يمين الدولة أبي قاسم محمود بن سبكتكين

السلطان الغزنوي

تاريخ الولادة361 هـ
تاريخ الوفاة421 هـ
العمر60 سنة
مكان الولادةغزنة - أفغانستان
مكان الوفاةغزنة - أفغانستان
أماكن الإقامة
  • غزنة - أفغانستان
  • خراسان - إيران
  • الهند - الهند

نبذة

السلطان : المَلِكُ يَمِينُ الدَّوْلَة، فَاتِحُ الهِنْدِ، أَبُو القَاسِمِ، محمود بن سيد الأمراء نَاصِرِ الدَّوْلَة سُبُكْتِكِيْن، التُّرْكِيُّ، صَاحِبُ خُرَاسَان وَالهِنْد وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَانَ وَالِدُهُ أَبُو مَنْصُوْرٍ قَدْ قَدِمَ بُخَارَى فِي أَيَّام نُوْحِ بنِ مَنْصُوْر، فِي صُحْبَة ابْنِ السُّكين مُتَولِّياً عَلَى غَزْنَة، فَعُرِفَ بِالشَّهَامَةِ وَالإِقدَامِ وَالسُّمُو، فَلَمَّا سَارَ ابْنُ السُّكين مُتَولِّياً عَلَى غَزْنَة، ذهب فِي خِدْمَته أَبُو مَنْصُوْرٍ، فَلَمْ يلْبَث ابْنُ السُّكين أَن مَاتَ

الترجمة

السلطان :
المَلِكُ يَمِينُ الدَّوْلَة، فَاتِحُ الهِنْدِ، أَبُو القَاسِمِ، محمود بن سيد الأمراء نَاصِرِ الدَّوْلَة سُبُكْتِكِيْن، التُّرْكِيُّ، صَاحِبُ خُرَاسَان وَالهِنْد وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَانَ وَالِدُهُ أَبُو مَنْصُوْرٍ قَدْ قَدِمَ بُخَارَى فِي أَيَّام نُوْحِ بنِ مَنْصُوْر، فِي صُحْبَة ابْنِ السُّكين مُتَولِّياً عَلَى غَزْنَة، فَعُرِفَ بِالشَّهَامَةِ وَالإِقدَامِ وَالسُّمُو، فَلَمَّا سَارَ ابْنُ السُّكين مُتَولِّياً عَلَى غَزْنَة، ذهب فِي خِدْمَته أَبُو مَنْصُوْرٍ، فَلَمْ يلْبَث ابْنُ السُّكين أَن مَاتَ، وَاحتَاج النَّاسُ إِلَى أَمِيْرٍ، فَأَمَّرُوا عَلَيْهِم أَبَا مَنْصُوْر، فتمكَّن وَعَظُم، وَأَخَذَ يُغير عَلَى أَطرَافِ الهِنْدِ، وَافتَتَح قِلاَعاً، وَتمَّت لَهُ مَلاَحِمُ مَعَ الهُنُود، وَافتَتَح نَاحِيَةَ بُسْت، وَاتصل بخِدْمَته أَبُو الفَتْح البُسْتِيُّ الكَاتِبُ وَقَرُب مِنْهُ، وَكَانَ كَرَّامِياً.
قَالَ جَعْفَرٌ المُسْتَغْفِرِي: كَانَ أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الحُسَيْنِ النَّضْرِيّ قَاضِي مَرْو وَنَسَف صُلْبَ المَذْهَب، فَدَخَلَ صَاحِبُ غَزْنَة سُبُكْتِكِيْن بَلْخَ، وَدَعَا إِلَى مُنَاظرَة الكَرَّامِيَّة، وَكَانَ النَّضْرِيُّ يَوْمَئِذٍ قَاضِياً ببَلْخ، فَقَالَ سُبُكْتِكِيْن: مَا تقولُوْنَ فِي هَؤُلاَءِ الزُّهَّاد الأَوْلِيَاء؟ فَقَالَ النَّضْرِيُّ: هَؤُلاَءِ عِنْدنَا كَفَرَة. قَالَ: مَا تقولُوْنَ فِيَّ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَعْتَقِدُ مَذْهَبَهُم، فَقولُنَا فِيْكَ كَذَلِكَ. فَوَثَبَ، وَجَعَلَ يضربُهُم بِالدّبوس حتى أَدمَاهُم، وَشجَّ النَّضْرِيَّ، وَقيَّدهُم وَسَجَنَهُم، ثُمَّ أَطلقهُم خوفَ الملاَمَة، ثُمَّ تمرَّض ببَلْخ، وَسَارَ إِلَى غَزْنَة، فَمَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَعَهِدَ بِالإِمرَة إِلَى ابْنِهِ إِسْمَاعِيْل، وَكَانَ مَحْمُوْدٌ ببَلْخ، وَكَانَ أَخُوْهُمَا نَصْرٌ عَلَى بُسْت، وَكَانَ فِي إِسْمَاعِيْل خَلَّة، فَطَمِعَ فِيْهِ جُنْدِهِ، وَشغَّبُوا، فَأَنفق فِيْهِم خزَائِنَ، فَدَعَا مَحْمُوْدٌ عَمَّه، فَاتفقَا، وَأَتَاهُمَا نَصْرٌ، فَقصدُوا غَزْنَة، وَحَاصرُوهَا، وَعمل هُوَ وَأَخُوْهُ مَصَافّاً مَهُولاً، وَقُتِلَ خَلْقٌ، فَانهزم إِسْمَاعِيْلُ، ثُمَّ آمن إِسْمَاعِيْلَ، وَحَبَسَهُ مُعَزَّزاً مُرَفَّهاً، ثُمَّ حَارب

