أحمد بن عبد الله القاري، ابن محمد بشير خان: قاض حجازي، من أصل هندي. تعلم في المدرسة الصولتية (بمكة) وعلم بها، وعين قاضيا لجدة سنة 1340 هـ وجعل من أعضاء مجلس الشورى سنة 1349 فرئيسا للمحكمة الشرعية الكبرى، فأحد أعضاء رئاسة القضاء سنة 1357 إلى أن توفي. له (مجلة الأحكام الشرعية - خ) على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، في نحو ألف مادة، عاجله الأجل قبل طبعها. وكانت وفاته في الطائف.
-الاعلام للزركلي-
الشيخ أحمد بن عبد الله القاري
أسمر اللون يميل إلى الصفرة معتدل القامة متوسط الجسم واسع العينين، أقنى الأنف مسبل اللحية والشارب، حليق العارضين، عرفته في النصف الأول من الأربعينات يرتدي الجبة والعمامة الألفي الحجازية ومن تحتها الشاية وهو زي العلماء في ذلك الزمان، ثم تحول إلى العباءة والغترة بدون عقال وهو زي رجال الدين في العهد السعودي، أنيق الملبس، يكسو وجهه الوقار وتلوح مخايل الذكاء بين عينيه.
ولد بمكة عام 1309 هجرية وحفظ القرآن الكريم وجوده على يدى والده شيخ القراء الشيخ عبد الله القارئ والتحق بالمدرسة الصولتية بمكة المكرمة وتلقى علومه بها إضافة إلى مواظبته الحضور لتلقي الدروس بالمسجد الحرام، وكان من أنبغ الطلاب بالمدرسة الصولتية كما توضح ذلك الترجمة المسهبة التي أوردها الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان والأستاذ الدكتور إبراهيم أحمد علي وقد كان لهذا النبوغ المبكر تأثيره الحسن في نفوس أساتذته فانضم إلى سلك المدرسين بالمدرسة وهو طالب بها وكان هذا التقليد من الوسائل التشجيعية التي تتبعها المدرسة الصولتية مع تلاميذها النابهين.
وحصل الشيخ أحمد القاري على إجازة التدريس بالمسجد الحرام بتفوق عظيم وقد وصف العلامة الشيخ حسن المشاط الكيفية التي تم بها اختيار الشيخ أحمد القاري فقال:
كانت هيئة الامتحان مكونة من أربعة علماء يطرح كل واحد منهم سؤاله في مختلف العلوم ويناقشون المتقدم مناقشة قوية مفحمة قل من يستطيع النجاح فيها، وكان الأمر بالنسبة للشيخ أحمد القاري إنه إذا طرح عليه السؤال يسهب في الإجابة بطريقة تحليلية عجيبة فإذا ما أراد أحد العلماء الممتحنين مقاطعته قال له به - على رسلك فالكلام إلى نهايته - واستطاع بأسلوبه وقوة عارضته وعلمه الغزير أن يمتلك إعجاب الممتحنين والحاضرين، وعلى أثر ذلك استحق بجدارة أن يكون من مدرسي المسجد الحرام.
وهكذا أثمر هذا النبوغ المبكر ثمرته فاقتعد أستاذنا الشيخ أحمد القاري مقعده في رحاب المسجد الحرام في حصوة باب إبراهيم في هذه السن المبكرة وكان الطلاب الذين يجلسون بين يديه يكبرونه سنا، ويكبرهم هو مقاما وعلما.
تقلد الشيخ أحمد القاري وظائف علمية كثيرة إلى جانب استمراره في التدريس في المسجد الحرام والمدرسة الصولتية في عام 1334 هـ.
وفي عام 1336 هـ انتخب معاونا لأمين الفتوى بمكة المكرمة.
وفي عام 1339 هـ عين عضوا بهيئة التدقيقات الشرعية إلى جانب عمله السابق. وانتقل إلى جدة في عام 1345 هـ ليتولى القضاء بها، في أوائل العهد السعودي.
