إبراهيم بن عبد الخالق بن إبراهيم بن أحمد المويلحي: كاتب مصري، رشيق الأسلوب، قويّه، نقاد. أصله من (مويلح الحجاز) وأول من انتقل إلى مصر من أسلافه جده أحمد. ولد إبراهيم وتوفي في القاهرة. اشتغل في التجارة ثم كان عضوا في مجلس الاستئناف، واستقال فأنشأ مطبعة، وعمل في الصحافة ودعاه الخديوي إسماعيل إلى إيطاليا فأقام معه بضع سنوات. وأصدر في أوروبا جريدة (الاتحاد) وجريدة (الأنباء) وسافر الى الأستانة سنة 1303هـ فجعل عضوا في مجلس المعارف وأقام نحو عشر سنوات، وعاد إلى مصر فكتب كتابه (ما هنالك - ط) يصف به ما رآه في عاصمة العثمانيين، ونشره غفلا من اسمه، وأنشأ جريدة (مصباح الشرق) أسبوعية. وكان كثير التقلب في الأعمال يصدر الجريدة
ويغلقها، ويبدأ بالعمل ولا يلبث أن يتحول إلى سواه . -الأعلام للزركلي-
إبراهيم بك المويلحي
إبراهيم بك المويلحي 1262هـ - 1323هـ.
الكاتب السياسي والمنشئ الصحافي
يتصل نسبه ببيت من البيوت الكريمة التي ظهرت بمصر بعد الانقلاب في أول القرن الماضي، وكان جده السيد إبراهيم المويلحي في أول أمره كاتبا للمرحوم حبيب أفندي كخيا المغفور له محمد علي باشا الكبير، ثم ارتقى كما ارتقى سواه من ذوي المواهب في مثل حال مصر في دورها الانتقالي من عصر الأمراء المماليك إلى عصر التمدن الحديث؛ إذ هددتها مطامع الدول، وحام حولها طلاب السيادة من الوزراء والقواد، فتسابقت العقول واختلفت الأغراض، ففاز كل بما بلغ إليه إمكانه وساقته إليه فطرته؛ فارتقى بعضهم إلى منصات الحكم، وأثرى آخرون بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، فكان للسيد إبراهيم المويلحي جد المترجم حظ كبير من ذلك الارتقاء، ومع انغماس أهل ذلك الانقلاب بالمطامع السياسية والمكاسب المالية، واشتغالهم بالملاذ والملاهي لتسلط الجهل على معظمهم، فالسيد إبراهيم كان محبا للأدب، لا يخلو مجلسه من الأدباء والشعراء يطارحهم ويذاكرهم، وقد أدى لمحمد علي في أوائل ولايته خدما جليلة حفظها له البيت الخديوي، فانتفع بها المترجم في حال ضيقه - كما سترى.
ولد صاحب الترجمة في أوائل سنة 1262هـ، في بيت وجاهة وعز، وكان والده مشهورا بصناعة الحرير نسيج مصر، وله فيها بيت تجاري كبير، فجمع ثروة طائلة، ونشأ إبراهيم في سعة ورغد وهو يتهيأ للعمل في تجارة والده، ولكنه كان مولعا بالأدب والشعر من حداثته، ورث ذلك من جده، ولم يخطر له ولا لوالده أنه سيجعل الأدب مهنته، وهي يومئذ مهنة الفقراء … ولكن الأقدار ساقته إلى الاشتغال بها في كهولته فكان من أعظم نوابغها.
ظل إبراهيم في حجر والده آمنا سعيدا حتى توفي الوالد سنة 1282هـ، والمترجم في العشرين من عمره، فتولى تجارة أبيه وقبض على ثروته، وجرى على خطته في العمل حينا فازداد تقدما، وكانت مضاربات البورصة حديثة العهد في هذا القطر، وقد تحدث الناس بمعجزاتها، وبهروا من سرعة الإثراء بها، وكان إبراهيم طلابا للعلى، فلم يكتف بما بين يديه من الرزق الواسع، وحدثته نفسه أن يطلب الزيادة بالمضاربة، فضارب وهو يكسب تارة فيطمع بالمزيد، ويخسر أخرى فيطلب التعويض، على نحو ما نشاهده الآن مع ما يعلمه الأكثرون من عواقبها الوخيمة، فما زال المترجم يتدرج في المضاربة حتى استنزفت ثروته وأثقلته بالديون.