مَحْمُوْدٌ النَّوَّاب السَّامَانيَّة، وَخَافته المُلُوكُ. وَاسْتَوْلَى عَلَى إِقلِيم خُرَاسَان، وَنفَّذ إِلَيْهِ القَادِرُ بِاللهِ خِلَع السَّلْطَنَة، فَفَرضَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ سَنَة غز والهند، فَافْتَتَحَ بلاَداً شَاسعَةً، وَكسر الصَّنَم سُومنَات؛ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ كَفَرَةُ الهِنْد أَنَّهُ يُحْيَى وَيُمِيت وَيَحُجُّونه، وَيُقَرِّبُوْنَ لَهُ النَّفَائِسَ، بحيثُ إِنَّ الوُقُوْفَ عَلَيْهِ بلغتْ عَشْرَةَ آلاَف قريَة، وَامتلأَت خزَائِنُه مِنْ صنُوف الأَمْوَالِ، وَفِي خِدْمَته مِنَ البَرَاهُمَة أَلْفَا نَفْس، وَمائَةُ جَوْقَة مغَانِي رِجَال وَنسَاء، فَكَانَ بَيْنَ بلاَدِ الإِسْلاَم وَبَيْنَ قلعَة هَذَا الصَّنَم مفَازَةٌ نَحْو شَهْر، فَسَارَ السُّلْطَانُ فِي ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً، فيسَّرَ اللهُ فتحَ القلعَةِ فِي ثلاثة أيام، واستولى

مَحْمُوْدٌ عَلَى أَمْوَالٍ لاَ تُحصَى، وَقِيْلَ: كَانَ حَجَراً شَدِيدَ الصَّلاَبَة طولُه خَمْسَةُ أَذْرُع، مُنَزَّلٌ مِنْهُ فِي الأَسَاس نَحْو ذرَاعِين، فَأَحرقه السُّلْطَانُ، وَأَخَذَ مِنْهُ قطعَةً بنَاهَا فِي عتبَة بَابِ جَامعِ غَزْنَة، وَوجدُوا فِي أُذُن الصَّنَم نَيِّفاً وَثَلاَثِيْنَ حَلْقَةً؛ كُلُّ حَلْقَةٍ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهَا عبَادَتُهُ ألف سنة.
وَكَانَ السُّلْطَانُ مَائِلاً إِلَى الأَثر إلَّا أَنَّهُ مِنَ الكَرَّامِيَّة.
قَالَ أَبُو النَّضْر الفَامِيُّ: لَمَّا قَدِمَ التَّاهَرْتِيُّ الدَّاعِي مِنْ مصر علَى السُّلْطَان يدعُوه سِرّاً إلَى مَذْهَبِ البَاطِنِيَّة، وكَانَ التَّاهَرْتِيُّ يَركَبُ بَغْلاً يتلَوَّنُ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ كُلِّ لُوْنَ، فَفَهُم السُّلْطَانُ سِرَّ دعوتِهم، فَغَضِبَ، وَقَتَلَ التَّاهَرْتِيُّ الخَبِيْث، وَأَهدَى بغلَهُ إِلَى القَاضِي أَبِي مَنْصُوْرٍ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الأَزْدِيّ؛ شَيْخ هَرَاة، وَقَالَ: كَانَ يَرْكَبُه رَأْسُ المُلْحِدين، فليَرْكَبْه رَأْسُ المُوحِّدين.
وَذكر إِمَامُ الحَرَمَيْنِ أَنَّ مَحْمُوْدَ بنَ سُبُكْتِكِيْن كَانَ حَنَفِيّاً يُحِبُّ الحَدِيْثَ، فَوَجَد كَثِيْراً مِنْهُ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ، فجمعَ الفُقَهَاء بِمَرْو، وَأَمر بِالبحثِ فِي أَيّمَا أَقوَى مَذْهَبُ أَبِي حَنِيْفَةَ أَوِ الشَّافِعِيّ. قَالَ: فَوَقَعَ الاَتِّفَاق عَلَى أَنْ يصلوا ركعتين بن يَدَيْهِ عَلَى المَذْهَبين. فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ القَفَّال بوُضوءٍ مُسْبغٍ وَستْرَةٍ وَطَهَارَةٍ وَقِبْلَةٍ وَتَمَّامِ أَركَانٍ لاَ يُجَوِّزُ الشَّافِعِيُّ دونهَا، ثُمَّ صَلَّى صَلاَةً على ما يجوزه أبي حَنِيْفَة، فَلَبِسَ جِلْد كلبٍ مَدبوَغاً قَدْ لُطِخَ رُبُعُه بِنَجَاسَةٍ، وَتَوَضَّأَ بنَبِيْذ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الذُّبَّان، وَكَانَ وُضوءاً مُنَكّساً، ثُمَّ كبّر بِالفَارسيَّة، وَقرأَ بِالفَارسيَة،: دَوْبَرْكَك سَبْز. وَنَقَر وَلَمْ يَطْمئنَّ وَلاَ رَفَعَ مِنَ الرُّكُوع، وَتَشَهَّدَ، وَضَرَطَ بِلاَ سَلاَم. فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تكن هَذِهِ الصَّلاَةُ يُجِيزُهَا الإِمَامُ، قَتَلْتُكَ. فَأَنكرت الحَنَفِيَّةُ الصَّلاَةَ. فَأَمر القفال بإحضار كُتُبِهم، فَوُجِدَ كَذَلِكَ، فتحوَّل مَحْمُوْدٌ شَافِعِيّاً. هَكَذَا ذكره الإِمَامُ أَبُو المَعَالِي بِأَطولَ مِنْ هَذَا.
قَالَ عَبْدُ الغَافِرِ الفَارِسِيُّ فِي تَرْجَمَة مَحْمُوْد: كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِي إِعلاَءِ الدِّين، مُظَفّراً كَثِيْر الغَزْوِ، وَكَانَ ذَكيّاً بعيدَ الغَور، صَائِبَ الرَّأْي، وَكَانَ مَجْلِسُهُ مورِد العُلَمَاء. وَقبرُهُ بغَزْنَة يُزَار.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ بنُ البَنَّاء: حَكَى عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ العُكْبَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ: أَبَا مَسْعُوْد أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ البَجَلِيَّ قَالَ: دَخَلَ ابْنُ فُوْرَك عَلَى السُّلْطَان مَحْمُوْد، فَقَالَ: لاَ يَجُوْزُ أَنْ يُوصف اللهُ بِالفوقيَّة لأَنَّ لاَزمَ ذَلِكَ وَصفُه بِالتّحتيَّة، فَمَنْ جَازَ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ فَوْقٌ، جَازَ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ تَحْتٌ. فَقَالَ السُّلْطَانُ: مَا أَنَا وَصفتُه حَتَّى يلزمَنِي، بَلْ هُوَ وَصفَ نَفْسَه. فَبُهِتَ ابْن فُوْرَك، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مَاتَ. فيُقَالُ: انْشَقَّت مرَارَتُه.
قَالَ عَبْدُ الغَافِرِ: قَدْ صُنِّفَ فِي أَيَّام مَحْمُوْد وَأَحْوَالِهِ لحظَة لحظَة، وَكَانَ فِي الخَيْرِ وَمصَالِحِ الرَّعِيَّةِ يُسِّرَ لَهُ الإِسَارُ وَالجنودُ وَالهيبَةُ وَالحِشْمَةُ مِمَّا لَمْ يرهُ أَحد.

