زَكَرِيَّاء بن حُسَيْن بن مسيح البوسنوي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد تقدم أَبوهُ حُسَيْن وَأَخُوهُ درويش مُحَمَّد وَنَشَأ هُوَ فِي كنف أَبِيه على صون ونزاهة واشتغل بِطَلَب الْعلم وَكَانَ فِي عنوان عمره جميلا غَايَة وَلم يكن فِي عصره من يُقَارِبه فِي الْحسن وَكَانَ تولع فِيهِ قوم من الأدباء والشعرء مِنْهُم الْأَمِير منجك المنجكي وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ
(كلما رحت ذَاكِرًا زَكَرِيَّا ... عَاد قلبِي من الغرام مَلِيًّا)
(رشأ كالمهاة جيدا ولحظا ... وقضيب يقل بَدْرًا سنيا)
(أَتَرَى هَل أرَاهُ وَاللَّيْل داج ... طالعا بَين بردئي مضيا)
(أجتني مَا اسْتَطَعْت من ورد ... خديه بأيدي اللحاظ وردا جنيا)
(وأبل الأوام من رِيقه العذب ... وأسقى من فِيهِ رَاحا شهيا)
(ثكلتني أم الصبابة إِن كنت ... أرى ساليا لَهُ أَو نسيا)
وَقَالَ فِيهِ وَقد رَآهُ لابسا عِمَامَة وَهُوَ يقْرَأ فِي أحد دروس مَشَايِخ دمشق
(وقارىء بمعن فِي درسه ... نفس المحبين فدا نَفسه)
(معمم يشبه بدر الدجى ... مكوّر الشَّمْس على رَأسه)
(غُصْن فُؤَادِي صَار روضاً لَهُ ... قد أبدع الغارس فِي غرسه)
وَهَذَا الْأَمِير مَعَ ميله الزَّائِد إِلَى الحسان كَانَ نزيه النَّفس سليم النَّاحِيَة رفيع الهمة وَهُوَ الْقَائِل وَقد رأى إعْرَاضًا من معشوق لَهُ
(قد أَبَت عبرتي بِأَن فُؤَادِي ... يصطفى من بِغَيْر طرفِي يشام)
(أَنا لَا أَسْتَطِيع مَا يحمل النَّاس ... وَعِنْدِي بعض الْكَلَام كَلَام)
(فَإِذا مَا الحبيب أعرض عني ... فعلى الْحبّ والحبيب السَّلَام)
عودا إِلَى تَرْجَمَة زَكَرِيَّا وَبَعْدَمَا طلع عذاره نسخت آيَة جماله وكسفت صُورَة هلاله وَفِيه يَقُول أَحْمد بن شاهين بيتيه الْمَشْهُورين
(ومذ بدا الشّعْر على وَجهه ... بدّلت الْحمرَة بالاصفرار)
(كَأَنَّمَا الْعَارِض لما بدا ... قد صَار لِلْحسنِ جنَاحا فطار)
ثمَّ بعد ذَلِك ولى النيبابات بمحاكم دمشق وسافر فِي خدمَة الْمولى شعْبَان بن ولي الدّين لما نقل من قَضَاء دمشق إِلَى قَضَاء مصر فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وصيره ثمَّة قساماً ونائباً بالصالحية ثمَّ عَاد فِي خدمته إِلَى دمشق وسافر إِلَى الْحَج فِي سنة خمس وَخمسين ولازم من الْمولى الْمَذْكُور وَلما ولي الْمَذْكُور قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي وَجه إِلَيْهِ الْقِسْمَة العسكرية بِدِمَشْق وَولي بقْعَة تدريس بِجَامِع بني أُميَّة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة الْكُبْرَى وَكَانَ يحسن اللُّغَة الفارسية والتركية والبوسنوية والعربية لِسَانه وَكَانَ يكْتب الْخط الْمليح وَله فَضِيلَة وَحسن منادمة ومطارحة وَله خلاعة ومجون وَكَانَ بَينه وَبَين أبي مودّة أكيدة وصحبة بَالِغَة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من تحف الدَّهْر وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَعشْرين تَقْرِيبًا وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى.
ــ خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر.