... لما أودى بك البرق اللموع
ولا هاجت شجونك فاتكات ... تكتم ما تكابد أو تذيع
تشوقك الربوع وكل صب ... تشوقه المنازل والربوع
ليال بالتواصل ماضيات ... بحيث الشمل ملتئم جميع
ومن كلامه المترجم أيضاً:
بارق لاح فأبكاني ابتساما ... نبه الشوق من الصب وناما
ولمن أشكو على برح الهوى ... كبداً حرى وقلباً مستهاما
ويح قلب لعب الوجد به ... ورمته أعين الغيد سهاما
دنف لولا تباريح الجوى ... ما شكا من صحة الوجد سقاما
ما بكى إلا جرت أدمعه ... فوق خديه سفوحاً وانسجاما
وبما يسفح من عبرته ... بل كميه وما بل أواما
ففؤادي والجوى في صبوتي ... لا يملان جدالاً وخصاما
ليت من قد حرموا طيب الكرى ... أذنوا يوماً لعيني أن تناما
منعونا أن نراهم يقظة ... ما عليهم لو رأيناهم مناما
قسماً باللوم والحب أن ... كنت لا أسمع في الحب ملاما
والعيون الباليات التي ... ما أحلت من دمي إلا حراما
وفؤاد كلما قلت استفق ... يا فؤادي مرة زاد هياما
إن لي فيكم ومنكم لوعة ... انحلت بل أوهنت مني العظاما
وعليكم عبرتي مهراقة ... كلما ناوحت في الأيك حماما
ومتى يذكركم لي ذاكر ... قعد القلب لذكراكم وقاما
يا خليلي وما لي أن أرى ... بعد ذاك الصدع للشمل التئاما
احسب العام لديكم ساعة ... وأرى بعدكم الساعة عاما
لم يدم عيش لنا في ظلكم ... أي عيش قبله كان فداما
حيث سالمنا على القرب النوى ... وأخذنا العهد منها والذماما
ورضعنا من أفاويق الطلى ... وكرهنا بعد حولين الفطاما
أترى أن الهوى ذاك الهوى ... والندامى بعدنا تلك الندامى
كلما هبت صبا قلت لها ... بلغيهم يا صب نجد سلاما
وبنفسي ظالم لا يتقي ... حوبة المضنى ولا يخشى أثاما
ما قضى حقاً لمفتون به ... ربما يقضي وما يقضي مراما
لو ترشفت لماه لم أجد ... في الحشا ناراً ولو شبت ضراما
ولأطفأت لظى نار الجوى ... ولعفت الماء عذباً والمداما
شد ما مر جفا مستعذب ... من عذابي فيه ما كان غراما
إلى آخرها وهي طويلة وقال:
وظبي دعتني للحروب لحاظه ... وهيهات من تلك اللحاظ خلاص
تصدى لحرب المستهام وما له ... سوى اللحظ سهم والنقاب دلاص
فلما أجلت الطرف أدميت خده ... وأدمى فؤادي والجروح قصاص
ومن قوله:
وأقمار غربن فليت شعري ... إلا بعد الغروب لها طلوع
أمرت القلب أن يسلو هواها ... على مضض ولكن لا يطيع
وما أشكو الهوى لو أن قلبي ... تحمل بالهوى ما يستطيع
وقال:
وغادة لو بروحي بعت رؤيتها ... لكنت والله فيها غير مغبون
ما البدر والغصن أحلى من شمائلها ... كأنها من بنات الحور والعين
وقال:
أنعم علي بشيء أستعين به ... على المسير لعل الله يشفيني
أقضي بنعماك أوقاتاً أعيش بها ... وأن أمت فهي تكفيني لتكفيني
وقصائده كثيرة وأشعاره شهيرة، رحمة الله عليه وعلى والدينا ووالديه.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
عبد الغفار الأخرس (1221-1290ه)
هو السيد عبد الغفار الأخرس ابن السيد عبد الواحد ابن السيد وهب، ولد في الموصل سنة 1221ه ونشأ في بغداد، وهو سلفي العقيدة، علوي النسب، وكان يتجول في البلاد العراقية، وفي أيام صباه أرسله داود باشا والي العراق إلى الهند ليصلح لسانه من الخرس فرجع دون فائدة، وكان من الشعراء المشهورين، وتوفي سنة 1290ه رحمة الله عليه، وقد جمع له دیوانا من الشعر بعد وفاته أحمد عزت باشا العمري، وهذا الديوان مشهور بديوان الأخرس.
