محب الدين بن أبي الفتح محمد ابن عبد القادر بن صالح الخطيب،
يتصل نسبه بعبد القادر الجيلاني الحسني: من كبار الكتاب الإسلاميين. ولد في دمشق. وتعلم بها والاستانة وشارك (سنة 1324 هـ في إنشاء جمعية بدمشق سميت " النهضة العربية " وكان من أعضائها الدكتور صالح الدين القاسمي. ورحل إلى صنعاء فترجم عن التركية وعمل في بعض مدارسها. ولما أعلن الدستور العثماني (1908) عاد إلى دمشق. ثم زار الأستانة ومنها قصد القاهرة (1909) فعمل في تحرير المؤيد. وانتدبته إحدى الجمعيات العربية في أوائل الحرب العامة الأولى، للاتصال بأمراء العرب فاعتقله الإنكليز في البصرة سبعة أشهر. وأعلنت في مكة الثورة العربية (1916) فقصدها وحرر جريدة " القبلة " وحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابيا. ولما جلا العثمانيون عن دمشق، عاد إليها (1918) وتولى إدارة جريدة العاصمة. وفر بعد دخول الفرنسيين (سنة 20) فاستقر في القاهرة وعمل محررا في الأهرام. وأصدر مجلتيه " الزهراء " و " الفتح " وكان من أوائل مؤسسي " جمعية الشبان المسلمين ". وتولى تحرير " مجلة الأزهر " ست سنوات. وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، فأشرف على نشر عدد كبير من كتب التراث وغيرها.
ونشر من تأليفه " اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب " و " تاريخ مدينة الزهراء بالأندلس " و " ذكرى موقعة حطين " و " الأزهر، ماضيه وحاضره والحاجة إلى إصلاحه " و " الرعيل الأول في الإسلام " و " الحديقة " مجموعة كبيرة في إجزاء صغيرة، أصدر منها 13 جزءا. وترجم عن التركية كتبا، منها " سرائر القرآن - ط " وضمت خزانة كتبه نحو عشرين ألف مجلد مطبوع تغلب فيها النوادر .
-الاعلام للزركلي-
محب الدين الخطيب
۱۳۰۳ - ١٣٨۹ م - ١٨٨٦ - ١٩٦٩ = هـ
صحفي، عام، أديب، مؤرخ، سياسي أحد أعلام الدعوة الإسلامية.
محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد، الخطيب.
ولد بدمشق في حي القيمرية سلخ شوال سنة ١٣٠٣ هـ آخر تموز ١٨٨٦ م، وبها تلقى علومه الأولية والثانوية.
والدته آسية الجلاد - أبوها محمد الجلاد من أصحاب الأملاك الزراعية - كانت تقية صالحة ذات فضائل، توفيت بين مكة والمدينة بريح السموم، وهي راجعة من فريضة الحج مع ركب المحمل الشامي، ودفنت هناك بالفلاة، وكان صاحب الترجمة صغيراً في حجرها ساعة موتها، فشمله أبوه برعايته ليعوضه حنان الأم، وبقيت لرحلة الحج هذه صورة ما في نفس الطفل.
وبعدما رجع المترجم من رحلة الحج ألحقه أبوه - وهو في السابعة - بمدرسة الترقي النموذجية قرب دار الكتب الظاهرية، وكان أبوه أمين (ناظر) هذه الدار، وحصل بعد سنوات على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية بدرجة (علي الأعلى) جيد جداً، وذلك في ٢٣ المحرم سنة ١٣١٤ هـ. ثم التحق بمدرسة مكتب عنبر، وبعد سنة من دخوله المكتب توفي والده فرأت أسرته وأقاربه أن يترك المدرسة، فتركها ولازم دروس العلماء، وكان ذلك خلال غياب الشيخ طاهر المشرف على المكتبات والمدارس في بلاد الشام، فلما عاد من سفره، وكانت بينه وبين أبي المترجم صلة، احتواه وعطف عليه، وفتح عينيه على قراءة التراث العربي، وبث فيه حب الدعوة الإسلامية، وإيقاظ العرب ليقووا على حمل رسالة الإسلام، فكان صاحب الترجمة يقول: (من هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي)، وكان يعده أباه الروحي.
وسعى له شيخه بأن وجهت إليه وظيفة أبيه في دار الكتب الظاهرية على أن ينوب عنه من يقوم بها إلى أن يبلغ سن الرشد، وفي فترة الانتظار كان الشيخ ينتقي لتلميذه مخطوطات من تأليف الأعلام كابن تيمية وأضرابه، فيكلفه بنسخها لتتوسع ثقافته، ويشغل وقته وينتفع بأجر النسخ.