على أن فروغ يده من المال لم ينشأ بما نشأ عليه من العز والأنفة، ولا ضاعت مآثر جده لدى البيت الخديوي، فنظر إسماعيل باشا الخديوي يومئذ في هذا البيت نظر الانعطاف، وكان إسماعيل إذا أعطى أغنى، فوهبه هبات الملوك، فوفى الديون ووسع التجارة، ثم أنعم عليه بالرتبة الثانية، وعينه عضوا في مجلس الاستئناف وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأنعم على أخيه عبد السلام باشا بتلك الرتبة أيضا، وأبقاه في مزاولة التجارة محافظة على ذلك المعهد التجاري. وتأييدا لذلك أصدر أوامره لجميع من في قصوره من النساء أن يعدلن عن لبس الأنسجة المصرية من صنع هذا البيت، وأن لا يدخل في تشريفات السيدات سيدة لابسة غير هذه الأنسجة، وأمر باصطناع كمية عظيمة منها لإرسالها إلى معرض فيينا في تلك الأيام.
وما زال المترجم في وظيفته بمجلس الاستئناف حتى أفضت رئاسته إلى المرحوم حيدر باشا يكن، فوقع بينهما شقاق انتهى باستقالة المترجم، ولكن عناية الخديوي إسماعيل ما زالت شاملة له، فأمر بإعطائه مصلحة تمغة المشغولات والمنسوجات على سبيل الالتزام، واتفق في أثناء ذلك سقوط وزارة نوبار باشا المختلطة التي كان فيها عضوان أجنبيان، وخلفتها وزارة شريف باشا المعروفة بالوزارة الوطنية، وهموا بإنشاء اللائحة الوطنية لتأسيس مبادئ الحكومة الدستورية، فانتُدب المترجم للاشتغال في ذلك مع المرحوم السيد علي البكري، ثم صدر الأمر بتعيينه سكرتيرا للمرحوم راغب باشا ناظر المالية، ولم يتول هذه الوظائف إلا لما ظهر من نجابته وسداد رأيه.
على أن ميله إلى الأدب والشعر كان ينمو بين مشاغل السياسة والإدارة، فاتفق مع المرحوم عارف باشا، أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر وصاحب المآثر الكبرى في نشر الكتب، على تأسيس جمعية عرفت بجمعية المعارف، غرضها نشر الكتب النافعة وتسهيل اقتنائها، وأنشأ هو مطبعة باسمه سنة 1285هـ لطبع تلك الكتب، وهي من أقدم المطابع المصرية، على أن الجمعية كانت تطبع كتبها أيضا في مطابع أخرى، خصوصا المطبعة الوهبية، ولهذه الجمعية شأن كبير في تاريخ هذه النهضة؛ لأنها نشرت كثيرا من الكتب المهمة؛ كتاج العروس، وأُسد الغابة، ورسائل بديع الزمان، وسلوك الممالك، وألف باء، وغيرها من كتب التاريخ والأدب والفقه.
أما صاحب الترجمة، ففي السنة التالية لإنشاء مطبعته اتحد مع محمد عثمان بك جلال لإنشاء جريدة عربية، ولم يكن من الجرائد العربية بمصر يومئذ إلا الجريدة الرسمية وجريدة وادي النيل، فنال رخصة بجريدة سماها (نزهة الأفكار)، ولكنه لم يُصدر منها إلا عددين ثم حالت العوائق دون إصدارها، ويقال عن السبب في ذلك أن المرحوم شاهين باشا أظهر لإسماعيل باشا تخوفه من أنها تثير الأفكار وتبعث على الفتن، فصدر الأمر بإلغائها، وظلت المطبعة تشتغل بطبع الكتب لجمعية المعارف وغيرها، وقد طبع فيها كتبًا على نفقته.
فنرى المترجم (رحمه الله) قد تقلب في أعمال مختلفة بين تجارة، وخدمة في الحكومة، وإنشاء المطابع والجرائد، ونشر الكتب وغيرها، وهو دون الثلاثين من العمر، ولم ينل كل مرامه من واحد منها مع اقتداره وذكائه؛ ولعل السبب في ذلك لحاجته في استثمار عمله قبل أن ينضج، وعدم ثباته في خطة واحدة؛ لأنه لو ثبت في التجارة مثلا ولم يرغب عنها في خدمة الحكومة لكانت تجارته من أوسع التجارات، أو لو ثبت في الخدمة ولم يعدل عنها إلى الصحافة والطباعة لكان من أكبر أصحاب المناصب، ولو ثبت في الصحافة إلى الآن لكانت صحيفته من أكبر الصحف وأهمها، ولكنه لم يكن يستقر على حال، والأذكياء الذين لا يثبتون في عمل إنما يكون سبب تقلبهم الرغبة في النجاح السريع، يريدون الطلوع إلى الأوج دفعة واحدة، فإذا استبطئوا الوصول إلى قمة النجاح في عمل تركوه وانتقلوا إلى سواه، فيئول ذلك في الأكثرين إلى ضياع العمر في بناء القصور بالهواء، ولو ثبتوا في عمل واحد مهما يكن نوعه لكفاهم مئونة الشكوى من معاكسات الزمان.
على أن المترجم لم يشك ضيما؛ لأنه كان مرعي الجانب، وما زال الخديوي إسماعيل يذكر صدق خدمته له، فلما حدث التغيير في منصب الخديوية سنة 1296هـ، وأُبعد الخديوي إلى أوروبا، واستقر في إيطاليا، استقدم المترجم إليه، فجاءه وأقام في معيته بضع سنوات، كان في أثنائها كاتب يده (سكرتيره العربي)، يكتب عنه الرسائل إلى الملوك والأمراء، ولم يكن ذلك ليمنعه من العمل لنفسه، فأنشأ في أثناء إقامته بأوروبا عدة جرائد؛ كجريدة الاتحاد، وجريدة الأنباء، ولم يثبت في واحدة منهما، أو لعله كان ينشئها لغرض مؤقت؛ فإذا ناله عطلها.
وقال المؤيد إنه اشترك مع المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني في تحرير (العروة الوثقى).
في سنة 1320هـ ذهب إلى الآستانة على أثر إنشائه تلك الجرائد، فأكرم السلطان وفادته، وعينه عضوا في مجلس المعارف وناظرها يومئذ منيف باشا العالم الشهير، فقدر الرجل حق قدره، وقربه منه وعول عليه في كثير من شئون النظارة، وبعد أن أقام في هذا المنصب نحو عشر سنوات عاد إلى مصر، وعاد إلى الاشتغال بالكتابة وقد نضجت مواهبه الإنشائية، واكتسب ملكة الصحافة لطول ممارسته إياها، مع ما اختبره في أثناء أسفاره، ومخالطته كبار رجال السياسة، واطلاعه على مخبآت الأمور؛ فعمد أولا إلى مراسلة الجرائد بمقالات جامعة بين السياسة والأدب وقواعد العمران، أشهرها ما جمع على حدة في كتاب (ما هنالك)، ثم أنشأ جريدة مصباح الشرق الأسبوعية، وهو يتردد في خلال ذلك إلى الآستانة ويعود منها مشمولا بالنعم السلطانية من العطايا والرتب، حتى بلغ الرتبة الأولى من الصنف الأول، وما زال عاملا في خدمة الصحافة العربية، مخلصا للبيت الخديوي، شديد التعلق بمرضاة الجناب العالي، وسموه يخصه بالمنح والمنن حتى توفاه الله في 29 يناير سنة 1906م وهو في الثانية والستين من عمره.