كما تولى التدريس والدعوة والإمامة بمسجد عكاش بجدة وفي هذه الفترة عين مدرسا بمدرسة الفلاح بجدة للعلوم الدينية حيث اتصلت أسباب كاتب هذه السطور به أستاذا بالمدرسة المذكورة كما سنوضح ذلك بعد، وفي عام 1349 هـ عين الشيخ أحمد القاري عضوا بمجلس الشورى في مكة المكرمة، وفي عام 1350 هـ، عين رئيسا للمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة فعاد إلى مركزه الطبيعي في سلك القضاء.
وقد استمر الشيخ أحمد القاري في هذا المنصب إلى أن عين عضوا في رئاسة القضاء - هيئة تمييز الأحكام حاليا - في عام 1357 هـ وكان رئيس القضاء هو الشيخ عبد الله بن حسن إمام وخطيب المسجد الحرام وهو والد الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي حاليا.
وقد بقي الشيخ أحمد القاري في هذا المنصب إلى أن توفاه الله تعالى في عام 1359 هـ كما سيأتي تفصيله بعد، وينحدر الشيخ أحمد القاري من أسرة تشتغل بالعلم والتعليم فوالده الشيخ عبد الله القاري كان شيخ القراء بمكة المكرمة إلى جانب اشتغاله بطلب العلم في المسجد الحرام والمدرسة الصولتية فكان أستاذا لمئات التلاميذ في مكة المكرمة وعمه الشيخ عبد الرحمن بن محمد القاري كان كذلك من العلماء المشهود لهم بالفضل وكان مدرسا بالمدرسة الصولتية كذلك، ثم سافر إلى الهند لنشر علم القراءات والتجويد فمكث بها طيلة حياته وأخواه حامد بن عبد الله القاري والشيخ محمود بن عبد الله القاري وهما كذلك من رجال التعليم وقد أورد الأستاذان الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي تراجم وافية عن هذه الأسرة الكريمة فليرجع إليها من شاء.
عرفت المرحوم الشيخ أحمد القاري أستاذا لنا بمدرسة الفلاح بجدة في النصف الأول من الأربعينات وفي أوائل العهد السعودي وكان يدرس العلوم الدينية بالفصول العليا من المدرسة والتي كانت تسمى الفصول العلمية وتبدأ من السنة السابعة إلى السنة التاسعة وقد رأينا في أستاذنا الجديد نمطا فريدا بين أساتذتنا ومعلمينا، كان الرجل ذكيا لماحا، وكان في نفس الوقت متمكنا من العلم الذي يلقيه إلينا، وكان مهيبا لا يجرأ الطلبة على إزعاجه بما تعود بعضهم أن يفعله من ضوضاء وشغب وكان إلى جانب هذا وذاك شخصية محببة تجمع بين الوقار واللطف ولا أذكر أنه عاقب أحدا من الطلبة حتى ولا بكلمة قاسية، وكانت له كلمة لطيفة يرددها أثناء الدرس وكلما انتهى من الشرح فيقول متسائلا مفهوم يا مشايخ؟ فنجيب في أدب مفهوم يا مولانا.
وكان المعروف عن أستاذنا أنه كان يتولى القضاء ثم حدث ما صرفه عنه فعين أستاذا للصفوف العليا بالمدرسة، وكان يعلمنا الأصول والتفسير وأذكر أنه كان يدرس لنا تفسير القرآن للإمام النسفي وهو من أجل التفاسير للكتاب الكريم، كما أنه كان الأستاذ الوحيد في المدرسة الذي يتقن علم الجبر، وكان يلقي دروسه علينا فيه في تؤدة يحاول أن يشرح لنا معمياته، وهو على أي حال كان من الدروس الصعبة لا بالنسبة لي وإنما لكافة زملائي في الصف.