ثم وجهه للالتحاق ثانية يمكتب عنبر، كما أشار عليه أن ينتفع بالشيخ أحمد النويلاتي الذي كانت له غرفة يعتزل بها في مدرسة عبد الله باشا العظم، كما كانت للشيخ طاهر فيها غرفة. وكذلك غرفة للشيخ جمال الدين القاسمي، ورابعة للشيخ محمد علي مسلم، فكان المترجم يتردد إلى هذه الغرف، وينهل من علم أصحابها.
لازم الشيخ أحمد النويلاتي، فقرأ عليه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وحفظ بتلقينه مقامات من كتاب (أطواق الذهب) للزمخشري.
ولما كان الشيخ النويلاتي قد أتقن قراءة القرآن فقد استفاد منه جودة النطق بالحروف من مخارجها الأصلية، إضافة إلى استفادته من كريم أخلاقه.
وكان النويلاتي في معيشته زاهداً، وفي غرفته نظيفاً، وهو منقطع عن الناس والأهل والولد.
وفي هذه الفترة المبكرة تفتحت أفاق التفكير عند صاحب الترجمة، وصار يلقح ثقافته الشخصية العربية والإسلامية بما تلقاه في المدرسة من العلوم الكونية، وبما يضيفه إليها من مطالعاته المتواصلة في دار الكتب، وفي غرف للقراءة أسستها جمعية القديس يوحنا الدمشقي الأرثوذكسية في مدخل حي النصارى، وكانت تأتي إلى هناك المجلات الكبرى ولا سيما المقتطف والهلال والضياء وغيرها، ثم بما يقتنيه هو شخصياً من الكتب الإسلامية.
وأحب العرب والعربية وأعجب بالعربية، ورأى للعرب ما ليس لغيرهم وخاصة في لغتهم العظيمة، وساعدته مؤلفات ابن تيمية في التعرف إلى الإسلام من ينابيعه الأصلية الصافية المجردة من البدع والضلالات، ورأى أن الله خص العرب والذين تطبعوا بسجاياهم، واندمجوا في فضائلهم خصهم بصفات ومنزلة تجعلهم مسؤولين عن القيام بأمر العقيدة، وأنهم أصحاب رسالة.
هذه العقيدة ظلت ثابتة في قلبه وعقله طوال حياته.
وكان يعرف - وهو لا يزال في فترة الدراسة الثانوية - زملاءه من الأذكياء ولداته وأقرانه بهذه الرسالة، ويقرأ لذلك الكتب الجديدة لأمثال عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، ويعيد قراءة ما يراه متفقاً مع آرائه مشتركاً في القراءة مع بعض الطلاب يختارهم من بين زملائه فتكون لديه حلقة صغيرة مع رفاقه يلقحها بالأفكار التي كانت تطرح في حلقة شيخه الشيخ طاهر الجزائري.
وبدأ صاحب الترجمة في تلك الفترة أيضاً يمرن قلمه على بعض المقالات العلمية، والقطع الأدبية يعربها عن اللغة التركية، ويرسل بما يترجمه وما يكتبه إلى صحيفة (ثمرات الفنون) في بيروت برئاسة الشيخ أحمد حسن طباره، ويوقع على المقالات بالحروف الأولى من اسمه، ثم ما لبث أن وقع باسمه الصريح لما أنس القبول.
ولما كان في السنة السادسة بمكتب عنبر وهي السنة قبل الأخيرة رأى أحد المدرسين الذين لا توافق أفكاره أفكاره في درجه كتباً تحوي قصائد وكتابات تتغنى بالحرية، وتمجد بها، فنقل الأمر للإدارة، وأجري معه تحقيق حسموا له على أثره درجتين من السلوك، وتعمدوا أن يرسبوه في امتحان الدور الأول، ولما خشي من التحامل عليه في الدور الثاني طلب نقله على حالته إلى بيروت، فقدم فيها الدور الثاني ونجح بتفوق، وأتم فيها سنته السابعة وهي الأخيرة، وبانتقاله انتقل كثيرون من الطلاب معه ومنهم جميع الأمراء الشهابيين، وكان له في بيروت نشاطه الأدبي والقومي خلال تلك السنة حتى نال الشهادة في 1 جمادى الأولى سنة ۱۳۲۳ هـ. ثم قصد الأستانة مباشرة مبحراً من مرفأ بيروت، ملتحقاً بكليتي الآداب والحقوق معاً، ونزل في حي (جنبرلي طاش)، وهو الحي الذي يكثر فيه أبناء العرب وطلاب العلم والوظائف: القربه من المدارس، ومن الباب العالي ومن مشيخة الإسلام.