مقتطفات من كتاب: أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، تأليف: أحمد تيمور باشا.
عبد الغفار الأخرس
1805 – 1873
أصله ونشأته: هو عبد الغفار بن عبد الواحد بن وهب، ولد في مدينة الموصل سنة 1220 ه 1805 م وتلقى على أعلام عصره شتى العلوم، ثم رحل ونشأ في بغداد فبرز ونبغ وطارت شهرته في الآفاق، وكان علوي المذهب يسكن بجانب الكرخ من بغداد، وبيته مازال معروفاً باسمه حتى الآن رغم تقلب الأيام.
خرسه: وشاء القدر أن يعتريه مرض أخرس لسانه وهو في العشرين من عمره، ولولا خرسه لما ظهرت عبقريته، لقد كان الألم والحرمان من أكبر عوامل نبوغه واشتهر أمره في العراق وبلغ ذلك مسامع الوزير داوود باشا والي بغداد فقربه وأدناه، ثم أرسله الى الهند لعرضه على الاطباء ومعالجته عسى أن يفك عقال لسانه، وبعد معاينته قال له الطبيب (أنا أعالج لسانك بدواء، فإما ان ينطلق أو تموت) فكتب الجواب للطبيب (أنا لا أبيع كلي ببعضي) وعاد إلى بغداد.
حياته: لقد كانت حياة هذا الشاعر الأخرس عبرة وذكرى للناس، تعرض للثراء والفقر في مراحل حياته لإفراطه في سجية الكرم.
في السجن: كان الوزير داوود باشا والياً على بغداد، ذا هيبة ووقار، ندر من تجرأ للدنو منه، وقد كان الشاعر الأخرس مقرباً لديه، وبالرغم من علة الخرس، فإنه كان محسوداً لتقربه من العظماء، فوشى بعضهم عليه بأنه يدين بالولاء إلى خصمه عبد الرحمن باشا والي الموصل، فحبسه فكتب يقول في ذلك:
أقول للشامت لما بدا
يكثر بالتعنيف والشين
أليس يكفيني فخاراً وقد
أصبحت في قيد وزيرين
شعره: له ديوان شعر مطبوع اسمه (الطراز الانفس في شعر الاخرس) جمعه الشاعر العراقي أحمد عزت باشا الفاروقي، وفيه الكثير من المدح والرثاء والغزل والشكوى والأنين لحالته ومرضه، لقد كان يكره الهجاء إلا اذا أحرج إليه، وله مداعبات هجائية مع صديقه علي الكيلاني نقيب أشراف بغداد، فقد كان هذا كريم العين وتزوج بفتاة كريمة العين، ولما بلغ الأخرس هذا العقد أرخه مرتجلًا بقوله (واقع الأعور بنت الاعور) وتحدث الناس بأحد القضاة فهجاه ببيتين من الشعر، فطار صوابه وارتحل عنهم.