وَقَالَ أَبُو النَّضْر مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ العتبي في كتاب اليميني في سيرَة هَذَا الْملك: قِيْلَ فِيْهِ:
تَعَالَى اللهُ مَا شَاءَ ... وَزَادَ اللهُ إِيْمَانِي
أَأَفرِيدُوْنَ فِي التَّاجِ ... أمِ الإِسْكَنْدَرُ الثَّانِي
أمِ الرَّجْعَةُ قَدْ عَادَتْ ... إِليْنَا بِسُلَيْمَانِ
أَظَلَّتْ شَمْسُ محمودٍ ... عَلَى أَنجمِ سَامَانِ
وَأَمسَى آلُ بهرامٍ ... عَبِيْداً لابْنِ خَاقَانِ
فَمَنْ وَاسِطَةِ الهِنْدِ ... إِلَى سَاحَةِ جُرْجَانِ
وَمن قَاصِيَة السِّنْدِ ... إِلَى أَقْصَى خُرَاسَانِ
فَيَوماً رُسُل الشَّاهِ ... وَيَوْماً رُسُلِ الخَانِ
مولدُ مَحْمُوْد فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
وَمَاتَ بغَزْنَة فِي جُمَادَى الأُولَى سَنَة إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَتَسَلْطَنَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ مُديدَةً، وَقبضَ عَلَيْهِ أَخُوْهُ مَسْعُوْدٌ، وَتَمَكَّنَ، وَحَارَبَ السَّلْجُوْقِيَّة مَرَّاتٍ إِلَى أَنْ قُتِلَ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، ثُمَّ قَامَ ابْنه.
وكَانَتْ غَزَوَاتُ السُّلْطَان مَحْمُوْدٍ مَشْهُوْرَةً عَدِيْدَةً وَفُتُوْحَاتُهُ المبتكرَة عَظِيْمَة.
قَرَأْتُ بخَطِّ الوَزِيْر جَمَال الدِّيْنِ بن عَلِيٍّ القِفْطي فِي سيرَته: قَالَ كَاتبه الوَزِيْرُ ابْنُ المِيمندِي: جَاءنَا رَسُوْلُ الملكِ بَيدَا عَلَى سريرٍ كَالنَّعش؛ بِأَرْبَعِ قَوَائِم يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَكَانَ السُّلْطَانُ يُعَظِّمُ أَمرَ الرُّسُلِ لِمَا يَفْعَلُهُ أَصحَابُهُم برُسُله. قَالَ: فَحُمِلَ عَلَى حَالَتِهِ حَتَّى صَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الهنديُّ: أَيُّ رَجُلٍ أَنْتَ؟ قَالَ: أَدْعُو إِلَى اللهِ، وَأُجَاهِدُ مَنْ يُخَالِفُ دِيْنَ الإِسْلاَم. قَالَ: فَمَا تُرِيْد منَا؟ قَالَ: أَنْ تَتْرُكُوا عبَادَةَ الأَصْنَام، وَتَلْتَزِمُوا شُرُوط الدِّيْنِ، وَتَأكُلُوا لحم البَقَر. وَتردَّد بينهُمَا الكَلاَمُ، حَتَّى خَوَّفَهُ مَحْمُوْدٌ وَهدَّده، وَقَالَ الحَاجِبُ للهِنْدِي: أَتَدْرِي لِمَنْ

تُخَاطِبُ؟ وَبَيْنَ يَدَيْ أَيِّ سُلْطَانٍ أَنْتَ ?. فَقَالَ الهنديُّ: إِنْ كَانَ يدعُو إِلَى اللهِ كَمَا يَزْعُمُ، فلَيْسَ هَذَا مِنْ شُرُوط ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سُلطَاناً قَاهِراً لاَ يُنصف، فَهَذَا أَمرٌ آخر. فَقَالَ الوَزِيْرُ: دَعُوهُ. ثُمَّ وَرد الخَبَرُ بِتَشْوِيشِ خُرَاسَان، وضَاقَ عَلَى صَاحِب الهِنْدِ الأَمْرُ، وَرَأَى أَنَّ بلاَدَهُ تَخْرَبُ، فَنَفَّذَ رَسُولاً آخر، وَتَلَطَّفَ، وَقَالَ: إِنَّ مُفَارقَة دينِنَا لاَ سَبِيْل إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُنَا مَال