وقد هاله أن يرى الطلاب العرب في تركيا يجهلون قواعد لغتهم، وإملاءها فضلاً عن آدابها وثقافتها، ويتكلمون فيما بينهم باللغة التركية. وليس لأحدهم رسالة سامية في الحياة ، ولا مطمع إلا أن يجيد اللغة التركية ويندمج في أهلها ، ثم يكون مستعبداً للوظيفة التي يرجو الحصول عليها ، فأخذ يعمل مع طلائع الشباب العربي ، ويبث في نفوس الطلاب العرب حب العربية ، ويتدارس معهم تاريخ التمدن الإسلامي، وتخير من الشباب طائفة أقنعها بتعلم العربية وآدابها ، واتفق مع صديقه الأمير عارف الشهابي أن يقتسما هؤلاء الشباب لتعليهم، وتقوية لغتهم الأم ، وكان التعليم بالمجان ، ثم كاشف صاحب الترجمة هؤلاء الشباب أن ما هم فيه يبشر بنهضة مباركة ، واقترح أن يسمى عملهم باسم (جمعية النهضة العربية) .
ورغبهم بمطالعة الصحف التي كان قد اتفق مع صديقه الأستاذ محمد كرد علي أن يرسلها إليه في البريد.
ورأى صاحب الترجمة توسيع العمل، فاتفق مع أعضاء الجمعية على جذب الشباب إلى أحد المقاهي لميلهم إليها، فاتفقوا مع صاحب القهوة التي تم اختيارها ووعدوه بتحسين حال قهوته بأدواتها وكراسيها وجلبوا إليها (غرامافون)، وأسطوانات عربية، فأخذ الشباب يقبلون على المقهى، وانعقدت صداقات بين أعضاء الجمعية التي أخذت تتوسع.
وشعر الشباب بحاجتهم إلى حفل متسع لتبادل المشاعر والأفكار الجديدة والأمال المتفتحة بعيداً عن عيون المراقبة التركية، فتم الاتفاق على الاجتماع في جزيرة (بيوك اضه) في حديقة واسعة لأحمد باشا الزهير من أعيان البصرة. وفي الحفل ألقى صاحب الترجمة خطبة طويلة بعنوان (واجباتنا)، ثم ألقى الأمير عارف الشهابي قصيدة بعنوان (نحن والأغيار).
واشتد هذا النشاط الطارئ، وشعرت به الرقابة التركية، وأمسكوا بخيوطهان، ففتشت غرفته وفيها أوراق وجرائد عربية ومجلات مهجرية وكتب غير كتب الدراسة، ولكن الذي تولى كبس الغرفة فريد باشا اليافي الذي تربطه بأسرة الخطيب رابطة وشيجة، فحذره ووجهه إلى وجوب التخلص مما يثير الشبهات،وأعلمه أنه مراقب هو وزملاؤه منذ مدة، وأنه إذا لم يغير ما هو فيه وقع ما لا يحمد عقباه؛ فأحرق الجرائد والأوراق، وأودع الكتب عند صديق له إيراني من تجار التبغ والسجائر.
بعد ذلك اكتفى صاحب الترجمة بكلية الحقوق، وانقطع عن كلية الآداب نظراً لاتساع نشاطه الخارج، ولما نجح إلى السنة الثالثة كانت الخطة أن يتفرغ في العطلة المدرسية المواصلة العمل في جمعية النهضة لولا أن شدة (البوليس الحميدي) حملته باقتراح من إخوانه أن يسافر إلى دمشق، وكان قد كتب إلى اثنين من خلصائه في دمشق يخبرهما بتأسيس جمعية النهضة العربية في استانبول ويدعوهما للالتحاق بها، وأن يتعاونا بعد ذلك على تأسيس فرع لها في دمشق، فانتهز صاحب الترجمة هذه العطلة ، وتعهد فرع الجمعية هذا حين قدومه دمشق صيف ١٣٣٥ هـ / ۱۹۰۷ م، وفي أثناء العطلة تلقى رسالة من صديقه عارف شهابي يطلب إليه فيها البقاء في دمشق مدة سنة إلى أن تهدأ الحالة في استانبول ، وتنقطع الرقابة على الجمعية وأعضائها، وذلك بسبب ظهور لغط ومصاعب جديدة.
