الفضل أبي منصور المسترشد بالله
تاريخ الولادة | 486 هـ |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
الْفضل أَبُي مَنْصُور الإِمَام المسترشد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ
ابْن المستظهر بِاللَّه أَحْمد بن المقتدى بِأَمْر الله عبد الله بن مُحَمَّد بن الْقَائِم بن الْقَادِر بن المقتدر ابْن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل بن المعتصم بن هَارُون الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور أخي السفاح
(نسب كَأَن عَلَيْهِ من شمس الضُّحَى ... نورا وَمن فلق الصَّباح عمودا)
وَهُوَ الَّذِي صنف لَهُ الشَّاشِي كتاب الْعُمْدَة وباسمه اشْتهر الْكتاب فَإِنَّهُ كَانَ يلقب عُمْدَة الدُّنْيَا وَالدّين وعدة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين
بُويِعَ لَهُ بالخلافة لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة فَأول من بَايعه إخْوَته أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَأَبُو طَالب الْعَبَّاس وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وَأَبُو نصر مُحَمَّد وَأَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل وَأَبُو الْفضل عِيسَى ثمَّ تلاهم عمومته أَبُو جَعْفَر مُوسَى وَأَبُو إِسْحَاق وَأَبُو أَحْمد وَأَبُو عَليّ أَوْلَاد الْمُقْتَدِي ثمَّ جلس بكرَة الْخَمِيس جُلُوسًا عَاما وَدخل النَّاس لمبايعته وَكَانَ الْمُتَوَلِي لأخذ الْبيعَة قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْحسن الدَّامغَانِي فَأول من بَايع أَبُو الْقَاسِم الزَّيْنَبِي ثمَّ أَرْبَاب الدولة ثمَّ أسعد الميهني مدرس النظامية ثمَّ النَّاس على طبقاتهم ثمَّ أخرجت جَنَازَة المستظهر فصلى عَلَيْهَا المسترشد
وَكَانَ المسترشد وَقت الْمُبَايعَة لَهُ ابْن سبع وَعشْرين سنة لِأَن مولده فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر شعْبَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وخطب لَهُ أَبوهُ بِولَايَة الْعَهْد وَنقش اسْمه على السِّكَّة فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَذكر أَن المسترشد كَانَ تنسك فِي أول زَمَنه وَلبس الصُّوف وَتفرد فِي بَيت لِلْعِبَادَةِ
وَكَانَ مليح الْخط مَا كتب أحد من الْخُلَفَاء قبله مثله يسْتَدرك على كِتَابه وَيصْلح أغاليط فِي كتبهمْ
وَأما شهامته وهيبته وشجاعته وإقدامه فَأمر أشهر من الشَّمْس وَقت الزَّوَال وأوضح من الْبَدْر لَيْلَة الْكَمَال وَلم تزل أَيَّامه مكدرة بِكَثْرَة التشويش والمخالفين وَكَانَ يخرج بِنَفسِهِ لدفع ذَلِك إِلَى أَن خرج الخرجة الْأَخِيرَة إِلَى الْعرَاق فَكسر وَأخذ ورزق الشَّهَادَة على يَد الْمَلَاحِدَة
وَحكي أَن الْوَزير عَليّ بن طراد أَشَارَ إِلَيْهِ أَن ينزل فِي منزل اخْتَارَهُ وَقَالَ إِن ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أصون للحريم الشريف فَقَالَ كف يَا عَليّ فوَاللَّه لَأَضرِبَن بسيفي حَتَّى يكل ساعدي ولألقين الشَّمْس بوجهي حَتَّى يشحب لوني وانشد
(وَإِذا لم يكن من الْمَوْت بُد ... فَمن الْعَجز أَن تكون جَبَانًا)
وَله الشّعْر الْحسن فَمِنْهُ قَوْله لما استؤسر
(وَلَا عجبا للأسد إِن ظَفرت بهَا ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم)
(فحربه وَحشِي سقت حَمْزَة الردى ... وَمَوْت عَليّ من حسام ابْن ملجم)
وَمن شعره
(أَنا الْأَشْقَر الْمَوْعُود بِي فِي الْمَلَاحِم ... وَمن يملك الدُّنْيَا بِغَيْر مُزَاحم)