وكنا نشعر أن أستاذنا له شخصية مستقلة فلم نره يخلط نفسه ببقية أساتذة المدرسة وإنما كان يصل إلى المدرسة في مواعيد الحصة الأولى ويأخذ طريقه إلى الصف الذي يلقي فيه درسه، فإذا انتهى الدرس جلس وحيدا في غرفة الانتظار أو مع كبار معلمي المدرسة، وكنت تلمح دائما أمارات الاتزان في حركاته وحديثه، في غير اعتداد بالنفس أو تعال على الآخرين.
وكان الشيخ أحمد القاري يتقاضى مرتبا ضخما من مدرسة الفلاح في ذلك الزمان خمسة عشر جنيها ذهبا في كل شهر ولعل هذا كان أعلى مرتب تصرفه مدرسة الفلاح لكل أساتذتها بما فيهم نائب مدير المدرسة الذي كان يتقاضى عشرة جنيهات فحسب، وكان الشيخ أحمد يستحق ذلك دون شك فالرجل عالم متمكن من علمه وقد ولي القضاء في العهد الهاشمي كما وليه في العهد السعودي.
لكن ظروف المدرسة ما لبثت أن تغيرت، كانت المدرسة تتلقى مصروفاتها من مؤسسها الحاج محمد على زينل رضا الذي كان من أغنى الأغنياء وكان يتجر في اللآلئ ثم ظهر اللؤلؤ الصناعي فانهارت تجارة اللؤلؤ الأصلي وتعرض مؤسس الفلاح لأزمة اقتصادية عظيمة اضطر معها إلى التخلي عن الصرف على مدارس الفلاح كما أسلفنا بيان ذلك في الجزء الأول من أعلام الحجاز.
لما ظهرت بوادر هذه الأزمة اضطرت المدرسة أن تطلع الشيخ أحمد القاري رحمه الله على الظروف السيئة التي تعرضت لها، والتي اضطرت معها إلى أن تستغني عن خدماته لأنها لا تستطيع الاستمرار في صرف المرتب الضخم الذي يتقاضاه في هذه الظروف، ولم يكن من أستاذنا رحمه الله إلا أنه أصر على البقاء في المدرسة والعمل فيها بدون مرتب، لم يقبل منهم أن يدفعوا له ما يدفع لزملائه الآخرين، ولم يقل أنه يقنع ببعض الراتب، وإنما أصر على أن يعمل بلا مقابل على الإطلاق وهكذا كان.
ولم يكن الشيخ أحمد غنيا ولا صاحب تجارة أو عمل، وإنما كان رجل علم وهب حياته للعلم وسلخ ما مضى من حياته طالب علم ومدرس علم ثم تدرج في وظائف المحاكم الشرعية حتى وصل إلى القضاء بين الناس ولقد كان صاحب أسرة ولكنه كان عظيم الثقة بالله تعالى، وأنه لن يضيع أجر من أحسن عملا، لهذا آثر البقاء بين طلابه في مدرسة الفلاح بجدة يقوم بأشرف عمل في هذه الحياة ابتغاء مرضاة الله تعالى حتى يجعل الله له وللمدرسة فرجا ومخرجا، ولقد طلب الشيخ أحمد القاري بعد ذلك للعمل مرة أخرى في مجلس الشورى ثم في سلك القضاء في مكة المكرمة وانتقل إليها كما قرأنا في صدر هذه الترجمة، هذا ولقد كان أستاذنا محبا لتلاميذه حفيا بأمرهم.
حدث أني تركت المدرسة بعد نهاية العطلة المدرسية وحين بداية العام الجديد، إذ رأى أهلي أن من الخير لهم أن اعمل في إحدى الوظائف بدلا من الاستمرار في الدراسة، وكان المتخرجون من الفلاح يعملون في الوظائف الكتابية الحكومية أو الأهلية، ولم ير أهلي ما يوجب استمراري عامين آخرين للانتقال من سلك الدارسين إلى سلك الموظفين، فالحقوني بمالية جدة بوظيفة ملازم، والملازم هو الموظف الذي يلازم الدائرة التي يلتحق بها ليتمرن على العمل الوظيفي إلى أن تخلو وظيفة فيعين بها بعد أن يكون قد اكتسب من الخبرة ما يؤهله لذلك، وبعد أن يكون قد اتيح لرؤسائه أن يطلعوا على مبلغ ما يحسنه من الكتابة أو الحساب.