وحدث في هذه الأثناء أن طلبت القنصلية البريطانية في الحديدة باليمن إلى القنصلية في دمشق أن تختار لها شاباً يتقن العربية والتركية، وأن يكون له إلمام بالقوانين العثمانية وشؤون القضاء، فالتحق بها ورأها فرصة للتعرف على اليمن. ومر في طريقه بمصر ليلتقي بشيخه الشيخ طاهر الجزائري، وصديقه محمد کرد علي، ويتصل بزعماء النهضة المصرية، وقبل مغادرته دمشق أقيمت له حفلة بمناسبة تأسيس جمعية النهضة العربية وبمناسبة وداعه ليسافر إلى أفق جديد من آفاق العمل، ولم يسافر إلا بعد أن توطدت أمور الجمعية، واطمأنت القلوب إلى مستقبلها.
وفي مصر اتصل بالأعلام والأدباء، واجتمع بأركان (جمعية الشورى العثمانية) الذين كانوا يطالبون للبلاد بالحكم النيابي، وإعلان الدستور، ووضع حد للحكم الفردي، وكان منهم: عبد الله جودت الأديب التركي، ورفيق العظم، ورشيد رضا، وآخرون، وذكروا أن لجمعيتهم في البلاد العثمانية ثلاثة عشر فرعاً، وأنهم يرغبون في توسيع نشاطهم داخل البلاد العربية، فوعدهم أنه سيعمل لذلك في اليمن، وكتبوا له تفويضاً ليتخير لجمعيتهم من العثمانيين الرجال الصالحين والسعي لتأسيس الفرع الرابع عشر.
ولما وصل الحديدة كان حوله جماعة من الصحب خففوا عنه الوحشة، وكان عمله حضور جلسات في المحاكم عندما تكون فيها لأحد رعايا القنصلية قضية ليطمئن باسم القنصلية على سير العدالة فيها، وهو لذلك يجلس مع رجال المحكمة، ولكن لا رأي له فيما يتولونه ويتداولونه.
واهتم أن يعرف البلد الذي هو فيه، وأن يتصل بأهل الثقافة والنباهة وضباط الفرقة الرابعة عشرة من الجيش العثماني السابع في الحديدة، وكان يقصد لأجل ذلك مقهى كازينو البلدية الذي يمر به بعد الظهر أغلب الموظفين والضباط.
وانعقدت بينه وبين قائد الحديدة البكباشي شوقي المؤيد العظم صداقة وثيقة، وكاشفه بأمر جمعية الشورى العثمانية، فاهتم بها، وأرشده إلى طائفة من الضباط الأحرار الذين كان إبعادهم إلى اليمن عقوبة لهم؛ الكراهيتهم للحكم الفردي وميلهم إلى الحرية ... فلم يلبث أن افتتح الفرع الرابع عشر للجمعية المذكورة، وكان رئيسها شوقي المؤيد العظم.
وكان من اتصال صاحب الترجمة بالمحاكم اكتسابه صداقات كثيرة مع رئيس محكمة التجارة، والقاضي الشرع، وبعض الموظفين الممتازين منهم صالح قتلان الدمشقي: مدير عام البرق والبريد، كما تعرف إلى كثير من تجار البلد يلتقي بهم في بعض مقاهي البلد.
وكان خلال ذلك يواصل الكتابة إلى دمشق واستانبول والقاهرة، متعهداً جمعية النهضة العربية، ولا سيما مركزها الجديد في دمشق، ومكاتباً جمعية الشورى العثمانية.
ولما أعلن الدستور العثماني على أثر ثورة أنور ونيازي في أواسط تموز سنة ۱۹۰۸ م تجاهلت الجهات الرسمية في اليمن كل ذلك، وكأنه لم يكن، فعمل المترجم متفقاً مع إخوانه الضباط على وضع السلطات تحت الأمر الواقع، فأحضروا صواريخ الابتهاج، ومشاهد الزينة، وأقاموا احتفالات وألقوا خطباً بالتركية والعربية، ودعوا إلى انتخاب من ينوب عن الأمة في مجلس المبعوثان، مع التبليغ بهذا العمل سائر المدن اليمنية عن طريق البرق: مما أوقع المفاجأة في قلوب المسؤولين ولاحظ المترجم في أثناء إقامته باليمن مدرسة أميرية تافهة، ومديرها شبه عامي، فدعا أصدقاءه أعضاء الجمعية ليتطوعوا للتدريس في هذه المدرسة بالمجان فوافقوا، وطلب من أصدقائه التجار التبرع بأقمشة خفيفة لصنع بذلات للتلاميذ وبشراء أحذية لهم. وعمل لهم المترجم أناشيد، ورفده شوقي المؤيد العظم بضابط عسكري لتعليهم الرياضة والتعليم العسكري، فكثر عدد التلاميذ حتى صاروا 300 تلميذ، تلقى عليهم أرقى المناهج.