(ستبلغ أَرض الرّوم خيلي وتنتضي ... بأقصى بِلَاد الصين بيض صوارمي)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ ذَا رَأْي وهيبة ومضاء وشجاعة أَحْيَا رمائم الْخلَافَة وشدر أَرْكَان الشَّرِيعَة وَضبط أُمُور الْخلَافَة وردهَا ورتبها أحسن التَّرْتِيب
والمسترشد أبلغ مِمَّا يُوصف بِهِ وَقد آل أمره إِلَى أَن خرج فِي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة إِلَى همذان للإصلاح بَين السلاطين السلجقية وَكَانَ مَعَه كثير من الأتراك فغدر بِهِ أَكْثَرهم وَلَحِقُوا بالسلطان مَسْعُود بن مُحَمَّد بن ملكشاة ثمَّ التقى الْجَمْعَانِ فَلم يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلا وانهزموا عَن المسترشد وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان وَقبض على المسترشد بِاللَّه وعَلى خَواص دولته وحملوا إِلَى قلعة هُنَاكَ بِقرب همذان فحبسوا فِيهَا وَبَقِي المسترشد مَعَ السُّلْطَان مَسْعُود إِلَى النّصْف من ذِي الْقعدَة من السّنة وَحمل مَعَهم إِلَى مراغة من بِلَاد أذربيجان ثمَّ إِن الباطنية ألقوا عَلَيْهِ جمَاعَة من الْمَلَاحِدَة وَكَانَ قد أنزل نَاحيَة من الْعَسْكَر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس سادس عشر ذِي الْقعدَة وفتكوا بِهِ وبجماعة مَعَه كَانُوا على بَاب خر كاهه
وَقتلُوا جَمِيعًا ضربا بالسكاكين وَحمل هُوَ إِلَى مراغة وَدفن هُنَاكَ
ويحكى أَن المسترشد كَانَ إِذْ ذَاك صَائِما وَقد صلى الظّهْر وَهُوَ يقْرَأ فِي الْمُصحف فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ثمَّ أضرمت عَلَيْهِم النَّار فَبَقيت يَد أحدهم لم تحترق وَهِي خَارِجَة من النَّار مَضْمُومَة كلما ألقوا النَّار عَلَيْهَا وَهِي لَا تحترق ففتحوا يَده وَإِذا فِيهَا شَعرَات من كريمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخذهَا السُّلْطَان مَسْعُود وَجعلهَا فِي تعويذ ذهب
ثمَّ إِن السُّلْطَان جلس للعزاء وَخرج وَمَعَهُ الْمُصحف وَعَلِيهِ الدَّم إِلَى السُّلْطَان وَخرج أهل المراغة وَعَلَيْهِم المسوح وعَلى وُجُوههم الرماد وهم يستغيثون وَدفن فِي مدرسة هُنَاكَ وَبَقِي العزاء فِي مراغة أَيَّامًا فَرضِي الله عَنهُ لقد عَاشَ حميدا وَمَات شَهِيدا فقيدا
وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته ثَمَان عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر
وَحكي عَن أبي المظفر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن قزمي الإسكافي إِمَام الْوَزير عَليّ بن طراد الزَّيْنَبِي قَالَ لما كُنَّا مَعَ الإِمَام المسترشد بِاللَّه يَعْنِي بالمعسكر بِبَاب همذان كَانَ مَعنا إِنْسَان يعرف بِفَارِس الْإِسْلَام وَكَانَ يقرب من خدمه الْخَلِيفَة قَالَ فجَاء لَيْلَة من اللَّيَالِي قبل طُلُوع الْفجْر فَدخل على الْوَزير فَسلم عَلَيْهِ قَالَ مَا جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت قَالَ مَنَام رَأَيْته السَّاعَة وَهُوَ كَأَن خَمْسَة نفر قد توجهوا للصَّلَاة وَاحِد يؤمهم فَجئْت فَصليت مَعَهم ثمَّ قلت لوَاحِد مِنْهُم من هَذَا الَّذِي يُصَلِّي بِنَا فَقَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت وَمن أَنْت فَقَالَ أَنا عَليّ بن أبي طَالب وَهَؤُلَاء أَصْحَابه فَقُمْت وَقبلت يَده الشَّرِيفَة وَقلت يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي هَذَا الْجَيْش وعنيت عَسْكَر الْخَلِيفَة فَقَالَ هَذَا جَيش مكسور مقهور
وَأُرِيد أَن تطالع الْخَلِيفَة بِهَذَا الْمَنَام
فَقَالَ الْوَزير يَا فَارس الْإِسْلَام أَنا أَشرت على الْخَلِيفَة لَا يخرج من بَغْدَاد فَقَالَ لي يَا عَليّ أَنْت عَاجز ارْجع إِلَى بَيْتك وَأَقُول لَهُ هَذِه الرُّؤْيَا فَرُبمَا تطير بهَا ثمَّ يَقُول قد جَاءَنِي بترهات قَالَ أَفلا أنهِي ذَلِك إِلَيْهِ قَالَ بلَى تَقول لِابْنِ طَلْحَة صَاحب المخزن فَذَاك منبسط وَيُنْهِي مثل هَذَا