ثراؤه وفقره: كان يجول في العراق، فتارة في البصرة وتارة في بغداد، يتنكب الاغوار منها والأنجاد، يمدح العظماء فتصل ليده ألوف الدنانير، وقد كان غريب الأطوار في كرمه فهو طوراً مثرياً وطوراً مقلا يوزع كل ما لديه على الفقراء. وكان بعض الايام لا يملك قوت يومه، فتمنعه عزة نفسه عن الطلب، وهذا ما أفاض بلسان حاله من الهم والكرب بقصيدة مدح بها صديقه عبد الغني جميل منها قوله:
ودهر أعاني كل يوم خطوبه
وذلك دأبي ياأميم ودأبه
وأعظم بها دهياء وهي عظيمة
اذا اكتشف الضرغام بالذل غابه
إلى أن قال:
ومنها: وأبعد ما حاولت حراً دونه
دنوك مما يرتضي واقترابه
كأني أرى (عبد الغنى) بأهله
غريب من الأشراف طال اغترابه
يميزه عنهم سجايا منوطة
بأروع من زهر النجوم سحابه
كان الأخرس عجيباً في تشاؤمه، وفياً لأصدقائه، يحزن ويفجع لمصيبة الموت، يهيم حباً وإعجاباً بشاعر العراق الأكبر عبد الباقي الفاروقي، فأرخ عام وفاته بقصيدة مؤثرة مطلعها:
مالي أودع كل يوم صاحباً
إذ لاتلاقي بعد طول فراق
ومنها: فارقت أذكى العالمين قريحة
واجلها فضلا على الاطلاق
وفقدت مستند الرجال اذا روت
عنه الثقاة مكارم الاخلاق
وأرخ وفاته بقوله:
رزء أصيب به العراق فارخوا
رزء العراق بموت عبد الباقي ١٢٨٧ه
غزله: كان يهوى الجمال ويتغزل به وله في ميادينه جولات بارعه، لا يأبه بالحاسد والعذول ومن قوله:
ومليحة أخذت فؤادي كله
وجرت يحكم غرامها الأقدار
فتانة باللحظ ساحرة به
ومن اللواحظ فاتن سحار
ودعتها يوم الرحيل وفي الحشا
نار وفي وجناتها انوار
بمدامع باحت بأسرار الهوى
للعاذلين وللهوى اسرار
لا ينكرن المستهام دموعه
مما يجن فإنها اقرار
وفاته: وفي سنة ١٢٩٠ ه ١٨٧٣ م عزم التوجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان آنئذ في البصرة فمرض وكر راجعاً إلى بغداد يكابد آلام مرضه، ثم عاد في شهر رمضان من ذلك العام إلى البصرة وبه من المرض حسرة وأسى، فلم يزل يثقل به المرض حتى وافاه الاجل، فانقض بموته ذلك البيان وانطفأ نور ذياك الجنان، فشيع أفاضل البصرة جنازته بعيون دامعة، ودفن بمقبرة الإمام الحسن البصري في ناحية الزبير.
أعلام الأدب والفن لأدهم الجندي ج 2 ص 179
السيد عبد الغفار الأخرس
هو من نوابغ شعراء العصر، وإن كنا لا نكاد نسمع بذكر اسمه في هذه البلاد، فهو بعيد الصيت طائر الشهرة في بلاد العراق وما جاورها من بلاد العرب والعجم، يتناشد أشعاره الأدباء، ويتنافسون بها في مجالسهم. وهو السيد عبد الغفار الملقب بالأخرس للكنة كانت بلسانه، ابن السيد عبد الواحد بن السيد وهب.
ولد في الموصل نحو سنة ١٢٢٠ﻫ، ونزح منها إلى بغداد، وقضى حياته في العراق منتقلًا من بلدة إلى أخرى، وأكثر إقامته إنما كانت في بغداد والبصرة. وقد نمى منذ صباه خبر ذكائه وتوقد ذهنه إلى داود باشا والي بغداد، فأرسله إلى بلاد الهند في طلب إصلاح لسانه وحل لكنته، فقال له أحد الأطباء: إنا نعالج لسانك بدواء فإما أن ينطلق وإما أن تموت، فقال: لا أبيع بعضي بكلي، وقفل راجعًا إلى بغداد.