وسعى في الحديدة كذلك إلى تأسيس حركة صحافية وطباعية تنهض بالمستوى الفكري والثقافي، فأسس شركة مساهمة قيمة كل سهم جنيه استرليني ذهبي للعمل على إصدار جريدة باسم (جريدة العرب)، وأنشأ مطبعة باسم (مطبعة جزيرة العرب)، وقبل الدخول في التنفيذ تلقى المترجم رسائل من دمشق تلح عليه بضرورة العودة، فتوقف العمل.
وفي ذلك الحين ثار الإمام يحيى مع رجاله على الدولة العثمانية، فرأت جمعية الشورى العثمانية التي تحولت إلى جمعية الاتحاد والترقي أن تكتب له، تعرض عليه اقتراحاً بأن تتولى الجمعية الكتابة إلى استانبول والمراجع العليا بأن الإمام يحيي لم يثر ضد الدولة، بل ضد الظلم، وهو مستعد للتفاهم معها على أن تعترف له في اليمن بمثل المركز الذي لشريف مكة في الحجاز، وأن يكون هو المرجع في الشؤون الدينية والأوقاف ، وللدولة الشؤون السياسية والعسكرية والمالية، فوافق الإمام على الاقتراح وعلى تسليم الأسرى الثلاث مئة الذين في حوزته ، وقام المترجم بالكتابة بهذا إلى الإمام يحيى، وذهبت المكاتبات إلى المراجع العليا، وتم الاتفاق بين اليمن والدولة على ما هو معلوم، واستمر معمولاً به حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وعلى إثر ذلك وقبل مغادرة محب الدين الحديدة أرسل إلى الإمام بكتاب توديع، فرد عليه بكتاب ثناء لم يصدر عنه مثله لأحد.
وفي ٢١ المحرم سنة ۱۳۲۷ هـ ترك المترجم الحديدة متوجهاً إلى دمشق، بنية العمل على تجديد نشاط جمعية النهضة العربية داخل نطاق الدستور العثماني، وعلى أن يتمتع العرب بالنظام الدستوري، وأن يتعرفوا إلى عروبتهم ويحيوا مآثرها بأخلاق السيادة والحكم في ظل الرابطة العمانية، متبعين سنن سلفهم الأول، وعاملين بالأنظمة التي توصلهم إلى عصر حديث. وقال صاحب الترجمة: (إني أقر بكل صدق بأني أنا وجميع من استعنت بهم، وتعاونت معهم من رجالات العرب وشبابهم لم يخطر على بالنا الانفصال عن الدولة العثمانية لا لأن الاستقلال عن دولة ضعيفة مريضة أمر مكروه، ولكن لعلمنا أن تمرن الشعوب على أخلاق السيادة يحتاج إلى وقت، فكان من مصلحة العرب في الدولة العثمانية أن تعترف لهم الدولة بلغتهم في الإدارة والتعليم في البلاد التي يتكلم أهلها العربية، وألا تبلغ فيها الحماقة إلى حد أن يكون التعليم في بلادهم بلغة أجنبية عنهم، وإلى حد أن تكون لغتها محرماً عليها أن تكون لغة الإدارة والقضاء في صميم الوطن العربي.
ولما وصل إلى دمشق رأى أن الدولة لا تريد الاعتراف بجمعية النهضة العربية، وأجبروا الجمعية على أن تجعل اسمها جمعية النهضة السورية، وفي هذه الأثناء تسنى له أن يشارك عمال جريدة القبس في تحرير (طار الخرج) الهزلية الناقدة التي نزل العدد الأول منها، وبيعت نسخه بأضعاف ثمنه، وانتبهت السلطات الحكومية للجريدة، فأخذت في البحث عن طابعها وكاتبها فلم تعثر عليهما لأنها مجهولان، ولما أوشكت الحكومة أن تعرف الحقيقة سافر المترجم إلى بيروت، فكتبت الحكومة إلى المسؤولين في بيروت لملاحقته، فأبرقت الجمعية إليه باسم أصغر أعضائها جميل مردم؛ لأن سنه يخفض المسؤولية والمؤاخذة بأن يسافر حالاً إلى استانبول، فسافر وجدد قيده في الحقوق في السنة الثالثة على أمل إكمال الدراسة.