وقضيت ما يقرب من شهر في وظيفة ملازم بمالية جدة وكان رئيسها المرحوم السيد هاشم سلطان، وذات يوم لقيت أستاذنا الشيخ أحمد القاري وهو في طريقه إلى مدرسة الفلاح وأنا في طريقي إلى مالية جدة وكانت في مبنى الخزنة، وكان هذا المبنى يقع أمام باب جديد في مواجهة ميدان البيعة الحالي وكان يضم قائم مقامية جدة وإدارة المالية والمحكمة الشرعية وقد أزيل هذا المبنى بعد أن أصبح خربا وآل إلى السقوط.
وكان الشيخ أحمد رحمه الله يسكن في حارة الشام في مواجهة مبنى الخزنة المذكورة، لقيت الشيخ فوقفت أسلم عليه فسألني لماذا انقطعت عن الدراسة فأخبرته أن أهلي رغبوا لي أن أتوظف قال وما هي الوظيفة التي عملت بها قلت أني لا زلت ملازما - والملازم لا يتقاضى أي راتب - وقد يبقى بلا عمل إن لم يهتم به أحد من الموظفين أو يوصي عليه.
قال الشيخ حسنا، وقابلته مرة أخرى فاستوقفني وقال لي أنه وجد لي وظيفة حسنة وراتبها أربعمائة قرش ذهب وهي وظيفة معاون مأمور الحوالات والطرود بإدارة بريد جدة وقال لي اذهب إلى هناك وقابل الشيخ سالم ناظر مأمور الحوالات والطرود فقد حدثته في أمرك وهو محتاج إلى معاون له، شكرت الشيخ وقلت إني لابد لي الرجوع إلى والدي وخالي في الأمر فقال على بركة الله.
وهكذا أوجد لي الشيخ رحمه الله أول وظيفة عملت بها وأنا دون الخامسة عشرة وكانت في وقتها تعتبر أحسن ما يمكن أن يبدأ به موظف صغير مثلي، وهكذا أظهر الشيخ اهتمامه بتلميذ من تلاميذه يرحمه الله.
مجلة الأحكام الشرعية
هذا ولقد فوجئت كما فوجئ غيري من الناس بالمرجع الشرعي الضخم الذي كرس الشيخ أحمد رحمه الله حياته لتأليفه، والذي قام على مراجعته وتحقيقه وشرح ما يتعلق به في الهوامش الضخمة كل من الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي الأستاذين المشاركين بجامعة أم القرى. وقامت تهامة مشكورة بإصداره في طباعة جيدة وإخراج حسن.
إن مجلة الأحكام الشرعية ليست كما يتصور القارئ مجلة من المجلات الدورية التي تصدر في كل أسبوع أو كل شهر أو في كل بضعة شهور وإنما هو اصطلاح سبقت إليه الحكومة العثمانية حينما أصدرت مجلة الأحكام العدلية في عام 1203 هـ وهو كتاب يشتمل على المعاملات الفقهية ووسائل الدعاوى وأحكام القضاء كما أوضح العالمان الفاضلان اللذين قاما بمراجعة المجلة المذكور وإخراجها للناس.
وهو علم الغرض منه وضع الأحكام الشرعية في صيغة قانونية إذا صح هذا الوصف، لتكون مرجعا لذوي العلاقة من العلماء والقضاة وطلاب العلم والمحامين وأصحاب القضايا وقد كانت الحكومة العثمانية وضعت هذه المجلة على أساس مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان الذي كان المذهب الرسمي لدولة الخلافة العثمانية.
وقد تفرغ الشيخ أحمد القاري رحمه الله لوضع الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في هذه المجلة التي أعطاها نفس الاسم الذي سبق أن أعطي للمجلة التي ظهرت في العهد العثماني باعتبار أن هذا الاصطلاح أصبح علما على هذا الأمر.