نُصَالِحُكَ عَلَيْهِ، وَلَكِن نجعلُ بَيْنَنَا هُدْنَةً، وَنكُونُ تَحْتَ طَاعَتِك. قَالَ: أُريد أَلفَ فيل وَأَلف مَناً ذهباً. قَالَ: هَذَا لاَ قُدرَة لَنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ تقرّر بينهُمَا تَسْلِيمُ خَمْس مائَة فيلٍ وثَلاَثَةِ آلاَف مِنْ فِضَّة، وَاقترح مَحْمُوْدٌ عَلَى الْملك بَيْدَا أَنْ يلبس خِلْعَتَه، وَيَشُدَّ السَّيْفَ وَالمِنْطَقَة، وَيضرب السِّكَةَ باسمه. فَأَجَابَ، لَكِنَّهُ اسْتَعفَى مِنَ السِّكَة، فَكَانَتِ الخِلْعَةُ قَبَاءً نُسِج بِالذَّهَبِ، وَعِمَامَةَ قصبٍ، وَسَيْفاً مُحَلَّى، وَفرساً وَخُفّاً، وَخَاتَماً عَلَيْهِ اسْمُه، وَقَالَ لرَسُوله: امضِ حَتَّى يَلْبَس ذَلِكَ، وَينزِلَ إِلَى الأَرْضِ، وَيقطعَ خَاتَمَه وَأُصْبُعَهُ، وَيُسَلِّمهَا إِلَيْك، فذَلِكَ علاَمَةُ التَّوثِقَة. قَالَ: وَكَانَ عِنْد مَحْمُوْدٍ شيءٌ كَثِيْرٌ مِنْ أَصَابع المُلُوك الَّذِيْنَ هَادنَهَم.
قَالَ ابْنُ المِيمندِي الوَزِيْرُ: فذهبت في عشرة مماليك أتراك، وجئنا وَصحنَا: رَسُوْل رَسُول. فكفُّوا عَنِ الرَّمْي، فَأُدْخِلْنَا عَلَى المَلِكِ، وَهُوَ شَابٌّ مليحُ الوَجْه عَلَى سَرِير فِضَّة، فَخدمتُه بِأَن صفقْتُ بيدَيَّ، وَانحنيتُ عَلَيْهِمَا، وَقُلْتُ: جُوْ. فَكَانَ جَوَابه: بَاهُ. وَأَجلسنِي، وَقرَّبنِي، وَأَخَذَ يَشْكُو مَا لَحِقَ البِلاَدَ مِنَ الخَرَاب، ثُمَّ لبس الخِلْعَةَ بَعْد تَمنُّع، وَتَعَمَّمَّ لَهُ تركِيٌّ، وَطَالبتُه بِالحَلف، قَالَ: نَحْلِفُ بِالأَصْنَام وَالنَّار، وَأَنْتُم لاَ تَقْنَعُوْنَ بِذَلِكَ. قُلْتُ: لاَ بُدَّ وَأَحجمتُ عَنْ ذكر الأُصْبُع، فَأَخْرَجَ حَدِيْدَةً قطع بِهَا أُصْبُعهُ الصُّغْرَى وَلَمْ يَكْتَرِثْ، وَعمل على يده كافورًا، ودفعت إليه وَقَالَ: قُل لصَاحِبكَ: اكفُفْ عَنْ أَذَى الرَّعِيَّة. فَرَجَعَ السُّلْطَانُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَنفَّذَ إِلَيْهِ ابْنُ مَرْوَانَ صَاحِبُ ديَار بكر هديَّةً، فَرَدَّهَا وَقَالَ: لم أَردَّهَا اسْتَقلاَلاً، وَلَكِن علمتُ أَنَّ قصدكَ المُخَالَطَةُ وَالمصَادقَةُ، وَيقبُحُ بِي أَنْ أَصَادِقَ مَنْ لاَ أَقدِرُ أَنْ أَنصُره، وَرُبَّمَا طرقَكَ عدوٌّ وَأَنَا عَلَى أَلف فرسخٍ مِنْكَ، فَلاَ أَتمكَّنُ مِنْ نُصرتك.
ثُمَّ بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ الهنودَ قَالُوا: أَخرب أَكْثَرَ بلاَدِ الهِنْد غضبُ الصَّنمِ الكَبِيْر سُومنَات عَلَى سَائِر الأَصْنَام وَمَنْ حولهَا، فعزَم عَلَى غَزْو هَذَا الوَثن، وَسَارَ يَطوِي القِفَار فِي جَيْشِهِ إِلَيْهِ، وَكَانُوا يَقُولُوْنَ: إِنَّهُ يَرزُق وَيُحيي وَيُمِيت وَيسمع: وَيَعِي، يَحُجُّوْنَ إِلَيْهِ، وَيُتحِفونه بِالنَّفَائِس، وَيتغَالَوْنَ فِيْهِ كَثِيْراً، فَتَجمَّع عِنْد هَذَا الصَّنم مَالٌ يَتَجَاوَزُ الوَصْفَ، وَكَانُوا يَغسِلُونه كُلّ يَوْم بِمَاءٍ وَعَسل وَلبن، وَينقلُوْنَ إِلَيْهِ المَاءَ مِنْ نهرِ حيل مسيرَةَ شَهْر، وَثَلاَثِ مائَةٍ يَحلِقُوْنَ رُؤُوْس حُجَّاجِهِ وَلِحَاهُم، وَثَلاَثُ مائَةٍ يُغَنُّوْنَ. فَسَارَ الجَيْشُ مِنْ غَزْنَة، وَقطعُوا مَفَازَةً صعبَةً، وَكَانُوا ثَلاَثِيْنَ أَلف فَارس وَخلقاً مِنَ الرَّجَّالَة وَالمُطَّوِّعَة، وَقَوَّى المُطَّوِّعَةَ بخَمْسِيْنَ أَلف دِيْنَار، وَأَنفقَ فِي الجَيْشِ فوقَ الكِفَايَة، وَارْتَحَلَ مِنَ المُليَا ثَانِي يَوْم الْفطر سَنَة 416، وَقَاسُوا مشَاقَّ، وَبقُوا لاَ يجدُوْنَ المَاءَ إلَّا بَعْد ثَلاَث، غطَّاهُم فِي يَوْمٍ ضبَابٌ عَظِيْم، فَقَالَتِ الكَفَرَةُ: هَذَا مِنْ فعل الإِله سُومَنَات. ثُمَّ نَازل مدينَةَ أَنْهَلْوَارَة، وَهَرَبَ مِنْهَا مَلِكُهَا إِلَى جَزِيْرَةٍ، فَأَخرب المُسْلِمُوْنَ بَلَدَهُ، وَدكُّوهَا، وَبينهَا وَبَيْنَ الصَّنَم مسيرَةُ شَهْرٍ فِي مفَاوز، فسَارُوا حَتَّى نَازَلُوا مدينة