صفاته
كان ربع القامة، ممتلئ الجسم، حسن الملامح كما ترى رسمه في صدر هذه الترجمة، وكان حلو الحديث، لطيف النادرة، سريع الخاطر، حسن الأسلوب، نابغة في الإنشاء الصحافي وفي الطبقة الأولى بين كتاب السياسة رشاقة ومتانة وأسلوبا، مع ميل إلى النقد والمداعبة، ولا يخلو نقده من لذع أو قرص لا يراعي في ذلك صديقا ولا قريبا، حتى قيل: لم ينج من قوارص قلمه إلا الذي لم يعرفه قد انتقدوا عليه تقلبه في خطته، وذلك تابع لتقلبه في سائر أحوال معائشه؛ لما قدمناه من تردده في أعماله حتى قضى العمر في التنقل من عمل إلى آخر، وضاعت الفائدة التي كان يرجى استثمارها من مواهبه؛ لأنه كان نادرة في الذكاء وحدة الذهن والاقتدار على تفهم الأمور والإحاطة بخفاياها وكشف غوامضها، فلو رافقه الثبات في المبادئ والأعمال لكان من هذا الرجل غير ما كان.
وهاك مثالا من إنشائه (رحمه الله) يصف موكب صلاة الجمعة في الآستانة، قال: ما قيصر في موكب انتصاره ولا الإسكندر في يوم افتخاره، أستغفر الله، بل ما سعد قادما من القادسية ولا المعتصم من عمورية أملأ للقلوب مهابة ولا للعيون بهاء من رؤية جلالة السلطان يوم الجمعة في موكبه.
في يوم الجمعة، قبل الظهر بساعتين، ترد العساكر رجالا وفرسانا من أطراف الآستانة إلى بشكطاش عشرة آلاف أو يزيدون، فينتظرون في طريق السراي السلطانية صدور الإرادة السنية بتعيين المسجد، وهي عادة جارية إلى اليوم، وإن كان المسجد الحميدي قد اختص بصلاة جلالته دون سواه، فإذا صدرت الإرادة اجتمعت العساكر في ساحة المسجد أمام باب السراي، واصطفت صفوفا مضاعفة بعضها وراء بعض، وفي هذه الأثناء تتسابق مركبات المشيرين والوزراء والمشائخ والأجانب من السفراء وغيرهم، فيجلس السفراء ومن كان معهم من علية قومهم الوافدين على الآستانة في قاعة الجيب الهمايوني المطلة على تلك الساحة التي لا يسمع السامع فيها قيلا ولا صهيلا إلا صليل الأسياف وترديد الأنفاس؛ هيبة وإجلالا وانتظارا واستقبالا لإشراق نور الحضرة السلطانية.
فإذا حان وقت الصلاة أشرقت المركبة السلطانية المذهبة كالشمس ضياء من مطلع السراي تحمل الإمام نائب الرسول ﷺ، ويجلس أمامه الغازي عثمان باشا، والمشيرون وكبار رجال المابين حافون من حول المركبة مشاة، خشع الأبصار ترهقهم ذلة من جلال تلك العظمة الأمامية، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الزمان وقياصرة الرومان كبرا وجبروتا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار وتأخذ الألباب، حتى إن الناظر ليكاد يوالي الحمد لله تباعا على ما منحه للدولة من عديد الرجال الصادقين في خدمة الأمة والملة بشهادة الكلمات الناطقة فوق النياشين، لولا ما يعتريه من الاشتباه فيهم، والنيشان عنوان كتبته الدولة ووضعته على صدر حامله شهادة منها للناس ببيان ما هو مكنون وراءه من فضائل الغيرة والحمية، فإذا اختلف المكتوب على الصدر عن المكنون في القلب كانت كبائع يغش الناس بوضعه على زجاجة الخل عنوان ماء الورد … إلخ.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 127 – 132.