وليس هنا مجال البحث في هذه المجلة الشرعية التي كرس أستاذنا الشيخ أحمد القاري رحمه الله حياته لجمع احكامها وتبويبها وترتيبها فهذا شأن المتخصصين من أرباب هذا العلم، وهم أحق بالحديث عنه مني ومن أمثالي، ولكني أستطيع أن أقول أن هذا العمل العظيم يضطلع به في العادة جماعة من أفاضل العلماء، يتفرغ كل منهم على ناحية من النواحي فيجمع أحكامها ويراجعها ويبوبها ويرتبها، ويعلق عليها، كأن يتفرغ واحد منهم مثلا لشئون البيع وأنواعه وأمور التجارة وما يجوز منها وما لا يجوز، ويتفرع الآخر مثلا لأحكام الشركات وأنواعها وما يتعلق بهما وما يتفرع عنهما، ويتفرغ الثالث لأحكام العقار وما إليه وربما اختص كل واحد منهم بنوع من أنواع الأحكام الشرعية، وهكذا حتى تستكمل هذه الجماعة جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بحياة الناس وأمورهم. أما أن يقوم فرد واحد بعبء هذا العمل العظيم كله فهو الأعجوبة التي تنحني لها الرؤوس إجلالا وتقديرا، ولقد ذكر العالمان الفاضلان اللذان قاما بتحقيق هذه المجلة الشرعية إن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله اعتزم تأليف لجنة من خيار العلماء المتخصصين لوضع مجلة للأحكام الشرعية تستقى الأحكام من جميع المذاهب الشرعية بما تراه في صالح المسلمين مدعما بأقوى الحجج ولكن جلالته تيقن أن هذا الأمر يقتضي الوقت الطويل والجهد الكبير فاكتفى بتعيين المراجع الشرعية التي يرجع إليها في القضاء بين الناس.
وإني لأنقل هنا ما كتبه الأستاذان الفاضلان اللذان قاما بدراسة وتحقيق هذا الكتاب العظيم تحت عنوان تقويم المجلة.
تعتبر هذه المجلة أول عمل علمي حديث في الفقه الحنبلي سبق غيره من الأعمال في هذا المجال وقد ساعد القاضي أحمد تأليفها وإخراجها في هذا الثوب الفقهي الجديد تكوينه العلمي ووضعه الوظيفي ذلك أنه يعتبر من كبار فقهاء الحنفية في البلد الحرام، وقد مارس المذهب الحنفي تعلما وتدريسا فهو على معرفة وألفة تامة بالمذهب الفقهي لمجلة الأحكام العدلية العثمانية فسهل هذا عليه هضم منهجها والأسلوب الذي صيغت فيه أحكام ذلك المذهب.
أما معرفته بالفقه الحنبلي فهي معرفة عميقة لأنه عايشه قضاء ولسنين عديدة فلا عجب أن تكون هذه المجلة التي نقدمها للباحثين والدارسين ثمرة تلك الروافد الصافية والملكة الفقهية الأصيلة، وجاء كذلك في تقويم المجلة ما يلي:
استطاع المؤلف في كثير من المواد والأحكام صياغتها وحبك عبارتها في صورة يمكن اعتبارها قاعدة وقانونا فاصلا في موضوعها، ومنها:
أظهر المؤلف رحمه الله تعالى جانبا مشرقا من ملكته الفقهية فقد ذكر في كتاب الوقف قضايا واقعية مأخوذة من سجلات المحاكم الشرعية مستشهدا بها لتطبيق علمي لحكم المادة، ولو قدر للمؤلف سعة في عمره لذيل كل مادة فقهية بقضية شرعية مناسبة لها خصوصا وهو يعمل في القضاء ويعتبر هذا الأسلوب فكرة متطورة سبق بها زمانه.