دَبُولوَارَة؛ وَهِيَ قَبْل الصَّنَمِ بيومِين، فَأُخذت عَنْوَةً، وَكُسِرت أَصنَامُهَا، وَهِيَ كَثِيْرَةُ الفواكِه، ثُمَّ نَازلُوا سومنات في رابع عشر ذِي القَعْدَةِ، وَلَهَا قلعَةٌ منيعَةٌ عَلَى البَحْر، فَوَقَعَ الحِصَارُ، فنُصِبَت السَّلاَلِمُ عَلَيْهَا، فَهَرَبَ المُقَاتِلَةُ إِلَى الصَّنَمِ، وَتضرَّعُوا لَهُ، وَاشتدَّ الحَالُ وَهُم يَظُنُّوْن أَنَّ الصَّنَمَ قَدْ غضب عَلَيْهِم، وَكَانَ فِي بَيْتٍ عَظِيْمٍ منيع، عَلَى أَبوَابه السُّتُورُ الدِّيباجُ، وَعَلَى الصَّنم مِنَ الحُلِيِّ وَالجَوَاهِر مَا لاَ يُوصف، وَالقنَادِيل تُضيءُ ليلاً وَنهَاراً، عَلَى رَأْسِه تَاجٌ لاَ يُقَوَّم، يَنْدَهِشُ مِنْهُ النَّاظِرُ، وَيَجْتَمُعُ عِنْدَهُ فِي عِيْدِهِم نَحْو مائَة أَلْف كَافِر، وَهُوَ عَلَى عرشٍ بَدِيْعِ الزَّخْرفَة؛ علو خَمْسَةِ أَذْرُع، وَطولُ الصَّنَم عَشْرَةُ أَذْرُع، وَلَهُ بيت مال فيه من النفائس والذهب ما لا يُحصَى، فَفَرَّق مَحْمُوْدٌ فِي الجُنْدِ مُعْظَمَ ذَلِكَ، وَزعزعَ الصَّنَم بِالمعَاوِل، فَخَرَّ صَرِيْعاً، وَكَانَتْ فِرْقَةٌ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَنَات، وَأَنَّهُ تَحَوَّلَ بِنَفْسِهِ فِي أَيَّام النُّبُوَّة مِنْ سَاحِل جُدَّة، وَحَصَلَ بِهَذَا المَكَان ليُقْصَد وَيُحَجَّ مُعَارَضَةً للكعبَة. فَلَمَّا رَآهُ الكُفَارُ صَرِيْعاً مهيناً، تَحَسَّرُوا، وَسُقِط فِي أَيديهُم، ثُمَّ أُحْرِقَ حَتَّى صَارَ كلساً، وَأُلقِيْت النِّيرَانُ فِي قُصُور القَلْعَة، وَقُتِلَ بِهَا خمسُوْنَ أَلْفاً، ثُمَّ سَارَ مَحْمُوْدٌ لأَسر المَلِك بَهِيم، وَدخلُوا بِالمرَاكب، فَهَرَبَ، وَافتَتَح مَحْمُوْدٌ عِدَّةَ حصُوْن وَمدَائِن، وَعَاد إِلَى غَزْنَة، فَدَخَلَهَا فِي ثَامن صفر سَنَة سَبْعَ عَشْرَةَ، وَدَانت لَهُ المُلُوكُ، فَكَانَتْ مدة الغيبة مائةً وثلاثة وستين يومًا.
وفِي سَنَة ثَمَان عشرَة سَارَ إِلَى بَلْخَ، وَجَهَّزَ جَيْشَه إِلَى مَا وَرَاء النَّهر فِي نُصْرَة الخَانيَّة، وَكَانَ عَلِيُّ بنُ تكين قَدْ أَغَار عَلَى بُخَارَى، فضَاق قدرخَانُ بِهِ ذرعاً، وَاسْتنجد مَحْمُوداً، فَفَرَّ ابْنُ تكين، وَدَخَلَ البَرِّيَّة. ثُمَّ حَارب مَحْمُوْدٌ الغُزَّ، وَقبضَ عَلَى ابْنِ سُلْجُوْق مُقَدَّمِهم، فثَارت الغُزُّ، وَأَفسدُوا، وَتَفَرَّغُوا للأَذَى، وَتعبت بِهِم الرَّعِيَّةُ، وَاسْتحكم الشَّرُّ، وَأَقَامَ مَحْمُوْدٌ بِنَيْسَابُوْرَ مُدَّةً، ثُمَّ فِي عِشْرِيْنَ قصدَ الرَّيَّ، وَأَخذهَا، وَقبضَ عَلَى مَلِكِهَا مَجْدِ الدَّوْلَة بنِ بُويه؛ وَكَانَ ضَعِيْفَ التَّدْبِيْر، فَضَرَبَ حَتَّى حمل أَلفَ أَلفِ دِيْنَار، وَصلبَ مَحْمُوْدٌ أُمرَاءَ مِنَ الدَّيْلَم، وَجرت قبَائِحُ وَظُلم. ثُمَّ جهَّزَ مَحْمُوْدٌ وَلدَهُ مسعُوداً، فَاسْتولَى عَلَى أَصْبَهَان، ثُمَّ رَجَعَ السُّلْطَانُ إِلَى غَزْنَة عَلِيْلاً، فَمَاتَ فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى، وَأَمسَى وَقَدْ فَارقته الجُنُود، وَتنكَّسَتْ لحُزنه البُنُود، وَنَاح عَلَيْهِ الوَالد وَالمَوْلُوْدُ، وَسَكَنَ ظُلْمَة اللُّحُود.
وَقَدْ خُطبَ لَهُ بِالغُور وَبِخُرَاسَانَ وَالسِّند وَالهِنْد، وَنَاحيَة خُوَارَزْم وَبلخ؛ وَهِيَ مِنْ خُرَاسَان، وَبِجُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَان وَالرَّيّ وَالجِبَالِ، وَأَصْبَهَان وَأَذْرَبِيْجَان، وَهَمْدَانِ وَأَرْمِيْنِيَةَ.
وَكَانَ مُكرِماً لأُمرَائِه وَأَصْحَابِهِ، وَإِذَا نقم عَاجَلَ، وَكَانَ لاَ يفتُر وَلاَ يكَاد يَقِرُّ. سَارَ مرَّةً فِي خَمْسِيْنَ أَلف فارس، وفي مائةي فيل، وَأَرْبَعِيْنَ أَلف جَمَّازَة تَحْمِلُ ثِقْل العَسَاكِر، وَكَانَ يَعْتَقِدُ فِي الخَلِيْفَة، وَيخضَعُ لجَلاَلِهِ، وَيَحْمِلُ إِلَيْهِ قنَاطيرَ مِنَ الذَّهَب، وَكَانَ إِلْباً عَلَى القرامطة

