عبد الحميد بن محمد شاكر بن إبراهيم الزهراوي:
من زعماء النهضة السياسية في سورية، وأحد شهداء العرب في ديوان (عاليه) . ولد بحمص، وقاوم السياسة الحميدية قبل الدستور العثماني فأصدر جريدة سماها (المنير) كان يطبعها على (الجلاتين) ويوزعها سرا. وسافر الى الأستانة فساعد في إنشاء جريدة (معلومات) التركية، فنفته السلطة الحميدية إلى دمشق، فأقام يكتب إلى جريدة (المقطم) المصرية، فعلم به والي دمشق (ناظم باشا) فأرسله مخفورا إلى الآستانة.
وتوسط في أمره أَبُو الهُدى الصَّيَّادي، فأعيد إلى حمص. ثم فر إلى مصر، وعمل في الصحافة إلى أن أعلن الدستور العثماني (سنة 1327 هـ 1908 م) فعاد إلى سورية. وانتخب مبعوثا عن حماة، فذهب إلى الآستانة. واشترك في تأسيس حزب (الحرية والاعتدال) و (حزب الائتلاف) المناوئين لحزب الاتحاديين، وأصدر جريدة (الحضارة) أسبوعية. ولما ظهرت الحركة الإصلاحية في سورية، وانعقد المؤتمر العربيّ الأول في باريس، انتخب الزهراوي رئيسا له.
ثم استماله الاتحاديون وأقنعوه بعزمهم على الإصلاح وجعلوه من أعضاء مجلس الأعيان العثماني. ونشبت الحرب العامة الأولى، فقبضوا عليه وجئ به إلى (ديوان عاليه العرفي) فحكم عليه بالموت، ونفذ به الحكم شنقا في دمشق. وكان من رجال العلم بالدين والسياسة، له رسالة (الفقه والتصوف - ط) وكتاب (خديجة أم المؤمنين - ط) .
-الاعلام للزركلي-
عبد الحميد بن شاكر بن إبراهيم الزهراوي الحمصي
ريحانة الجليس وحانة الأنيس، تفرع من دوحة الرسالة والنبوة، وترعرع في روضة البسالة والفتوة، فجمع بين كرم الأصل والأخلاق، وطلع بدره في سماء المعارف وراق، واقتطف من حدائق الآداب أزهاراً، وارتشف من زلال الكمال وعلا قدراً وفخاراً، وقرن بين النسب والسيادة، وتقلد بالحسب وتحلى بالعلم والزهادة. إن تكلم أفاد وأطرب، وإن كتب أجاد وعما في ضميره أعرب، مع رقة تفوق نسيم الصبا، ولطافة ما سمع بها نجيب إلا وإليها مال وصبا. صرف نقد شبابه في الطلب والتحصيل، وأكمل مواد معلوماته نهاية التكميل، مع ذكاء عجيب وإدراك غريب، وهمة عالية ومروءة سامية، وطبع أشهى من الراح وسجع الضم تثني الملاح. ثم سافر إلى الآستانة ليقضي بها شأنه، وعينت له الدولة العالية معاش الإكرام، وأخرجته من الآستانة إلى الشام، فاختلط بعلمائها وجلس مع فهمائها، وأظهر للبعض بعض ما لديه من بديع المعاني، وأضمر بعض أشياء لا يجوز كشف سترها إلا لمعاني. وكان من دأبه إظهار الانتقاد، وعدم الميل إلى التأويل وإن ما ورد به النص عليه الاعتماد.
وقد ألف رسالة سماها الفقه والتصوف، وهي مشتملة على ثلاث رسائل ينتقد بها على كتب الفقه والأصول والتصوف، وقد زاد في اعتراضه، وحكم على كثير مما قالوه بانتقاضه، وتجاهر بهذا الأمر بين الخاص والعام، ونشر هذه الرسالة بين الأنام. فلما علم الناس بها أنكروها، واحتقروا ما اشتملت عليه وحظروها، وقام لها العلماء على قدم وساق، واتفقوا على تكفير مؤلفها من غير شقاق. ثم ذهبوا أفواجاً إلى الوالي من غير فتور، وأخبروه عن المترجم بما يكدر الخاطر ويسجر الصدور. وقالوا لقد تعدى طوره، وأشاع في الناس جوره، وأذاع الضلال ولم يخش من أمير ولا وال. فأمر الوالي بالقبض عليه، وإحضاره لديه، وأن يجتمع المفتي والعلماء الكرام، لكي يسألوه عن قصده فيما أشاعه من غير احتشام. فلما سألوه نكل عن الجواب، وأعرض إعراض من لا يخاف ولا يهاب، فأمر الوالي في الحال بجمع الرسائل أجمع، وأرسلاه صحبته إلى المحل الأرفع، فلما وصلوا إلى الدار العلية، أسلموه إلى مدير الضبطية وكان ذلك في شهر شعبان، عام ألف وثلاثمائة وتسعة عشر من هجرة ذي المقام المصان. ثم أن هذه الرسالة وإن كان بعضها صواب، إلا أن الكثير منها لا ينبغي إذاعته بين الأحزاب، بل تدار كؤوس البحث به بين العلماء الخواص، من دون تعرض إلى امتهان وانتقاص. وإن رسالة المترجم مخصوصة بالمساوي والملام، ومقصورة على تخطئة أولئك العلماء الأعلام. فإشاعة هذه الرسالة خطأ وإن كان ظن مؤلفها جميلاً، وطبعها المقتضي لشهرتها بين معترضيها وغيرهم لا يناسب لأنه رتب أمراً جليلاً، والغريب كل الغريب أنه ما نظر إليها ناظر منصف، ولا اطلع عليها إلا متعصب مسرف. فمنهم من حكم بكفره وإبعاده. ومنهم من حكم بزندقته وعناده، ومنهم من أوجب عليه القتل، وإن وجوب ذلك مأخوذ من النقل، من قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " والحكم عليه بالقتل لهذا الدليل لا يخلو عن اعتساف.