قَالَ فَخرج من عِنْد الْوَزير ثمَّ دخل إِلَى صَاحب المخزن فأورد عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَقَالَ مَا أشتهي أَن أنهِي إِلَيْهِ مَا يتطير بِهِ قَالَ فَيجوز أَنِّي أذكر هَذَا قَالَ اكْتُبْ إِلَيْهِ واعرضها وأخل مَوضِع مقهور قَالَ فكتبتها وَجئْت إِلَى بَاب السرادق فَوجدت مرتجا الْخَادِم فِي الدهليز وَرَأَيْت الْخَلِيفَة وَقد صلى الْفجْر والمصحف على فَخذه وَهُوَ يقْرَأ وَمُقَابِله ابْن سكينَة إِمَامه والشمعة بَينهمَا فَدخل وَسلم الرقعة إِلَيْهِ وَأَنا أنظرهُ فقرأها ثمَّ رفع رَأسه إِلَى الْخَادِم ثمَّ قَرَأَهَا ثَانِيًا ثمَّ نظر إِلَيْهِ ثمَّ قَرَأَهَا ثَالِثا ثمَّ قَالَ من كتب هَذِه الرقعة فَقَالَ فَارس الْإِسْلَام فَقَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ بِبَاب السرادق قَالَ فَأحْضرهُ فجَاء فَقبض عَليّ يَدي فَبَقيت أرعد خيفة من تطيره فَدخلت وَقبلت الأَرْض فَقَالَ وَعَلَيْكُم السَّلَام ثمَّ قَرَأَ الرقعة ثَلَاث مَرَّات أُخْرَى وَهُوَ ينظر إِلَيّ ثمَّ قَالَ من كتب هَذِه الرقعة فَقلت أَنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَيلك لم أخليت مَوضِع الْكَلِمَة الْأُخْرَى فَقلت هُوَ مَا رَأَيْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَيلك هَذَا الْمَنَام أريته السَّاعَة أَنا فَقلت يَا مَوْلَانَا لَا يكون أصدق من رُؤْيَاك نرْجِع من حَيْثُ جِئْنَا فَقَالَ وَيلك ونكذب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا وَالله مَا بَقِي لنا رَجْعَة وَيَقْضِي الله مَا يَشَاء
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي أَو الثَّالِث وَقع المصاف وَتمّ مَا تمّ وَكسر وَأسر وَقتل وروى أَنه رأى فِي نَومه فِي الْأُسْبُوع الَّذِي اسْتشْهد فِيهِ كَأَن على يَده حمامة مطوقة
وَأَتَاهُ آتٍ وَقَالَ لَهُ خلاصك فِي هَذَا فَلَمَّا أصبح قصّ على ابْن سكينَة الإِمَام مَا رأى فَقَالَ يكون خيرا ثمَّ قَالَ مَا أولته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ بِبَيْت أبي تَمام حَيْثُ يَقُول
(هن الْحمام فَإِن كسرت عيافه ... حاء الْحمام فَإِنَّهُنَّ حمام)
وخلاصي فِي حمامي وليت من يَأْتِي فيخلصني مِمَّا أَنا فِيهِ من الذل وَالْحَبْس فَقتل بعد أَيَّام
وَمن شعره لما كسر وأشير عَلَيْهِ بالهزيمة
(قَالُوا تقيم وَقد أحَاط ... بك الْعَدو وَلَا تَفِر)
(فأجبتهم الْمَرْء مَا ... لم يتعظ بالوعظ غر)
(لَا نلْت خيرا مَا حييت ... وَلَا عداني الدَّهْر شَرّ)
(إِن كنت أعلم أَن غير ... الله ينفع أَو يضر)
سمع المسترشد بِاللَّه الحَدِيث من أبي الْقَاسِم عَليّ بن احْمَد الرزاز وَمن مؤدبه أبي البركات أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن هبة الله بن السيبي وَحدث وَقد أسندنا حَدِيثه
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود أخبرنَا أَبُو أَحْمد عبد الْوَهَّاب ابْن عَليّ بن عَليّ بن عبيد الله قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عمر السَّمرقَنْدِي قِرَاءَة عَلَيْهِ قَالَ قَرَأت على السَّيِّد الْأَجَل الرِّضَا نقيب النُّقَبَاء