وفي استانبول سكن منزلاً لطيفاً في قرية (بيكوز) على البسفور هو وبعض أصدقائه، وصار ينزل يومياً إلى استانبول في باخرة خفيفة، ثم يعود إلى القرية وبقي في استانبول إلى صيف ۱۹۰۹ حين علمت حكومة سورية بوجوده في العاصمة التركية فلاحقته فيها بقضية جريدة (طار الخرج)، فاقترح عليه أصدقاؤه السفر إلى مصر ليستقر.
وصل إلى القاهرة في رجب ۱۳۲۷ هـ / ۱۹۰۹ م وكان قبل ذلك باع منزلاً له بدمشق وأسس بثمنه (المكتبة السلفية) مستعيناً بعبد الفتاح قتلا، وكان تأسيسها في البداية في مدخل خان الخليلي، واقترح عليه أحمد تيمور باشا المشاركة في تحرير (جريدة المؤيد) للشيخ علي يوسف، فكان موضع ثقته، وكان الشيخ يوسف أستاذه الأول في الصحافة المصرية، وكان من إخلاصه للصحافة أنه لما وقعت حرب ليبيا مع الطليان استأجر مسكناً مقابل دار المؤيد في شارع محمد علي لتوافيه البرقيات؛ فينظم منها ملحقاً صغيراً بالجريدة.
وزادت ثقة الشيخ علي به فصار المترجم هو الذي يتخير للنشر ما يناسب، وقد نشر نقلاً مترجماً عن (مجلة العالم الإسلامي) الفرنسية دراسة عن أعمال المبشرين البروتستانت في فصول متتابعة أثارت ضجة في القاهرة، فضح فيها ما يراد بالمسلمين من كيد.
ثم تأسس في القاهرة سنة ۱۳۳۱ هـ / ۱۹۱۳ حزب اللامركزية العثماني برئاسة رفيق العظم، وكان من رجاله رضا وإسكندر عمون، وحقي العظم، وداود بركات، وكان محب الدين عضو مجلس الإدارة، وكاتم السر الثاني.
وتأسست في بيروت ثم في باريس جمعية (العربية الفتاة) ذات الدور العظيم، فكان محب الدين يمثل هذه الجمعية بصر، وينفذ قراراتها التي لها علاقة بحزب اللامركزية.
وفي هذه السنة ١٣٣١ هـ / ۱۹۱۳ م أيضاً أسى رشيد رضا (مدرسة الدعوة والإرشاد) فوقع اختياره على المترجم ليدرس علم طبقات الأرض.
وعندما وقعت الحرب العالمية الأولى قررت الجمعيات السرية ورجالات القومية العربية إيفاد مندوبين إلى زعماء العرب لمفاوضتهم في أمرها، ليتخذوا موقفاً ملائماً مشتركاً يعود على البلاد بالخير، فاختير المترجم ومعه تلميذ له للسفر إلى الخليج العربي في محاولة للاجتماع بزعماء تلك المنطقة، فسافر إلى عدن، ثم بومباي حيث ضربت عليها رقابة دقيقة حتى أبحرا إلى الكويت، فاعتقلها ضابط بريطاني، ومكثا في السجن تسعة أشهر دون أن يتمكن من إتمام مهمته، وعاد إلى مصر والحرب على أشدها والاضطهاد التركي في ذروته.
وبعد إعلان الثورة العربية الكبرى طلبه الشريف حسين برقياً، فسافر إليه في مكة المكرمة ليؤسس المطبعة الأميرية، وليصدر (جريدة القبلة) الجريدة الرسمية الحكومة الحجاز، وكان الشريف حسين يستشيره في أكثر أموره الخارجية هو والشيخ كامل القصاب بصفتها من رجال جمعية العربية الفتاة وينزل عند رأيها، إن كان رأيها مما يوافق هواه وإلا خالفها، وخاب أمل صاحب الترجمة بالشريف حسين.
ولما دخل الجيش العربي دمشق بقيادة الأمير فيصل استأذن محب الدين الشريف حسين لزيارة دمشق ماراً بالمدينة المنورة.
وعند وصوله دمشق استقبلته (جمعية العربية الفتاة) ليكون عضواً في لجنتها المركزية التي تشرف على إدارة الدولة من وراء ستار، وأنيط به إدارة وتحرير الجريدة الرسمية للحكومة باسم (العاصمة)، وأبيح له أن يكتب مقالات توجيهية كما يشاء بلا مراقبة.