وختم الأستاذان الفاضلان حديثهما عن تقويم المجلة بما يلي:
أن هذه المجلة بما لها وما عليها تجربة رائدة في المذهب الحنبلي وعمل جليل في الفقه الإسلامي يتطلب من الباحثين متابعة هذا المنهج والمثابرة عليه نحو كتب تراث الفقه الإسلامي حتى تسهل الاستفادة منه، ويكسر الحاجز الذي حال بين المسلمين وبين ورود منابعه الصافية في وقت هم أحوج ما يكونون إلى ذخائره وكنوزه هذا والمجلة سفر ضخم يتكون من ستمائة وتسعة وسبعين صفحة ويحتوى على واحد وعشرين كتابا شملت الأحكام الشرعية للبيع وأحكامه وأنواعه والإجارات وأنواعها وفي العارية والوديعة وفي الغصب والإتلاف والحجر والإكراه وفي الشفعة والصفح والإبراء وفي الشركات وأنواعها وفي القضاء والبينات والشهادة وخلافها وكل كتاب من هذا الكتب يحتوي على فصول كثيرة صيغت فيها مواد الأحكام الشرعية في تفصيل وتحقيق عظيمين وبلغ مجموع المواد التي صيغت فيها الأحكام ألفين وثلاثمائة واثنين وثمانين مادة.
ولقد بقيت المجلة الشرعية التي ألفها أستاذنا الشيخ أحمد القاري رحمه الله حبيسة خزانة الشيخ حتى توفاه الله تعالى فقام أخوه العالم الفاضل الشيخ حامد بن عبد الله القاري بحفظها والمحافظة عليها حتى أذن الله تعالى لها بالظهور بعد أن علم بها العالمان الفاضلان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان والأستاذ الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي الأستاذان المشاركان بجامعة أم القرى فقاما بعبء مراجعتها وتحقيقها والتعليق عليها وإخراجها للناس في هذا السفر الضخم العظيم الذي يتألف من حوالي سبعمائة صفحة. وقامت تهامة مشكورة بطبعها وإخراجها للناس عملا رائعا عظيما ينتفع به الناس في كل زمان ومكان، ولقد لاحظت أن مجلة الأحكام الشرعية لم تتعرض لأحكام الزواج والطلاق والإرث، ولم يورد المحققان الفاضلان تعليلا لذلك، ولكن هذا لا يطعن بحال من الأحوال في قيمة العمل العظيم والجهد الكبير الذي بذله المؤلف الفاضل في تدوين أحكام المجلة وأرجو أن يقوم من علمائنا الأفاضل من يستكمل وضع الأحكام التي لم ترد في المجلة لتكون استكمالا لهذا العمل العظيم الذي بدأه أستاذنا الكبير رحمه الله.
إنها صدقة جارية ادخرها الله تعالى لشيخنا الجليل الأستاذ أحمد لتظهر بعد أن مضى عليه ما يزيد على ثلاث وأربعين سنة وهو في رحاب الله تعالى فخرجت إلى الناس بريئة من العجب والادلال لأن صاحبها قد غادر هذه الحياة الدنيا إلى دار الجزاء والحساب، سليمة من الفخر وتقبل الثناء لأنَّ ما عند الله أبقى وأجزل مثوبة.
وقد توفي الشيخ أحمد رحمه الله في عام 1359 هـ بمدينة الطائف بعد مرض طويل ودفن في المقبرة الملاصقة لمسجد ابن العباس بعد الصلاة عليه في المسجد المذكور.
رحم الله أستاذنا الشيخ أحمد القاري بقدر ما أسدى للعلم وأهله وأحسن جزاءه في جنات عدن وشكر الله للأستاذين الفاضلين الذين قاما على مراجعة هذا العمل العظيم وتبويبه وترتيبه والتعليق عليه وإخراجه إلى النور لينتفع به الناس، وشكر الله لتهامة ما تقوم به من عمل طيب متواصل في نشر روائع العلم والأدب بين الناس.
محمد علي مغربي
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الثاني – ص 6 - 16.