شرف الدّين خَالِصَة الْخلَافَة وَزِير أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْقَاسِم عَليّ بن طراد بن مُحَمَّد بن عَليّ الزَّيْنَبِي أدام الله سعادته وتوفيقه قلت لَهُ قرئَ على سيدنَا ومولانا الإِمَام المسترشد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله أَيَّامه وأعانه على مَا استرعاه وأيده بنصره وجنده وبلغه نِهَايَة أمله فِي ولي عَهده وَجَمِيع وَلَده بمنة وَكَرمه وَأَنت تسمع فِي يَوْم الْأَحَد عَاشر الْمحرم سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة فِي عودة من قتال المارقين مظفر منصورا قيل لَهُ أخْبركُم عَليّ ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد الرزاز أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الرزاز حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الصفار حَدثنَا الْحسن بن عَرَفَة حَدثنَا عُبَيْس بن مَرْحُوم الحَدِيث الْفضل بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الزيَادي أَبُو مُحَمَّد
من أهل سرخس
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ ولي الْقَضَاء بهَا مُدَّة ثمَّ صرف عَنْهَا
قَالَ وَكَانَ فَقِيها فَاضلا حسن السِّيرَة كثير الْعِبَادَة متزهدا مولده فِي رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَذكره أَبُو الْفَتْح نَاصِر بن أَحْمد العاصمي فِي كتاب الرسَالَة فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد نجيب عَجِيب وللفتاوى فِي الْحَال مُجيب أربى على أقرانه فِي الزّهْد والتورع قَائِم بالأسحار على قدم التذلل والتضرع
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي الزيَادي بسرخس يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر شَوَّال سنة خمسين وَخَمْسمِائة
طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين السبكي
المسترشد بالله
أمير المؤمنين أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القَائِم عَبْد اللهِ بن القَادِر القُرَشِيّ الهَاشِمِيّ, العَبَّاسِيّ, البَغْدَادِيّ.
مَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ فِي أَيَّامِ جدِّه الْمُقْتَدِي، وَخُطِبَ لَهُ بِوِلاَيَةِ العَهْدِ وَهُوَ يَرْضَعُ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ باسمِهِ.
وَسَمِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ مِنْ: أَبِي الحَسَنِ بنِ العَلاَّف، وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي القَاسِمِ بنِ بيَان، وَمِنْ مُؤَدِّبه أَبِي البَرَكَات بن السِّيبِي.
رَوَى عَنْهُ: وَزِيْرُه عَلِيُّ بنُ طِرَاد، وَحَمْزَةُ بنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ، وَإِسْمَاعِيْلُ بن المُلَقَّب.
وَلَهُ خطٌّ بَدِيع، وَنثر صَنِيع، وَنظم جَيِّد، مَعَ دينٍ ورأيٍ، وشهامةٍ وَشجَاعَة، وكان خليقًا للإمامة، قليل النظير.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار: ذكر قُثَم بن طَلْحَةَ الزَّيْنَبِيّ -وَمِنْ خطِّه نَقُلْتُ- أَنَّ المُسْترشد كَانَ يَتنسَّكُ فِي أَوَّل زَمَنه، وَيَلْبَسُ الصُّوف، وَيَتعبَّدُ، وَختم القُرْآن، وَتَفَقَّهَ، لَمْ يَكُنْ فِي الخُلَفَاء مَنْ كَتَب أَحْسَنَ مِنْهُ، وَكَانَ يَسْتَدْرِكُ عَلَى كُتَّابه، وَيُصلِحُ أَغَاليطَ فِي كُتبهِم، وَكَانَ ابْنُ الأَنْبَارِيّ يَقُوْلُ: أَنَا وَرَّاق الإِنشَاء وَمَالِكُ الأَمْر يَتولَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الشَّرِيْفَة.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار: كَانَ ذَا شَهَامَةٍ وَهَيْبَة، وَشجَاعَةٍ وَإِقدَامٍ، وَلَمْ تَزَلْ أَيَّامُه مُكَدَّرَةً بِتَشْوِيشِ المخَالفِيْن، وَكَانَ يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ لدفع ذَلِكَ وَمبَاشرته إِلَى أَنْ خَرَجَ، فَكُسِرَ، وَأُسِرَ، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ عَلَى يَدِ الملاَحدَة، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الحَدِيْثَ.