وقامت المشكلات على إثر سفر الملك فيصل إلى فرنسا وعودته وإنذار غورو ومعركة ميسلون، فتوارى المترجم عن الأنظار، ثم تخفى، وسافر برأ مع قافلة تاجر جمال عن طريق فلسطين بصفة تاجر حتى وصل إلى يافا، ومنها إلى القاهرة بالقطار.
اشتغل بعد عودته إلى مصر بالتحرير في جريدة الأهرام نحواً من خمس سنوات، وذلك حتى أواخر سنة ۱۹۲٥ م وكان خلال ذلك قد أسس إلى جانب المكتبة السلفية ومطبعتها مجلة (الزهراء) وهي مجلة أدبية اجتماعية شهرية، دامت خمس سنوات بدءاً من المحرم ١٣٤٣ هـ / آب ١٩٢٤ م.
ثم أسس جريدة (الفتح) في ٢٢ ذي الحجة ١٣٤٤ هـ / أيار 1926 م وبقيت حتى أواخر سنة ١٣٦٧ هـ / تشرين الثاني ١٩٤٨ م وخصصها للتاريخ والأحداث والسياسة.
ثم تولى أخيراً تحرير مجلة الأزهر لعدة سنوات، وفي سنة ١٣٤٦ هـ /۱۹۲۷ م بينما كان يتعاون مع دور النشر لإنشاء رابطة لهم بشكل نقابة دعاهم إبراهيم زيدان صاحب الهلال إلى عقد الاجتماعات بدار الشبان المسيحية، فكانت فرصة ليتعرف إلى هذه المؤسسة التبشيرية الأمريكية، ودارت في نفسه فكرة إنشاء جمعية للشبان المسلمين في القاهرة وغيرها، فأنشأها خلال صعوبات ومشكلات جمة، فكان عبد الحميد سعيد رئيسها الأول، والدكتور يحيى الدرديري مراقباً عاماً وعضواً في مجلس إدارة الجمعية، والشيخ عبد العزيز شاويش وكيلاً ، وأحمد تيمور باشا أميناً للصندوق، ومحب الدين الخطيب كاتماً للسر.
وأحدث قيام الجمعية ردة فعل لدى دعاة الإلحاد والقائمين على التبشير، فتر بصوا به حتى وجهوا أنظار النيابة إلى مقال كتبه بعنوان (الحرية في بلاد الأطفال) نال فيه من ملك الأفغان، ومن كمال أتاتورك فقبض عليه بجناية اتهام اثنين من رؤساء الدول الصديقة لمصر بالعيب، وهذه تهمة يعاقب عليها القانون لمصري، وبذل أصدقاؤه الجهد في المرافعة، فحكم عليه بالحبس شهراً مع وقف التنفيذ.
وعملت الجمعية سنوات عديدة في توجيه الشباب إلى الإسلام الصحيح. والسير في الطريق المؤدية إلى إعلاء شأن مسلمين.
وهكذا، وعلى هذا المنوال أمضى صاحب الترجمة حياته في مصر، كان خلال أربعين سنة يعيش في القاهرة في دار تضم مكتبة ومطبعة، يعمل بدأب أكثر ساعات اليوم، يشارك العمال أعمالهم، ولا ينام إلا قبيل الفجر، يحرر ويؤلف ويطبع إذا اضطر الأمر، ليس عنده وقت فراغ حتى ليذهب إلى الطبيب، ولهذا فقد ارتأى خلع أسنانه حتى لا يضطر لزيارة الطبيب مرة بعد المرة، يسر الرؤية إخوانه، ويعتذر عن رد الزيارة، وقد كان في الليلة التي توفي فيها يصحح صفحات كتابه الأخير (توضيح الجامع الصحيح) للإمام البخاري ترك آثاراً عظيمة قال عنها الأستاذ أنور الجندي: (وبالجملة فإن السيد محب الدين الخطيب وآثاره تعد رصيداً ضخماً في تراثنا العربي وفكرنا الإسلامي قد أضاف إضافات بناءة، وقدم إجابات عميقة، وزوايا جديدة لمفاهيم الثقافة العربية وقيمها الأساسية).
