وَمِنْهُم الْعَالم الْعَامِل وَالسري الْكَامِل شَيخنَا واستاذنا تَاج الدّين إِبْرَاهِيم ابْن عبد الله سقى الله ثراه وَجعل الْجنَّة مثواه
ولد رَحمَه الله على رَأس تِسْعمائَة فِي ولَايَة حميد فَخرج مِنْهَا فِي طلب الْعلم وَدَار الْبِلَاد واشتغل واستفاد وافنى عنفوان شبابه فِي تَحْصِيل الْعلم واكتسابه وَصَاحب اعيان النَّاس وشيدبنيان الْعلم بأشداساس وتلقى من الافاضل الدُّرُوس حَتَّى شهد بفضله الرؤوس واتصل بالمولى نور الدّين الشهير بصاروكرز وَصَارَ مِنْهُ ملازما ثمَّ درس فِي مدرسة إِبْرَاهِيم الرواس بقسطنطينية بِعشْرين ثمَّ بِالْمَدْرَسَةِ الْوَاقِعَة بقصبة يبلونه الشهير بانها بميخال اَوْ غلى بِخَمْسَة وَعشْرين ثمَّ مدرسة القَاضِي الاسود بقصبة تيره ثمَّ مدرسة اغراس ثمَّ مدرسة سُلَيْمَان باشا بازنيق فاشتغل فِيهَا وَكتب حَاشِيَة على صدر الشَّرِيعَة ورد فِيهَا على الْمولى ابْن كَمَال باشا رَحمَه الله فِي مَوَاضِع كَثِيرَة فَلَمَّا انْفَصل عَنْهَا كتب رِسَالَة وَجمع فِيهَا من مَوَاضِع رده عَلَيْهِ سِتَّة عشر موضعا وَأَغْلظ على الْمولى الْمَزْبُور فِي مَوَاضِع عديدة من تِلْكَ الرسَالَة وَقَالَ فِي اوائل ديباجتها فاعلموا معاشر طلاب الْيَقِين سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين ان الْمُخْتَصر الَّذِي سوده الحبر الْفَاضِل وَالْبَحْر الْكَامِل الشهير بِابْن كَمَال باشا نعمه الله فِي رَوْضَة جنته مِمَّا يُعلمهُ وَمَا يشا وَسَماهُ بالإصلاح الْإِيضَاح مَعَ خُرُوجه عَن سنَن الصّلاح والفلاح باشتماله على تَصَرُّفَات فَاسِدَة واعتراضات غير وَارِدَة من السَّهْو والزلل والخبط والخلل لاتيانه بِمَا لَا يَنْبَغِي وتحرزه عَمَّا يَنْبَغِي مُشْتَمل على كثير من الْمسَائِل الْمُخَالفَة للشَّرْع بِحَيْثُ لَا يخفى بعد التَّنْبِيه للاصل وَالْفرع وَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِقَاد بحقيقتها للمبتدي وَلَا الْعَمَل بهَا للمنتهي لوُجُود خلَافهَا صَرِيحًا فِي الْكتب الْمُعْتَبرَات من المطولات والمختصرات وَمن شكّ فِيمَا ذكر بعد النّظر فِيمَا سَيذكرُ اوشك ان يشك فِي ضوء الْمِصْبَاح وَوُجُود الصَّباح عِنْد طُلُوع الاصباح ثمَّ كتب نسختين وَدفع احداهما الى الْوَزير محمدالصوفي وَكَانَ ينتسب اليه وَالثَّانيَِة الى الْوَزير الْكَبِير رستم باشا فَلَمَّا اعطاه اياها طلب الْوَزير الْمَزْبُور قرَاءَتهَا فَلَمَّا وصل الى تشنيعه على الْمولى الْمَزْبُور تغير الْوَزير غَايَة التَّغَيُّر بِسَبَب انه كَانَ قد قرا على الْمولى الْمَزْبُور فاخذ مِنْهُ الرسَالَة
وَقَالَ لَا بُد من ارسالها الى الْمُفْتِي وَهُوَ يؤمئذ الْمولى ابو السُّعُود فان كنت صَادِقا فِي دعواك نعطيك مَا تسأله وان كذبت فسنجزيك باساءتك الادب فَخرج المرحوم من عِنْده مغموما ثمَّ امْر الْوَزير الْمَزْبُور لبَعض الْعلمَاء ان يصور لَهُ بَعْضًا من تِلْكَ الصُّور بِحَيْثُ يفهمهُ وَكَانَ اول مَوضِع مِنْهَا قَوْله قَالَ الْفَاضِل الشهير بِابْن كَمَال باشا وَكره سدل الثَّوْب الى قَوْله الْوَطْء والتخلي فَوق الْمَسْجِد وَالْبَوْل فَوْقه وَفَوق بَيت فِيهِ مَسْجِد أَي مَكَان اعد للصَّلَاة وَجعل لَهُ محراب وَأَشَارَ الى هَذَا بتعريف الاول وتنكير الثَّانِي اقول عد الْبَوْل فَوق الْمَسْجِد من جملَة المكروهات يُخَالف مُخَالفَة بَيِّنَة مَا هُوَ الْمُصَرّح بِهِ فِي الْكتب الْمُعْتَبرَات وَالْحَال انه لم يُؤَيّد كَلَامه بِنَقْل وَمَا هُوَ الا سَهْو اَوْ سبق قلم مِنْهُ فَلَمَّا سمع الْوَزير تِلْكَ المسئلة قَالَ قد أَسَاءَ الادب فِيهِ ايضا حَيْثُ جوز الْبَوْل فَوق مَسْجِد وَمَا هُوَ الا رجل سَفِيه انْظُر الى هَذَا الْجَهْل وَسُوء الْفَهم ثمَّ لما سمع مسئلة تَجْوِيز بيع العَبْد فِي نَفَقَة زَوجته مرّة بعد اخرى غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ انه تَعْرِيض لي فعزم ان لَا يُوَجه اليه منصبا قطعا وَنسي ذَلِك الْمَغْرُور الا الى الله تصير الامور فَبَقيَ المرحوم بُرْهَة من الزَّمَان فِي مهامه الذل والهوان وَاسْتولى عَلَيْهِ الْقنُوط واليأس وَقطع امنيته عَن النَّاس فَتوجه الى جناب مَوْلَاهُ الى ان قرع سَمعه نِدَاء لَا تيأسوا من روح الله وَذَلِكَ انه اتّفق فتح سلطانية بروسه وَورد الامر من السُّلْطَان بَان يُوَجه الى اُحْدُ من المعزولين وَلم يُوجد مِنْهُم الا المرحوم وشخص آخر يبغضه الْوَزير الْمَزْبُور اكثر من بغضه للمرحوم فخاف ان يُعْطِيهَا السُّلْطَان ذَلِك الشَّخْص فسارع فِي عرض المرحوم فَقبله السُّلْطَان ثمَّ نَدم على مَا فعله وَلم يَنْفَعهُ النَّدَم بَعْدَمَا زلت الْقدَم وَمَا اصدق من قَالَ ... اذا اتى وَقت الْقَضَاء الْغَالِب ... بادرت الْحَاجة كف الطَّالِب ...