قَالَ: وَلَهُ نَظْمٌ، ونثرٌ مليح، وَنُبْلُ رَأْي.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بنُ عبد المُنْعِم، أَنْبَأَنَا الكِنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ السَّمَرْقَنْدي، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ طِرَاد، أَخْبَرَنَا المُسْترشِدُ بِاللهِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ بيَان الرَّزَّاز، أَخْبَرْنَا ابْنُ مَخْلَد، أَخْبَرَنَا الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، فَذَكَرَ حَدِيْثاً.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار: أَنشدنَا هِبَةُ اللهِ بنُ الحَسَنِ بنِ السِبْط حِفْظاً لِلمُسْترشد بِاللهِ:
قَالُوا تُقِيْمُ وَقَدْ أَحَا ... طَ بِكَ العَدُوُّ وَلاَ تَفِرُّ
فَأَجَبْتُهُمْ المَرْءُ مَا لَمْ ... يَتَّعِظْ بِالوَعْظِ غِرُّ
لاَ نِلْتُ خَيراً مَا حَيِيْتُ ... وَلاَ عَدَانِي الدَّهْرَ شَرُّ
إِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنْ غَيْ ... رَ اللهِ يَنْفَعُ أَوْ يضر
وَلَهُ:
أَنَا الأَشْقَرُ المَوْعُوْدُ بِي فِي المَلاَحِمِ ... وَمَنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مُزَاحِمِ
سَتَبْلُغُ أَرْضَ الرُّوْمِ خَيْلِي وَتُنْتَضَى ... بِأَقْصَى بِلاَدِ الصِّيْنِ بِيْضُ صَوَارِمِي
وَقِيْلَ: إِنَّهُ قَالَ لَمَّا أُسِرَ مُسْتشهداً:
وَلاَ عَجَباً لِلأُسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلاَبُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيْحٍ وَأَعْجَمِ
فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى ... وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ ملحم
قَالَ سَعْدُ الله بنُ نَجَا بن الوَادِي: حَكَى لِي صَدِيْقِي مَنْصُوْرُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: لَمَّا عَادَ الحَيْصَ بَيْصَ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ هجَا الخَلِيْفَةَ المُسْترشِد طَالباً لِذِمَامِهِ، فَقَالَ فيه:
ثَنَيْتُ رِكَابِي عَنْ دُبَيْس بنِ مَزْيَدٍ ... مَنَاسِمُهَا مِمَّا تُغِذُّ دَوَامِي
فِرَاراً مِنَ اللُّؤْمِ المُظَاهِرِ بِالخَنَا ... وَسُوْءِ ارتحالٍ بَعْدَ سُوْءِ مُقَامِ
لِيُخْصِبَ رَبْعِي بَعْدَ طُوْلِ مَحِيْلِهِ ... بِأَبْيَضَ وَضَّاحِ الجَبِيْنِ إِمَامِ
فَإِنْ يَشْتَمِلْ طُوْلُ العَمِيْمِ برأفةٍ ... بِلَفْظِ أمانٍ أو بعقد ذمام
فَإِنَّ القَوَافِي بِالثَّنَاء فصيحةٌ ... تُنَاضِلُ عَنْ أَنسَابِكُم وَتُحَامِي
قَالَ: فَخَرَجَ لفظ الخَلِيْفَة: سُرْعَةُ العفوِ عَنْ كَبِيْر الجُرم اسْتحقَارٌ بِالمعفو عَنْهُ.