والحاصل أن هذه القضية كانت قضية كبرى. ولكن انصرفت بإرسال الوالي له مع بعض رسائله إلى الآستانة لينظر في أمره، فبقي بعد وصوله أشهراً في دائرة الضابطة محجوزاً عليه غير مهان، ثم بعد ذلك شملته العواطف الحميدية، والمراحم العثمانية، فأغرقته في بحر إحسانها، وكسته ثوب عفوها وامتنانها، فأبقت معاشه عليه، وردته إلى بلده مع جميل نظرها إليه،
ولم يزل يرفع أكف الضراعة في الدعاء لأمير المؤمنين. والحمد الله رب العالمين.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
شهيد الوطنية والعروبة المرحوم عبد الحميد الزهراوي
ولد شهيد الوطنية الفقيد المرحوم عبد الحميد بن محمد شاكر بن السيد إبراهيم الزهراوي بمدينة حمص سنة (1288ﻫ) ـ (1871م) من أسرة عريقة في قدمها ووجاهتها، وهي تنحدر من أصلاب سيدنا الحسين رضي الله عنه. درس علومه على علماء عصره، وأجهد نفسه على التحصيل ومطالعة الكتب في كل فن حتى بلغ في ثقافته شأواً عظيماً.
وفي سنة (1308ﻫ) ـ (1890م) سافر إلى الأستانة بقصد السياحة فأقام فيها برهة وجيزة، ثم سافر منها إلى مصر، وهناك اجتمع بكثير من الفضلاء والأدباء، وجرت بينه وبينهم مطارحات شعرية ارتجالية فكان موضع الإعجاب والتقدير، وبعدها رجع إلى حمص فأصدر جريدة سماها (المنبر)، فكان ينتقد أعمال الحكومة وجورها وعسفها، والحكومة تهتم لمنعها ومصادرة أعدادها.
وفي سنة (1313ﻫ) ـ (1895م) سافر ثانية إلى الأستانة بقصد التجارة، ولما كان المجتمع العربي والوضع السياسي بحاجة إليه فقد ترك التجارة وعكف على مطالعة العلوم والفنون في دور المكتبة العمومية، وكان يحرر في جريدة (المعلومات) العربية المقالات الأدبية والإصلاحية، فكان يراعه كالمهند الصارم شديد الوطأة في ذاك العهد، فوضعه السلطان عبد الحميد تحت المراقبة، ثم عين قاضياً لأحد الألوية فلم يقبل، وكان القصد من تعيينه إبعاده عن جو العاصمة للحد من دعاياته وأفكاره المؤثرة. وبعد أن أوقف تحت المراقبة أربعة أشهر أرسل إلى دمشق (بإقامة جبرية) براتب شهري قدره خمسمائة قرش ذهبي.
وفي خلال إقامته بدمشق كتب رسالة في الإمامة ورسالة في الفقه والتصوف نقد بعض المسائل فيهما، وبحث في الاجتهاد، فثار عليه العامة بإغراء بعض المحرضين من العلماء، ولما جمعهم الوالي ناظم باشا في مجلسه للمباحثة والمناظرة في موضوع رسالته تغلب عليهم بقوة حججه الدامغة، ولما عجزوا عن إدراك غايتهم عمدوا إلى التلفيق، فكانت الإيحاءات السياسية المسندة إليه كافية لإبعاده عن دمشق التي أقام فيها سنة وستة أشهر، فأرسل مخفوراً إلى استانبول، وأقام فيها نصف سنة، ثم أرسل محفوظاً إلى وطنه حمص (بإقامة إجبارية)، وأنتجت قريحته الوقادة عدة مؤلفات منها كتاب (نظام الحب والنبض)، وترجمة السيدة خديجة أم المؤمنين، ورسالة في النحو، وأخرى في المنطق، وغيرها في علوم البلاغة والمعاني والبيان والبديع، وكتاب في الفقه، وله مخطوطات كثيرة بقيت مسودة بخطه اغتالتها يد الأتراك عندما جيء به من الأستانة إلى الديوان العرفي في (عاليه)، وله شعر لطيف في كل باب.