(13/176)

وَالإِسْمَاعِيْلِيَّة وَعَلَى المُتَكَلِّمِيْن، عَلَى بدعَةٍ فِيْهِ فِيْمَا قيل، ويغضب للكرَّامِيَّة، وَكَانَ يشربُ النَّبِيذَ دَائِماً، وَتَصَرُّفه عَلَى الأَخلاَق الزَّكِيَة، وَكَانَ فِيْهِ شِدَّةُ وَطأَةٍ عَلَى الرعية؛ ولكن كانوا في أمن وإقامة سياسة، ولازمه علة نحو ثلاث سنين، كان يعترِيه إِسهَالٌ، وَلاَ يتركُ الرُّكُوبَ وَالسَّفَر، قُبض وَهُوَ فِي مَجْلِسه وَدَسْتِه مَا وضَع جَنْبَه، وَلَمَّا احتُضر، قَالَ لوَزِيْره: يَا أَبَا الحَسَنِ: ذَهَبَ شَيْخُكُم. ثُمَّ مَاتَ يَوْمَ الخَمسين لِتِسْعٍ بَقِيْنَ مِنْ رَبِيْعٍ الآخِرِ، فَكُتم مَوْته، ثُمَّ فَشَى، وَأَتَى ابْنُه السُّلْطَان مُحَمَّدٌ مِنَ الجوزجَان، فوصلَ فِي أَرْبَعِيْنَ يَوْماً.
كَانَ السُّلْطَانُ مَحْمُوْدٌ رَبْعَةً، فِيْهِ سِمَنٌ، تركِيَّ العَيْنِ، فِيْهِ شُقْرَةٌ، وَلحيتُه مُستديرَةٌ، غليظُ الصَّوْتِ، وَفِي عَارِضَيه شَيْبٌ. وَكَانَ ابْنُه مُحَمَّدٌ فِي قَدِّهِ، وَكَانَ ابْنُه مَسْعُوْدٌ طَوِيْلاً.
قَالَ مَحْمُوْدٌ يَوْماً للأَمِيْر أَبِي طَاهِرٍ السَّامَانِي: كم جمع آبَاؤك مِنَ الجَوْهر؟ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّهُ كَانَ عِنْد الأَمِيْر الرَّضي سَبْعَةُ أَرطَال. فَسَجَدَ شكراً، وَقَالَ: أَنَا فِي خِزَانتِي سَبْعُوْنَ

رطلاً.
وَكَانَ صمَّم عَلَى التَّوَغُّل فِي بلاَد الخَانيَة، وَقَالَ: مَعِي أَرْبَعُ مائَة فيل مُقَاتلَة مَا يثبُتُ لَهَا أَحد. فَبلغه أَنَّ الخَانيَة قَالُوا: نَحْنُ نَأْخذُ أَلفَ ثَوْرٍ تُركيَّة؛ وَهِيَ كِبَارٌ ضِخَامٌ، فَنَجعَلُ عَلَيْهَا أَلف عَجَلَة، وَنَملؤُهَا حَطَباً، فَإِذَا دنت الفِيَلَةُ، أَوقدنَا الحَطَب، فتطلُبُ البقَر أَمَامَهَا، وَتُلقِي النَّارَ عَلَى الأَفيلَة وَعَلَى مَنْ حولهَا، فتتمُّ الهَزِيْمَةُ، فَأَحجم مَحْمُوْدٌ.
وَكَانَ يعظِّم المِيمنديَّ كَاتِبَه، لأَنَّهم لَمَّا نازلوا مدينة بيدا، حصل السُّلْطَانُ وَكَاتبه فِي عِشْرِيْنَ فَارِساً فَوْقَ تَلٍّ تُجَاهُ البَلَد، فَبرز لَهُم عَسْكَرٌ أَحَاطُوا بِالتَّلِّ، فَعَاينُوا التَّلَف، فَتَقَدَّم كَاتبه، وَنَادَوا الهنودَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَحْمُوْد. قَالُوا: أَنْتَ المُرَاد. قَالَ: هَا أَنَا فِي أَيديكُم، وَعِنْدِي مِنْ مُلُوكِكُم جَمَاعَةٌ أَفدِي نَفْسِي بِهِم، وَأَحضِرُهُم، وَأَنزِلُ عَلَى حُكمِكُم. فَفَرحُوا، وَقَالُوا: فَأَحضِر المُلُوك. فَالتفتَ إِلَى شَابٍّ، وَقَالَ: امضِ إِلَى وَلدِي، وَعرِّفْه خَبَرِي. ثُمَّ قَالَ: لاَ! أَنْتَ لاَ تنهَضُ بِالرِّسَالَة. وَقَالَ لمَحْمُوْدٍ: امضِ، أَنْتَ عَاقلٌ وَأَسْرَعُ. فَلَمَّا جَاوز نهراً، لقيَهُ بَعْضُ جُنْده، فَتَرَجَّلُوا. وَعَاين ذَلِكَ مَنْ فَوْقَ القلعَة، فَقَالُوا لكَاتبه: مَنْ رسولُك؟ قَالَ: ذَاكُم السُّلْطَانُ فديتُهُ بنفسِي، فَافْعَلُوا مَا بدَا لَكُم. وَبَلَغَ ذلك بيدا، فأعجبهن وَقَالَ: نِعْمَ مَا فَعَلْتَ، فتوسَّطْ لَنَا عِنْد سلطَانك. فَهَادَنَهُم، وَزَادت عظمَةُ المِيمندِي عِنْد مَحْمُوْد، حَتَّى إِنَّهُ زوَّج أَخَاهُ يُوْسُف بزَليخَا ابْنَةِ المِيمندِي، ثُمَّ فِي الآخر قَبَضَ عَلَيْهِ، وَصَادره، لأَنَّه أَرَادَ أَنْ يَسُمَّ مَحْمُوْداً، وَوزن لَهُ أَلفَ أَلفِ دِيْنَار، وَمن التُّحف وَالذَّخَائِر مَا لاَ يُوصف بَعْد العَذَاب، ثُمَّ أُطلق المِيمندِي بَعْد وَفَاة مَحْمُوْدٍ، وَوزَرَ لمَسْعُوْد.
أُحضر إِلَى مَحْمُوْدٍ بغَزْنَة شخصَان مِنَ النَّسْنَاسِ مِنْ بَادِيَة بلاصيغون؛ وَهِيَ مملكَةُ قدرخَان، وَعَدْوُ النَّسْنَاسِ فِي شِدَّة عَدْوِ الفَرَس، وَهُوَ فِي صورَة آدمِي، لَكِنَّهُ بدنُهُ ملبَّس بِالشَّعر، وَكَلاَمُهُ صفيرٌ، وَيَأْكُلُ حشيشًا، وأهل تلك البلاد يصطادونهم، ويأكلونهم. فسَأَلَ مَحْمُوْدٌ الفُقَهَاء عَنْ أَكْل لَحْمِهِم، فَنَهوا عنه.

سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي

 

يمين الدولة محمود بن سبكتكين الغزنوي
الإمام العادل المظفر يمين الدولة محمود بن سبكتكين الغازي الغزنوي السلطان المشهور ولد
ليلة عاشوراء سنة سبع وخمسين وثلاث مائة من إحدى بنات الزابلية، ونشأ في نعمة والده
وشاركه في الغزوات، وفتح الفتوحات العظيمة فولاه والده على نيسابور، ولقبه الأمير نوح بن
منصور الساماني بسيف الدولة وكان بنيسابور إذ مات والده سنة سبع وثمانين وثلاث مائة،
فقام بالأمر بعده ولده إسماعيل بوصية من أبيه واجتمعت عليه الكلمة وغمرهم بإنفاق
الأموال فيهم.
فلما بلغ محموداً نعى أبيه كتب إلى إسماعيل ولاطفه في القول وقال له: إن أبي لم يستخلفك
دوني إلا لكونك كنت عنده وأنا كنت بعيداً عنه ولو أوقف الأمر على حضوري لفاتت
مقاصده، ومن المصلحة أن نتقاسم الأموال بالميراث فتكون أنت مكانك بغزنة وأنا بخراسان،
وندبر الأمور ونتفق على المصالح فلا يطمع فينا عدو، فأبى إسماعيل موافقته على ذلك،
فخرج محمود إلى هراة وجد مكاتبة أخيه وهو لا يزداد إلا اعتياصاً، فقصده بغزنة ونازلها
في جيش عظيم وحاصرها واشتد القتال عليها، ففتحها ونزل إسماعيل في حكم أمانه
وتسلم منه مفاتيح الخزائن، ورتب في غزنة النواب والأكفاء وانحدر إلى بلخ.
وكان في بعض بلاد خراسان نواب لصاحب ما وراء النهر من ملوك بني سامان فجرت بين
محمود وبينهم حروب، انتصر فيها عليهم وملك بلاد خراسان وانقطعت الدولة السامانية
منها سنة تسع وثمانين وثلاث مائة، واستتب له الملك وسير له الإمام القادر بالله خلعة
السلطنة ولقبه بأمين الملة وبيمين الدولة وسار إلى سجستان وصاحبها خلف بن أحمد،
سير ولده طاهراً إلى قهستان فملكها، ثم إلى بوشنج فملكها، فسار نحو خلف بن أحمد
فتحصن بحصن أصبهند فضيق عليه، فخضع خلف وبذل أموالاً جليلة لينفس عن
خناقه، فأجابه محمود إلى ذلك.
وأحب أن يغزو الهند غزوة تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين فثنى عنانه نحو
الهند سنة اثنتين وتسعين وثلاث مائة، فنزل على مدينة بيشابور وقاتل جي بال وأسره
وغنم أموالاً جليلة وجواهر نفيسة، ثم سار نحو ويهند فأقام عليها محاصراً لها حتى فتحها
قهراً، وسير طائفة من عسكره إلى جماعة من الهند اجتمعوا بشعاب تلك الجبال فأوقعوا
بهم وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج منهم إلا الشريد الفريد.
ثم غزا بهاطية فقتل المقاتلة وسبى الذرية وأخذ الأموال، واستخلف بها من يعلم من أسلم
من أهلها سنة خمس وتسعين، ثم غزا الملتان وقصد صاحبها أبا الفتح داؤد بن نصير بن
حميد القرمطي الذي نقل عنه خبث اعتقاده فسار نحوه ست وتسعين، وأرسل إلى آنندبال
يطلب إليه أن يأذن له في العبور ببلاده إلى الملتان فلم يجبه إلى ذلك، فابتدأ به ودخل في
بلاده وجاسها وأكثر القتل فيها، ففر آنندبال إلى كشمير، فسار محمود نحو الملتان فنازلها
وقاتل أهلها حتى افتتحها عنوة وصالح أبا الفتح على أن يبعث إليه كل سنة عشرين ألف
دينار، فرجع إلى غزنة وسار نحو الهند سنة وسبع تسعين نحو سكهه بال الذي ارتد عن
الاسلام فسار إليه مجداً، فحين قاربه فر الهندي من بين يديه، واستعاد محمود ولايته
وأعادها إلى حكم الاسلام ورجع، ثم استعد لغزوة أخرى سنة ثمان وتسعين، فسار نحو
الهند ووصل إلى نكركوث وملكها وأخذ من الجواهر النفيسة ومن أواني الذهب والفضة
والدراهم والدنانير ما لا يحد.وسار نحو الهند سنة أربع مائة عازماً على غزوها، فسار إليها واخترقها واستباحها، ولما
رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه فصالحه، ثم سار
إلى الهند سنة أربع وأربع مائة وقاتل الهنود أشد قتال، وغنم ما معهم من مال وفيلة وسلاح
وغير ذلك، وسار إلى الهند سنة خمس وأربع مائة وقصد تهانيسر، فهدم الكنائس وكسر
الأصنام وأخذ الجواهر النفيسة والذهب والفضة وغيرها من الأموال الطائلة، وكذلك سار
إلى كشمير سنة ست وأربع مائة وحاصر قلعة لوه كوث. واضطر الناس ممن يلازمه من
البرد والثلج إلى ترك المحاصرة فرجع إلى غزنة، ثم سار سنة سبع وأربعمائة ووصل إلى قنوج
وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة، وبلغ إلى حصن قنوج وكان حصيناً منيعاً لا يكاد أن
يفتح ولكن الله سبحانه ألقى الرعب في قلب صاحبها فصالحه، ثم سار إلى ميرله وملكها،
ثم فتح مهاون وفتح متهرا مولد كرشن، وهدم الكنائس وكسر الأصنام، وأخذ الأموال
الجليلة، وكذلك فتح قلاعاً كثيرة، وفي سنة تسع وأربع مائة احتشد وجمع أكثر مما تقدم،
وقصد كالنجر وسلك مضائقها وفتح مغالقها، وعبر نهر كنك، وجاس البلاد وغنم الأموال
وأكثر القتل في الهنود والأسر، وفي سنة أربع عشرة وأربع مائة قصد كالنجر، وفتح قلعة
كواليار، وفتح كالنجر على مال يؤديه صاحبها، وفي سنة ست عشرة وأربع مائة قصد
الهند، وسار إلى سومنات، وكانت بلدة كبيرة على ساحل البحر فافتتحها عنوة، وكسر
الصنم المعروف بسومنات وأحرق بعضه وأخذ بعضه معه إلى غزنة فجعله عتبة الجامع،
وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنها مائتا من، وعنده خزانة فيها عدة من الأصنام
الذهبية والفضية، وقيمة ما في البيوت تزيد على عشرين ألف ألف دينار، فأخذ الجميع
ورجع إلى غزنة سنة سبع عشرة وأربع مائة، وكتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يذكر فيه
ما فتح الله على يديه من بلاد الهند، فلقبه الإمام القادر بالله العباسي بكهف الدولة
والاسلام.
وقد جمع سيرته أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي الفاضل في كتابه المشهور بتاريخ
اليميني، وذكر تاج الدين السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى وأطال الكلام في مناقبه
وقال: إنه كان حنفياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعي في قصة صلاة القفال، وذكر إمام الحرمين
أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه مغيث الخلق في اختيار الأحق قصة صلاة القفال
بحضوره، وهي مشهورة لا نطول الكلام بذكرها، وذكر القاضي أحمد بن خلكان في كتابه
وفيات الأعيان ترجمته فأجاد فيها، وذكر ابن الأثير في الكامل غزواته وفتوحاته مفصلاً،
وأبو الفداء في تاريخه بالإجمال، وذكر خلق آخرون في كتبهم، وإني ذكرت شيئاً واسعاً من
فتوحاته وغزواته في جنة المشرق.
وللسلطان مصنفات منها التفريد في الفروع ذكره صاحب كشف الظنون، ونقل عن الإمام
مسعود بن شيبة أن السلطان المذكور كان من أعيان الفقهاء، وكتابه هذا مشهور في بلاد
غزنة، وهو في غاية الجودة وكثرة المسائل، ولعله نحو ستين ألف مسألة- انتهى، وفي
التاتارخانية نقول منه، ولما رأى أن مذهب الشافعي أوفق بظواهر الحديث تشفع بعد أن
جمع علماء المذهبين كما ذكره ابن خلكان- انتهى.
وكان عاقلاً ديناً خيراً، عنده علم ومعرفة، وصنف له العلماء كثيراً من الكتب في فنون
العلم، وقصده أهل العلم من أقطار البلاد، وكان يكرمهم ويقبل عليهم ويعظمهم ويحسن
إليهم، وكان عادلاً كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم، كثير المعروف، كثير الغزوات،
ملازماً للجهاد، وفتوحه مشهورة، وفيه ما يستدل على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه
بالجهاد، ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق، وكان جدد
عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى والرشيد وأحسن عمارته، وكان أبوه
سبكتكين خربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم عن ذلك.
وكان ربعة، مليح اللون، حسن الوجه، صغير العينين، أحمر الشعر، وكان مرضه سوء
مزاج وإسهالاً، وبقي كذلك سنتين، وكان قوي النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند
إلى مخدة، فأشار عليه الأطباء بالراحة، وكان يجلس للناس بكرة وعشية فقال: أتريدون أن
أعتزل الإمارة؟ فلم يزل كذلك حتى توفي إلى رحمة الله سبحانه قاعداً، وكان ذلك في
الحادي عشر من صفر، وقيل ربيع الثاني سنة إحدى وعشرين وأربع مائة بغزنة، كما في
الكامل.

الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى بـ (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر)

 

 

محمود بن سبكتكين الغزنوي، السلطان يمين الدولة أبو القاسم ابن الأمير ناصر الدولة أبي منصور:
فاتح الهند، وأحد كبار القادة. امتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور. وكانت عاصمته غزنة (بين خراسان والهند) وفيها ولادته ووفاته. مات أبوه سبكتكين (صاحب غزنة، ناصر الدولة، أمير غزاة الهند، أبو منصور) سنة 387 هـ وخلف ثلاثة أولاد، هم: محمود وإسماعيل ونصر. وجرت بينهم حروب، ظفر بها (محمود) واستولى على الإمارة سنة 389 وأرسل إليه القادر باللَّه العباسي خلعة السلطنة، فقصد بلاد خراسان فاستلب ملكها من أيدي السامانية، وصمد لقتال ملك الترك بما وراء النهر. وجعل دأبه غزو الهند مرة في كل عام، فافتتح بلادا شاسعة، واستمر إلى أن أصيب بمرض عاناه مدة سنتين، لم يضطجع فيهما على فراش بل كان يتكئ جالسا، حتى مات وهو كذلك. وقبره في غزنة. وسيرته مدوّنة. وهو تركي الأصل، مستعرب. كان حازما صائب الرأي، يجالس العلماء، ويناظرهم. وكان من أعيان الفقهاء، فصيحا بليغا، استعان بأهل العلم على تأليف كتب كثيرة في فنون مختلفة، نسبت إليه، منها كتاب (التفريد) في فقه الحنفية، نحو ستين ألف مسألة، وخطب ورسائل، وشعر. وله صنف (العتبي) تاريخه الّذي سماه (اليميني - ط) .

-الاعلام للزركلي-