فَذهب المرحوم الى مدرسته فشرع فِي الافادة وبيض فِيهَا مَا كتبه على صدر الشَّرِيعَة من اول كتاب الْحَج الى آخر الْكتاب فَلَمَّا مضى عَلَيْهِ سبع سِنِين اعطي احدى الْمدَارِس الثمان وَقد قرات عَلَيْهِ فِيهَا نبذا من كتاب الْهِدَايَة ثمَّ نقل الى مدرسة ايا صوفيه ثمَّ نقل الى مدرسة السُّلْطَان سليم خَان ثمَّ فوض اليه الْفَتْوَى باماسيه فِي كل يَوْم بِثَمَانِينَ درهما فَلَمَّا مضى عَلَيْهِ خمس سِنِين انحرف مزاجه وانكسر زجاجه وهجمت عَلَيْهِ الامراض فانفصل عَنهُ وَهُوَ رَاض وَعين لَهُ الثَّمَانُونَ حسب مَا هُوَ الْعَادة والقانون وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي اول الربيعين من شهور سنة ثَلَاث وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ المرحوم بَحر المعارف ولجة الْعُلُوم واصلا الى التَّحْقِيق ومالكا لَازِمَة التدقيق مشاركا فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وبارعا فِي الْفُنُون النقلية خُصُوصا فِي الْفِقْه وبابه فانه من اكبر اربابه وَكَانَ رَحمَه الله خليقا بالمرتب الْعلية والمناصب السّنيَّة الا انه خانه دهره وَلم يساعده عصره عوضه الله تَعَالَى عَن الْمَرَاتِب الدُّنْيَوِيَّة بالدرجات الاخروية وَكَانَ رَحمَه الله ذَا خصائل رضية وشمائل مرضية متخلقا باخلاق الله قانعا باليسير من دُنْيَاهُ شَيخا مُبَارَكًا متبركا فَازَ كثير من تلاميذه وفَاق على أقرانه وَقد صدر عَنهُ بعض الْحَالَات الشبيهة بالكرامات مِنْهَا ان وَزِير زَمَانه إِبْرَاهِيم باشا امْر ان يُعْطي مدرسته معلم غلمانه فَلم يقدر قَاضِي الْعَسْكَر على مُخَالفَته وعصيانه لشدَّة باسه وَقُوَّة سُلْطَانه فأحضر المرحوم وَعرض عَلَيْهِ المرسوم وَقَالَ لَهُ لَا بُد من قبُول هَذَا الحكم فَلَيْسَ لَك الا الرِّضَا بِالْقضَاءِ فاضطرب المرحوم واظهر النفرة عَنهُ وَعدم الرِّضَا فَلم يجد لنَفسِهِ ناصرا ومعينا فَقَامَ عَنهُ كئيبا حَزينًا وَترك الاسباب وأغلق الْبَاب وَتوجه الى جناب ربه وَبَات فَإِذا الْمعلم فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مَاتَ هَكَذَا ينجح ويظفر بالامال من اخلص التَّوَجُّه الى جناب حَضْرَة المتعال وَمن توكل على الله كَفاهُ وَمن التجأ الى غير بَابه صفرت كَفاهُ وَمَا احسن قَول من قَالَ اعذب من مَاء الزلَال ... وَكم لله من لطف خَفِي ... يدق خفاه عَن فهم الذكي
وَكم يسر اتى من بعدعسر ... فَفرج كربَة الْقلب الشجي
وَكم امْر تساء بِهِ صباحا ... وتأتيك المسرة بالْعَشي
اذا ضَاقَتْ بك الاحوال يَوْمًا
فثق بِالْوَاحِدِ الْفَرد الْعلي ...
وَقد كتب رَحمَه الله حشية على بعض الْمَوَاضِع من شرح الْمِفْتَاح للشريف يرد فِيهَا على الْمولى ابْن كَمَال باشا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يَدعِي التفرد فِيهَا وَله عدَّة رسائل على مَوَاضِع من حَاشِيَة التَّجْرِيد للشريف وَله شرح لمتن المراح من علم التصريف
العقد المنظوم فِي ذكر افاضل الرّوم على هامش الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية - المؤلف: عصام الدين طاشْكُبْري زَادَهْ.