وفي سنة 1320ﻫ ـ 1902م ضاق ذرعاً من إقامته الإجبارية ففر هارباً من حمص إلى مصر، واشترك في إدارة تحرير جريدة (المؤيد) المصرية، ونشر فيها مقالات مفيدة مشهورة، ولما حصل الانقلاب العثماني وأعلن الدستور انتخب عن حمص نائباً في مجلس (المبعوثين) ـ النواب ـ فكان صوته في المجلس من أقوى الأصوات في سبيل خدمة أمته وبلاده.
وفي خلال الدورة الأولى لمجلس المبعوثين أصدر الفقيد في الأستانة جريدة (الحضارة) وكان من مؤسسي حزب الحرية والائتلاف المؤسس لمعارضة حزب الاتحاد والترقي.
حادثة 31 مارت الشهيرة: وفي أول سنة نيابته وقعت حادثة 31 مارت الشهيرة، فقد حاصر الجند المجلس النيابي بحجة الارتجاع عن الدستور، وقتل المرحوم محمد بك أرسلان مبعوث اللاذقية برصاص الجند في باب المجلس، ورمى بعض النواب بأنفسهم من النوافذ العالية وتحطموا خوفاً من القتل، وفرَّ الكثير منهم حفظاً لحياتهم، وبقي الشهيد الشجاع مع بضعة أشخاص ثابتي الجأش وهم يخابرون المراكز بالهاتف ويذكرون الواقعة وما هم فيه من خطر، ويأس الشهيد من هذا الحصار فاخترق صفوف الجند بلا اكتراث حتى وصل إلى منزله وانفضَّ الجمع، فثباته في مثل هذا الموقف الحرج يدل على استهتاره بالحياة ومدى عقيدته وجرأته، وعلى إثر هذه الحادثة التي شاع خبرها حتى بلغ الرومللي بشكل مجسم زحف محمود شوكت باشا بجيوشه ليضرب الأستانة لحماية الدستور والتنكيل بالارتجاعيين والانتقام ممن آثاروا هذه الفتنة، فأرسلت الحكومة إذ ذاك هيئة مؤلفة من الأعيان والمبعوثين لمقابلة القائد الزاحف وإبلاغه حقيقة الحال، فكان الشهيد العظيم من أعضاء تلك الهيئة، فاستقبلوه في (اياستفانوس) من ضواحي الأستانة وأوقفوه على جلية الأمر حتى سكن غضبه ودخل بغير حرب.
وفي أواخر هذه الدورة للمجلس حصلت مناقشة حول المادة (35) من القانون الأساسي ووقع الخلاف الشديد فانفض المجلس، وتجدد الانتخاب ثانية فعاد المترجم إلى وطنه، وأوحت الحكومة الاتحادية بعدم انتخابه نائباً، وعاد إلى استانبول وتابع الاشتغال بالصحافة، وبعدها سافر إلى مصر، وانتخب رئيساً للمؤتمر الذي انعقد في باريس لأجل مطالبة الحكومة التركية بالإصلاحات اللازمة لبلاد العرب، وكان مدة إقامته في باريس موضع الإعجاب والتبجيل، واهتمت الحكومة الاتحادية لوجوده في باريس، فأوفدت وفداً إليه لإقناعه بالعودة وإجابة مطالبه، فعاد إلى الأستانة وعين عضواً في مجلس الأعيان ليشرف على إنجاز وعدهم.
ثم بدأت الحرب العالمية الأولى وأعلن جمال باشا السفاح القائد العام في البلاد السورية الإدارة العرفية، وانتقم من رجالات العرب ونوابغهم.
وفي ليلة السبت 4 رجب سنة 1334ﻫ و23 نيسان سنة 1916م صلب هذا النابغـة العظيـم بدمشـق الشـام مـع جملـة من وجهاء البلاد السورية بلا محاكمة ولا سؤال.
وكان لسان حاله يقول:
يا جزع نح وابك واندب جثة خلقت | من يوم (قالوا بلى) للضنك والمحن |
وحي أهلاً وجيراناً وآونة | حي الرفاق وحي سائر الوطن |
حبًّا بصالحهم أضحيت فديتهم | ليقطفوا ثمراً من راحتي جنى |
وربما جهـل النـاس أنـه رحمـه الله كان شاعراً مبدعاً قويًّا في أسلوبه، ومن ألطف شعره القصيدة العصماء التي نظمها، أثبت منها بعض أبياتها ليقف المطلع على رسوخ قدمه وبعد أفكاره وحسن يقينه واعتقاده وقوته في النظم والبيان والبديع.
لا تكذبنَّا يا بصر | لا تخدعينا يا فكر |
إن الحقائق تحت طيْـ | ـي النشر فوق المنتظر |
لكن برؤيتها دعا | وى الناس تعي من حصر |
وسوى سراب لم يروا | والآل كم عز النظر |
أنى التصور يا حجا | للسر في هذي الصور |
الكون مبني على الـ | حركات كل في قدر |
ومنها:
دع عنك دعوى واستمع | قولاً مفيداً مختصر |
الناس عثر في الغرو | ر ولاجئون إلى الغرر |
دعوى بها يسلون ما | يلقون من تعب وضر |
فهم رهان الكدح ما | داموا وتلك هي السير |
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 15 - 16.