(1309 - 1342 هـ = 1892 - 1923 م) سيد بن درويش البحر النجّار: ملحّن، من كبار الموسيقيين بمصر. ترك فنه أثرا ظاهرا في نقل النغم المصري من حال إلى حال. ولد بالإسكندرية، وحفظ القرآن وتحوّل من ترتيله إلى إلقاء التواشيح. وسافر إلى سورية مع جوق تمثيلي، فأقام ثلاث سنوات، درس في خلالها فن الموشحات على علمائه. وعاد إلى الإسكندرية، ثم إلى القاهرة وقد أتقن الضرب على العود، فأحدث في الموسيقى العربية نغمة سماها (الزنجران) وهي خليط من الحجاز والجاركاه، واشتغل بتلحين الأغاني للفرق المسرحية، فلحن مئات من (الأدوار) واشتهر. وكان ضعيف الذاكرة، فاستعان بآلة (تسجيل الصوت) ليسجل عليها ما يلحنه شيئا فشيئا. وظهرت عبقريته في ألحان (شهرزاد) و (العشرة الطيبة) و (كليوباترا) من الروايات التي وضع ألحانها. ويقول المتحدثون عنه إنه عانى في صغره فقرا مدقعا، حتى كان يقرأ القرآن على البيوت، في طلب القوت، واشتغل نقاشا، ثم كان يغني في المقاهي الصغيرة، ويلحن أدواره وهو في الثامنة عشرة من عمره. وكان ينسب أدواره إلى مغنين من ذوي الشهرة، ليستميل الناس إلى سماعها. وابتلي بشم (الكوكايين) فمات بتأثيره، في الإسكندرية .
-الاعلام للزركلي-
الشيخ سيد درويش
(1892 ـ 1923م)
مولده ونشأته: هو الفنان الجبار الخالد الذي حطم أغلال الفن من قيوده القديمـة وأخرجه من الظلمات إلى النور، ولد سنة 1892م في حي كوم الشقافة بالإسكندرية وحصَّل القليل من العلم في مدرستي (شمس المدارس) والشيخ إبراهيم باشا والمعاهد الدينية وحفظ القرآن الكريم وأجاد تجويده وترتيله، نشأ فتى معمماً وقطع في دراساته شوطاً بعيداً، لولا ميله الفجائي إلى احتراف التلحين وشغفه بالموسيقى والغناء، ولكنه لم يصب نجاحاً في بادئ الأمر وانقضى عليه وقت طويل وهو مغمور لا يسمع عنه أحد وفي سنة 1918م ترك الإسكندرية إلى القاهرة فوافاه النجاح، ولم يمض سنوات حتى ذاع صيته واعترف له الكل بالزعامة، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لفنان قبله ويندر أن يجتمع لأحد بعده.
كفاحه في الحياة: لقد كافح الحياة وقبل أن يبلغ قمة المجد عرف الشيخ سلامة حجازي له قدرة وسمح له بالغناء على مسرحه ذات ليلة بعد أن قدمه للجمهور، فلما بدأ الشيخ سيد درويش يغني، وكانت ألحانه فذة غير مألوفة استنكر الجمهور غناءه وراح يصيح طالباً الشيخ سلامة، فخرج هذا إليهم وهتف (عاوزين إيه يا ناس يا للي ما تقدروش الفن؟) وراح يصب على الجماهير وابلاً من قارص الكلم ويرميهم بالجمود.
أما الشيخ سيد درويش فقد اختفى خلف الكواليس وأخذ يبكي ويتأوه، وبهذه الدموع والآهات والكفاح المضني تربع على عرش الموسيقى، وبلغ من المجد في حياته ما لا مزيد عليه، فقد اعترف له الجميع بأنه جدد الموسيقى للمرة الثانية بعد الحمولي، ووضع الغناء التمثيلي على أسس مكين، وأثبت أن الموسيقى الشرقية كأختها الغربية قادرة على التعبير عن مختلف المشاعر وتصوير الطبيعة أروع تصوير.
لم يكن من شأن الشيخ سيد درويش التواضع وإنكار الذات، فقد كان يحب أن يرى تمجيد الناس له ويسمع إشادتهم بذكره، وكان يثور على كل من يحاول إنكار عبقريته، ويعبر عن تلك الثورة بالقيام ومغادرة المجلس الذي يجلس فيه منكر فضله، بيد أنه عاد فأنكر عبقريته في أواخر أيام حياته، وهذا عجيب من رجل مات وهو في ذروة مجده، فقد قال من رأوه قبل وفاته إنه ثار على نفسه إن صح هذا التعبير وراح ينكر كل آثاره الموسيقية ولا يرضى عن مجهوده العقيم...! وهذا يدل على ضخامة آماله، وقد صمم على السفر إلى إيطاليا ليدرس الموسيقى الغربية دراسة تفصيلية جامعة، ولكن الموت ختم حياته وقضى على كل أمانيه.
الفنان البوهيمي: لم يكن من المتوقع أن يجتمع الزهد والحياة البوهيمية في شخصية سيد درويش، فأما البوهيمية فلم يكن يحدها حد، فقد كانت حياته فوضى يندر أن يكون لها مثيلا في سائر الفنانين، كان يأكل كل شيء وفي أي مكان، وكان يصوم أياماً فلا يأكل ولا يشرب إلا ما يسدُّ الرمق.
وكان يُرى في كل مكان، ثم يختفي فلا يعرف له أحد مستقرًّا، وقد روي عنه أنه كان مختلياً بنفسه في قهوة على ضفة النيل ليتم تأليف لحن من ألحانه بينما كان بيته غاصًّا بأصدقائه ومعارفه، وكانت عروسه تنتظره ليلة الزفاف.
وكان ينام ويسهر، فلا ضابط لنومه أو سهره، كان طيباً ورقيقاً جدًّا، فإذا ثارت ثائرته تبدلت حاله وأصبح شرساً وقاسياً.
أما ملابسه فقد كانت فوضى لا حد لها، ولم يكن ينتظم منها إلا رباط رقبته، وكان يتقاضى ثمن ألحانه في فترات منقطعة، إذ لم يكن له مرتب ثابت اللهم إلا عند اشتغاله مع نجيب الريحاني، فكان يرسل جانباً من النقود إلى عائلته في الإسكندرية وينفق الباقي وقد يتجاوز مئات الجنيهات على أكثر من عشرة من أصدقائه كانوا يصاحبونه في سهراته البوهيمية ولياله الليلاء، وقد مرت به أيام سوداء في أواخر الحرب العظمى وخلال الثورة المصرية سنة 1919م كان فيها مفلساً بكل معاني الإفلاس، ومع ذلك لم يحد عن حياته البوهيمية قيد شعرة.
زهده: أما زهده فقد كان فريداً بين أبواب الزهد المعروفة، كان هذا الزهد يأتيه على نوبات تشبه نوبات الجنون، وكان تارة يأساً من الحياة وأخرى نفوراً من عالم اللهو والحياة البوهيمية، كما كان في أحيان أخرى متشائماً ومتوقعاً للموت القريب، ومن أشد ذكريات تشاؤمه إيلاماً أنه كان يتوقع الموت في كل حين، وكان يهدي صوره إلى أصدقائه ويكتب عليها.
صديقي إن عفا رسمي | وهدَّ الموت بنياني |
فناج الروح واذكرني | نزيل العالم الثاني |
ومن الغرائب أنه بينما كان في غرفته وقعت صورته بجانب زهرية ورد على الأرض لوحدها دون أن يمسها أي شيء، وقد مرَّ على ذهنه بأن أجله سينتهي في هذه السنة، ومن المصادفات العجيبة أن سيد درويش مات بعد هذه الحادثة ببضعة أشهر.
وكان استبداله العمامة والجبة والقفطان بالملابس الإفرنجية مظهراً من مظاهر زهده، ولذلك حكاية مؤثرة، فقد كان عليه أن يقف خلف ستار المسرح بين الممثلين والممثلات وكلهم من الشبان والحسان، فكان يشعر بألم الشديد كلما فكَّر في أنه المعمم الوحيد بين عشرات ممن قد يسخرون من العمامة، وقد برح به الألم ذات ليلة فانخرط في البكاء، وراح يلوم نفسه على تحقير الزي الديني المحترم في أوساط لا تحترمه، وقد قرر خلع الملابس الدينية وارتداء الكسوة الإفرنجية، بيد أنه ظل يدعى (الشيخ سيد درويش) إلى آخر يوم في حياته.
وفاته: لقد تعاون الشيخ سيد درويش مع نجيب الريحاني فعصرا دماءهما ليقدما للناس فنًّا خالداً، وقد أهداه الريحاني خاتماً من ألماس، فكان الشيخ سيد يردد أمام أصدقائه بدنو أجله، وأن أهله إذا احتاجوا إلى نفقات دفنه فبإمكانهم بيع هذا الخاتم وتأمين نفقات دفنه بأثمانه.
وقد لعبت المرأة دورها في حياة سيد درويش كما تلعبه في حياة كل فنان فدفعته إلى الشهرة والمجد دفعاً، فخلقت (جليلة) في رأسه فكرة السفر إلى إيطاليا وعقد النية على السفر، وفي الرابع عشر من شهر أيلول سنة 1923م أبرق له أصحابـه بالحضـور لحفلـة عرس فحضـر مـن القاهرة إلى الإسكندرية، وشرب الويسكي بدون سودا، واستنشق الكوكائين بإفراط، فقضى نحبه في صباح ذلك اليوم لحفلة العرس في بيت أسرته الكائن في حي (كوم الدك) في الإسكندرية. لقد مات الشيخ سيد درويش صفر اليدين كما مات هوميروس فقيراً، والفردوسي مؤلف الشاهنامة معدماً، وكان هذا الفنان الخالد ألعوبة الدهر وضحية الفاقة في حياته القصيرة.
أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الثاني – ص 578 - 581.