وَبِخَطِّ قَاضِي المَارستَان قَالَ: حُكِيَ أَنَّ الوَزِيْر عَلِيّ بن طِرَاد أَشَارَ عَلَى المُسْترشد أَنْ يَنْزِلَ فِي مَنْزِل اخْتَاره، وَقَالَ: هُوَ أَصْوَنُ. قَالَ: كُفَّ يَا عَلِيّ، وَاللهِ لأَضربنَّ بسيفِي حَتَّى يَكِلَّ سَاعِدي، وَلأَلْقَيَنَّ الشَّمْسَ بِوَجْهِي حَتَّى يَشْحُبَ لونِي:
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ المَوْتِ بُدٌّ ... فَمِنَ العَجْزِ أَنْ تَكُوْنَ جَبَانَا
ابْنُ النَّجَّار: أَخْبَرَنَا زَيْنُ الأُمنَاء عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الإِسكَافِي إِمَامِ الوَزِيْرِ، قَالَ: لَمَّا كُنَّا مَعَ المُسْترشد بِبَابِ هَمَذَان، كَانَ مَعَنَا "إِنْسَان يُعْرَفُ بـ" فارس الإِسْلاَم، وَكَانَ يَقْرُبُ مِنْ خدمَةِ الخَلِيْفَة، فَدَخَلَ عَلَى الوَزِيْر ابْن طِرَاد، فَقَالَ: رَأَيْتُ السَّاعَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، مَا تَقُوْلُ فِي هَذَا الجَيْش? قَالَ: مَكْسُور مَقْهُور، فَأُرِيْدُ أَنْ تُطَالِعَ الخَلِيْفَة بِهَذَا، فَقَالَ: يَا فَارِسَ الإِسْلاَم، أَنَا أَشرتُ عَلَى الخَلِيْفَة أَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ، فَقَالَ: يَا عليّ، أَنْتَ عَاجز رُدَّ إِلَى بَيْتك، فَلاَ أُبلِّغُه هَذَا، لَكِن قل لابْنِ طَلْحَةَ صَاحِبِ الْمخزن، فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ طَلْحَةَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: لاَ أُنهِي إِلَيْهِ مَا يُتَطَيَّرُ بِهِ، فَاكتب هَذَا إِلَيْهِ وَاعْرِضهَا، وَأَخلِ مَوْضِع مَقْهُور، فَكَتَبتُهَا، وَجِئْت إِلَى السُّرَادِق، فَوَجَدْتُ نَجَا في الدهليز، وقد صَلَّى الخَلِيْفَة الفَجْر، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مصحف، وَمقَابلهُ ابْنُ سُكَيْنَة إِمَامُه، فَدَخَلَ نَجَا الخَادِم، فَسَلَّمَ الرُّقعَة إِلَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُهُ، فَقرَأَهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَالَ: مَنْ كَتَبَ هَذِهِ? فَقَالَ: فَارِسُ الإِسْلاَم، قَالَ: أَحضره، فَجَاءَ، فَقَبَضَ عَلَى يَدي، فَأُرْعِدْتُ، وَقبلتُ الأَرْض، فَقَالَ: وَعليكُم السَّلاَم، ثُمَّ قرَأَ الرقعَة مَرَّات، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَتَبَ هَذِهِ? قُلْتُ: أَنَا، قَالَ: وَيْلَك، لَمْ أَخلَيت مَوْضِعَ الكَلِمَة الأُخْرَى? قُلْتُ: هُوَ مَا رَأَيْتَ يَا أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ. قَالَ: وَيْلَك، هَذَا المَنَام أُرِيتُه أَنَا فِي هَذِهِ السَّاعَة، فَقُلْتُ: يَا مَوْلاَنَا، لاَ يَكُوْن أَصدق مِنْ رُؤيَاك، تَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جِئْت، قَالَ: وَيْلَك، وَيُكَذَّبُ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لاَ وَاللهِ مَا بَقِيَ لَنَا رَجْعَة، وَيَقضِي الله مَا يَشَاء. فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِث، وَقَعَ المَصَافُّ، وَتَم مَا تَمّ، وَكُسِرَ وَأُسِرَ وَقُتِلَ، رحمه الله.
قَالَ ابْنُ نَاصر: خَرَجَ المُسْترشد بِاللهِ سَنَة تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ إِلَى هَمَذَان لِلإِصْلاَح بَيْنَ السّلاَطين، وَاخْتِلاَف الجُنْد، وَكَانَ مَعَهُ جمعٌ كَثِيْر مِنَ الأَترَاك، فَغَدَرَ بِهِ أَكْثَرهُم، وَلَحِقُوا بِمَسْعُوْد بنِ مُحَمَّدِ بنِ مَلِكْشَاه، ثُمَّ التَقَى الجمعَانِ، فَانْهَزَم جَمعُ المُسْترشد بِاللهِ فِي رَمَضَانَ، وَقُبِضَ عَلَيْهِ، وَعَلَى خوَاصِّه، وَحُمِلُوا إِلَى قَلْعَةٍ هُنَاكَ، فَحُبِسُوا بِهَا، وَبَقِيَ الخَلِيْفَةُ مَعَ السُّلْطَان مَسْعُوْد إِلَى نِصْف ذِي القَعْدَةِ، وَحُمِلَ مَعَهُم إِلَى مرَاغَة، ثُمَّ إِنَّ البَاطِنِيَّة أَلَّفُوا عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الملاَحدَة، وَكَانَ قَدْ أُنْزَل نَاحِيَة مِنَ المعَسْكَر، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَفَتكُوا بِهِ، وبجماعةٍ كَانُوا عَلَى بَاب خَرَكَاهِه، وَقُتِلُوا، وَنُقِلَ، فَدُفِنَ بمراغة، وكان مصرعه يوم الخَمِيْس سَادس عشر ذِي القَعْدَةِ.
وَجَاءَ الخَبَرُ يَوْمَ التَّاسع مِنْ مَقْتَله إِلَى بَغْدَادَ، فَكَثُرَ النَّوحُ وَالبُكَاءُ بِهَا، وَعُمِلَ العَزَاءُ.
وَقَالَ صَدَقَةُ بنُ الحُسَيْنِ الحَدَّاد: كَانَ قَدْ صَلَّى الظُّهْر، وَهُوَ يَقرَأ فِي المُصْحَف، وَهُوَ صَائِمٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ شَرْجِ الخَيْمَةِ جَمَاعَةٌ بِالسَّكَاكين، فَقتلُوْهُ، وَوقعت الصيحَةُ، فَقُتِلَ عَلَيْهِ جماعةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُم: أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ سُكَيْنَة، وَابْن الخَزرِي، وَخرجُوا مُنْهَزِمِين، فَأُخِذُوا وَقُتِلُوا ثُمَّ أُحْرِقُوا، فَبقيت يَدُ أَحَدِهِم خَارِجَة مِنَ النَّارِ مَضْمُوْمَةً لَمْ تَحْترِقْ، فَفُتِحَتْ، وَإِذَا فِيْهَا شعراتٌ مِنْ لِحْيَتِهِ -صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ- فَأَخَذَهَا السُّلْطَان مَسْعُوْد، وجعلها في تعويذ ذهب، وجلس للعزاء، وجاز الخَادِمُ وَمَعَهُ المُصْحَف، وَعَلَيْهِ الدَّمُ إِلَى السُّلْطَان، وَخَرَجَ أَهْلُ مرَاغَة فِي المُسُوح وَعَلَى وُجُوْهِهِم الرَّمَاد، وَكَانَتْ خِلاَفَتُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّة أَشْهُرٍ.
قَالَ قُثَمُ بنُ طَلْحَةَ: كَانَ أَشقرَ أَعْطرَ أَشهلَ، خفِيفَ العَارِضَيْنِ، وَخلَّف مِنَ الذُّكور: مَنْصُوْراً الرَّاشدَ بِاللهِ، وَأَحْمَدَ، وَعَبْدَ اللهِ، وَإِسْحَاقَ -تُوُفِّيَ قَبْلَهُ- وَبِنتَانِ، وَوَزَرَ لَهُ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ، وَأَبُو عَلِيٍّ بنُ صَدَقَة، وَعَلِيّ بن طراد، وأنوشروان.
وَقضَاتُهُ: عَلِيُّ بنُ الدَّامغَانِي، وَعَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ الزينبي.
قُلْتُ: بُوْيِع عِنْدَ مَوْتِ أَبِيْهِ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْسِ مائَة، فَكَانَتْ دَوْلَتُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسَبْعَة أَشهر، وَعَاشَ سِتّاً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً، فَقِيْلَ: إِنَّ الَّذِيْنَ فَتكُوا بِهِ جَهَّزَهُم مَسْعُوْد، وَكَانُوا سَبْعَةَ عَشَرَ نَفْساً، فَأُمْسِكُوا، وَقَتَلَهُم السُّلْطَان، وَأَظهر الحزنَ وَالجزعَ.
وَقِيْلَ: بَعَثَ السُّلْطَان سَنجر بن مَلِكْشَاه إِلَى ابْنِ أَخِيْهِ مَسْعُوْد يُوَبِّخُهُ عَلَى انتهَاك حُرمَةِ المُسْترشد، وَيَأْمُرُهُ بِرَدِّهِ إِلَى مقرِّ عزِّهِ، وَأَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ بِالغَاشيَة، وَيَخضَعَ، فَفَعَل ذَلِكَ ظَاهِراً، وَعَمِلَ عَلَى قتلِهِ، وَقِيْلَ: بَلِ الَّذِي جهَّزَ البَاطِنِيَّة عَلَيْهِ السُّلْطَان سَنجر مِنْ خُرَاسَان، وَفِيْهِ بُعد.