وسنة ١٢٩٠ﻫ أتى البصرة قصد الذهاب إلى الحج، فأقعده مرض ألمَّ به، فعاد إلى بغداد، فلم ينجع فيه دواء، فرجع إلى البصرة، وتوفي بها يوم عرفة من ذلك العام، فشيع جنازته أفاضل البصرة، ودفنوه في مقبرة الإمام الحسن البصري خارج قصبة الزير.
وكان (رحمه الله) قليل الاعتناء بحفظ شعره وإثباته على كثرته، فبقي منثورًا في أيدي حفظته إلى أن عني بجمعه شاعر عراقي آخر، وهو أحمد عزت باشا الفاروقي ابن اخي الشاعر عبد الباقي العمري، فحصل منه على عشرة آلاف بيت طبعها في الآستانة العلية سنة ١٣٠٤ﻫ بديوان سماه «الطراز الأنفَس في شعر الأخرس».
ومما يدل على إعجابه وإعجاب شعراء العراق به قوله من جملة ما قال في مقدمة الديوان المذكور: «ورد من مسقط رأسه الموصل الخضراء إلى مدينة الزوراء، وجعلها له موطنًا، وعرينًا ومسكنًا، وكانت أكابرها تحترمه وتشتاق لطلعته، وأماجد العراق ترتاح إلى مفاكهته، ورؤيته ورويته، ومدح منها الأكابر الكرام، والفضلاء الأعلام، بشعر يقف مهيار عند أقوابه، ويعجز أبو تمام عن الوصول إلى فسيح رحابه، ويتمنى الرَّضِيُّ لو ارتشف الحميا من أكوابه، وابن الأزري لو اتَّزَرَ برقيق ثيابه، من آدابه، حيث إن منواله العريض الطويل لم يتيسر لأحد أن يأتي له بنظير أو مثيل. وقد مازج برقته الأرواح، ممازجة الماء القراح، بأقداح الراح.» انتهى.
ويؤخذ من مطالعة ديوانه أنه كان بعيد التصور، متوقد الذهن، يتصرف بالمعاني تصرفًا حسنًا. على أنه سلك مسلك أكثر شعراء المتأخرين من اتخاذ صناعة الشعر ذريعة للمعاش والترنم به في مجالس اللهو والطرب، ولذلك ترى تباينًا عظيمًا بين متانة قصائده والتفنن بأساليبها، فإذا مدح شاعرًا أو عالمًا أكثر فيها من الاعتناء، فجاءت بخلاف مدحه لأكابر القوم الذين لم يتخذ الشعر إلا وسيلة للتزلف إليهم، فكأنما هو باذل لكل من بضاعته.
ومن رقيق شعره قوله في الغزل:
لا تلم مغرمًا رآك فهاما كل صبٍّ تركته مستهاما
لو رآك العذول يومًا بعيني ترك العذل في الهوى والملاما
يا غلامًا نهاية الحسن فيه ما رأت مثله العيون غلامًا
أتراني أبل فيك غليلًا أم تراني أنال منك مراما
كلما قلت أنت برءٌ لقلبي بعثت لي منك العيون سقاما
وبوحي من سحر عينيك يوحي لفؤادي صبابة وغراما
عمرك الله هذه كبدي الحرَّ ى تشكَّت إلى لماك الأواما
فاسقني من رحيق ريقك صِرْفًا لا يريني كأس المدام مداما
حام خالٌ على زلال برود هو في فيك فاصطلاها ضرامًا
أطعمته في فيك أطماعنا فيـ ـك فما نال بردها والسلاما
فالأمان الأمان من سحر عينـ ـيك فقد جردت علينا حساما
لست أدري وقد تثنيت تيهًا أقضيبًا هززته أم قوامًا
وقوله في المدح من قصيدة أنفذها للعلامة الآلوسي:
لقد أوتيت غاية كل فضل بخوضك في العلوم وفي اشتغالك
إذا افتخرت بنو آلٍ بآل ففخر الدين أنت وفخر آلك
وفي مرآك للأبصار وحيٌ ينبئنا فديتك عن جلالك
فيا فرع النبوة طبت أصلًا ثمار الفضل تُجنى من كمالك
ظفرنا من نداك بما نرجي على أن ما ظفرنا في مثالك
وكم لله من سيف صقيل بجوهرة العناية في صقالك
وما أنا قائل بنداك وبلٌ لأن الوبل نوع من بلالك
إذا الأيام يومًا أظمأتنا وردنا من يمينك أو شمالك
وإن جاوزت بالبرهان قومًا تحامى من يرومك في نزالك
وكل منهم وله مجالٌ فما جالت جميعًا في مجالك
وإنك أكثر العلماء علمًا ولست أقلهم إلا بمالك
نعم هم في معاليهم رجالٌ ولكن لم يكونوا من رجالك
وما في الناس من تلقاه إلا ويسأل من علومك أو نوالك
فتولي من جميلك كل شخص كأن الخَلْق صارت من عيالك
وقوله في العتاب:
بقيت بقاء الدهر هل أنت عالمٌ من العتب ما يملي عليك وما أملي
لقد كنت تجزيني بما أنت أهله على الشعر قبل اليوم بالنائل الجزل
فأرجعُ عن نعماك في ألف درهم أزيل بها فقري وأغني بها أهلي
فنقصتني شيئًا فشيئًا جوائزي وأوقفت حظي منك في موقف الذل
ولي فيك ملء الخافقين مدائحٌ ولي غررٌ ما قالها أحدٌ قبلي
فمن أي وجه أنت أنزلت رتبتي وأصبحت بعد الوبل أقنع بالطل
فإن كان من بخلٍ فلم يرَ قبلها فتًى من رسول الله يوصف بالبخل
وإن كان من قلٍّ هناك وجدته فما تعذر القوم الكرام من القل
وإن كان من طعن العداة وقدحهم فما قولهم قولي ولا فعلهم فعلي
أكان لمولانا بذلك حكمةٌ فقصر عن إدراك حكمته عقلي
فليس من الإنصاف مثلي تضيعه وتجهله ظلمًا وحاشاك من جهل
وبحرك تيارٌ ومالك وافرٌ وجودك معلومٌ وأنت أبو الفضل
وتبلغ منك الناس أقصى مرامها ويحرم من دون الورى شاعرٌ مثلي
وقوله في الحماسة:
واقتحمها إذ نبت بك يومًا فأرى المجد بابه الاقتحامُ
ادفع الشرَّ إن علمت بشرٍّ ربما يدفع السقامَ السقامُ
فمتى تكبر العزائم بأسًا صغرت عندها الأمور العظامُ
وتقلد بالرأي قبل المواضي ليس يجدي بغير رأي صدام
رب رأي بالخطب يفعل ما لا يفعل السمهريُّ والصمصامُ
واحذر الغدر من طباع لئيم عنده الغدر بالصديق ذمامُ
وادخر للوغى مقالة حرب لا تقوي الأجسام إلا العظامُ
ومن رقيق شعره قوله من موشح طويل:
بحياة الطاس والكاس عليك نزَّه المجلس من كل ثقيل
وتحكم إنما الأمر إليك ولك الحكم ومن هذا القبيل
كيف لا والكاس تسقى من يديك ما على المحسن فيها من سبيل
ولك الله حفيظًا ولنا حيثما كنت وما شئت أفعل
وآجر حكم الحب فينا وبنا أنت مرضيٌّ وإن لم تعدل
دور
حبذا مجلسنا من مجلس جامع كل غريب وعجيب
نعم العود وشعر الأخرس ومحب مستهام وحبيب
يتعاطون حياة الأنفس في بديع اللفظ والمعنى الغريب
بابلي السحر معسول الجنى أين هذا واشتيار العسل
وإذا مرَّ نسيم بيننا قلت هذا ويحكم من غزلي
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 325 – 329.