ويقول أيضاً: (قدم السيد محب الدين الخطيب للأمة العربية منهاجاً متكاملاً ونظرة متوازنة، ورؤيا شاملة في مجال الفكر والمجتمع والحياة كانت بالحق عصارة تجربته وخلاصة خبرته ونتاج قراءاته، وهي ليست فكرة مبتكرة غير مسبوقة، وإنما هي فكرة مكتملة قوامها المنهج الذي قدمه جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، وهي إضافة بناءة الأفكار كل المصلحين السابقين في هذا المجال ممن سبقوه أو عاصروه). ... وهو من أوائل المفكرين والأدباء الذين لفتوا النظر إلى خطر العدو لصهيوني منذ أمد طويل حين كشف حقائق الصهيونية وأسرارها، وكشف عن دور اليهود في محاولة الوصول لفلسطين منذ عام ١٨٤٤ م، ومطالبتهم لمحمد علي بفلسطين، ثم ما كان من موقفهم مع السلطان عبد الحميد عام ١٩٠٢ م.
ومن آثاره الكثيرة التي تركها:
توضيح الجامع الصحيح للإمام البخاري (شرح مختصر) .
-مع الرعيل الأول، (عرض وتحليل الصور من حياة الرسول ﷺ وأصحابه).
-الحديقة - (١٤ جزءاً) (مجموعة أدبية وحكم).
-الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الاثني عشرية.
-اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب.
-قصر الزهراء بالأندلس .
-تقويمنا الشمسي .
-الأزهر.
-البهائية.
-من الإسلام إلى الإيمان، (حقائق عن التيجانية).
-حملة رسالة الإسلام الأولون.
-الإسلام دعوة الحق والخير.
-ذو النورين عثمان بن عفان،(صدرت الطبعة الأولى بعد وفاته سنة 1394هـ)
-الجيل المثالي.
-سيرة جيل (تاريخ حافل خلال القرن الرابع عشر الهجري عن القومية العربية وحركات التحرر)
ومن الكتب التي حققها، وعلق على بعضها:
-العواصم من القواصم لابن العربي.
-المنتقى من منهاج الاعتدال، لابن تيمية باختصار الذهبي.
-مختصر التحفة الاثنى عشرية، اختصار الألوسي.
-تاريخ الدولة النصرية، لسان الدين بن الخطيب.
-أيمان العرب في الجاهلية، للنجيرمي.
- الخراج، لأبي يوسف.
-الميسر والقداح، لابن قتيبة.
ترجم من الكتب بعضها:
-الدولة والجماعة، لأحمد شعيب.
-مذكرات غليوم الثاني.
-الغارة على العالم الإسلامي.
وقد كان أسلوبه في الكتابة واضحاً مشرقاً، أسلوب أديب متمكن بقلم خصب جذاب غير متكلف، قال في مقاله الافتتاحي لمجلة الزهراء: تأصل في نفسي منذ أعوام كثيرة، أن الناطقين بالضاد لا تثبت لهم نهضة ما لم تكن قائمة على دعامتين.
1-المرونة في الاقتباس من حضارات الأمم الأجنبية في وسائل القوة.
2-الاحتفاظ بتقاليدنا التاريخية وأوضاعنا الوطنية، ولساننا الأصيل.
وقد قص علينا التاريخ أن الأقوام الذين جمدوا عند تقاليدهم؛ فلم يدعموا كيانهم القومي بدعامة الارتقاء والتجديد ضرب على قلوبهم بالانسداد، فتصرف فيهم أهل القوة والحياة، كما أنبأنا التاريخ أن الأقوام الذين استهواهم تقليد الأغيار من أهل القوة فيها ينافي كيانهم القومي، فانسلخوا من سجاياهم، وفرطوا في تقاليدهم، وتركوا حدود لغتهم مباحة لاحتلال اللغات الأخرى، لم ترحمهم الأمم الأجنبية التي ذابوا فيها، فاهتضمتهم حتى لم يبق لكيانهم الاجتماعي من باقية.
ترك مكتبة خاصة تبلغ نحواً من مئتي ألف مجلد تجاوزت بذلك المكتبة التيمورية التي بلغت مئة وعشرين ألفاً، ومكتبة أحمد زكي وتضم مئة وسبعين ألفاً، وتضم مكتبة المترجم أضابير وأوراقاً ورسائل ومذكرات حافلة بالآراء والأخبار، التي يمكن إذا نشرت أن تضيف كثيراً، وتحقق كثيراً من الوقائع التاريخية، والأحداث، ومن بينها رسائل بينه وبين الأمير شكيب أرسلان يقال إنها تبلغ ألف رسالة.
توفي في القاهرة ٢٢ شوال 1389 هـ / ٣٠ كانون الأول ١٩٦٩ م
تراجم علماء دمشق-أباظة الجزء الأول صفحة 847