وَقِيْلَ: إِنَّ الشَّاشِيّ عَمِلَ "العُمدَة" فِي الفِقْه لِلمُسْترشد.
وَفِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ كَانَ المَصَافُّ بَيْنَ المُسْترشد وَبَيْنَ دُبيس الأَسَدِيّ، وَجذب يَوْمَئِذٍ المُسْترشد سَيْفَه، فَانْهَزَم دُبيس وَتَمَزَّقَ جمعُه, ثُمَّ كَانَتْ بَيْنهُمَا وقعةٌ سَنَة "519"، فَذلَّ دُبيس، وَجَاءَ وَقبَّل الأَرْض، فَلَمْ يُعْطَ أَمَاناً، فَفَرَّ إِلَى السُّلْطَان سَنجر، وَاسْتجَار بِهِ، فَحَبَسَهُ خِدمَةً لِلمُسْترشد، وَصَلَّى المُسْترشدُ بِالنَّاسِ يَوْم الأَضحَى وَخطبهُم، وَنَزَلَ، فَنحر بدنَة بِيَدِهِ.
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ: وَصل السُّلْطَانُ مَحْمُوْد، وَحَاصَرَ بَغْدَاد، وَاسْتظهر الخَلِيْفَة.
وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ سَارَ المُسْترشد فِي اثني عشر ألف فَارِس، فَحَاصَر المَوْصِلَ ثَمَانِيْنَ يَوْماً، فَبذل لَهُ زنكِي مُتَوَلِّيهَا أَمْوَالاً لِيَرحل، فَأَبَى، ثُمَّ إِنَّهُ ارتحل، وَعظمت هيبتُه فِي النُّفُوْس، وَخضع زنكِي، وَبَعَثَ الْحمل إِلَى المُسْترشد، وَقَدِمَ رَسُوْلُ السُّلْطَان سَنجر، فَأُكْرِمَ، وَنفَّذ المُسْترشد لِسَنجر خِلْعَة السّلطنَة ثُمِّنَتْ بِمائَةِ أَلْفِ دِيْنَار وَعِشْرِيْنَ أَلْف دِيْنَار، وَعرض المُسْترشد جيوشَه فِي هيئَة لَمْ يُعهد مِثْلهَا مِنْ دَهْرٍ طَوِيْلٍ، فَكَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفاً.
وَفَارق مَسْعُوْدٌ بَغْدَاد عَلَى غضب، وَانضمَّ إِلَيْهِ دُبيس، وَعزمُوا عَلَى أَخْذِ بَغْدَاد، فَطَلبَ المُسْترشدُ زنكِي بن آقسُنْقُر، وَهُوَ مُحَاصر دِمَشْق، وَطلبَ نائب البصرة بكبه، فبيت مسعود لطلائع المُسْترشد، فَانْهَزَمُوا، وَلَكِن خَامَرَ أَرْبَعَة أُمَرَاء إِلَى المُسْترشد، فَأَنْعَمَ عَلَيْهِم بِثَمَانِيْنَ أَلف دِيْنَار، وَسَارَ فِي سَبْعَةِ آلاَف، وَكَانَتِ المَلْحَمَةُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْع كَمَا ذكرنَا، فَانْهَزَم جَيْشُ الخَلِيْفَة، وَأَسلمُوْهُ، فَأَسره مَسْعُوْدٌ فِي نوعِ احترَام، وَحَاز خِزَانَته، وَكَانَتْ أَرْبَعَة آلاَف أَلف دِيْنَار، وَمجموعُ القَتْلَى خَمْسَة أَنْفُس، وَزوَّر السُّلْطَانُ عَلَى لِسَانِ الخَلِيْفَة كتباً إِلَى بَغْدَادَ بِمَا شَاءَ، وَقَامَت قِيَامَة البغَادِدَة عَلَى خَلِيفتِهِم، وَكَانَ مَحْبُوباً إِلَى الرَّعيَّة جِدّاً، وَبذلُوا السَّيْف فِي أَجنَاد السُّلْطَان، فَقُتِلَ مِنَ العَامَّة مائَة وَخَمْسُوْنَ نَفْساً، وَأَشرفت الرعيَة عَلَى البَلاَء، وَلَمَّا قُتِلَ المُسْترشد، بُوْيِع بالخلافة، ولده الراشد بالله ببغداد.
سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.