الأديب أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن المنقار الْحلَبِي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْوَفَاة الأديب الشَّاعِر الذكي البارع كَانَ مَشْهُورا بالذكاء والفطنة وَالْفضل لَازم الْعَلامَة الملا اسد الدّين بن معِين الدّين التبريزي نزيل دمشق وَأخذ عَنهُ الْعَرَبيَّة والمعاني وَالْبَيَان وَغَيرهَا وبرع فِي الْفُنُون وتميز على أقرانه وطار صيته وَصَارَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الفطنة وَألف قبل أَن يبلغ الْعشْرين من سنه رِسَالَة مَقْبُولَة فِي مبَاحث الِاسْتِعَارَة وَبَيَان أقسامها وَتَحْقِيق الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وعرضها على عُلَمَاء عصره فقبلوها ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الفارسية ونظم الشّعْر الرَّائِق المعجب وَمن جيد شعره القصيدة الَّتِي كتب بهَا إِلَى الْحسن البوريني جَوَابا عَن قصيدة أرسلها إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْله
(أَتَى ينثني كاللدن قده اسمى ... غزال بِفعل الجفن يُلْهِيك عَن أسما)
(فريد جمال جَامع اللطف جؤذر ... أَمِير كَمَال أهيف أحور ألمي)
(إِذا مَا بدا أوماس تيها وَإِن رنا ... ترى الْبَدْر مِنْهُ والمثقف والسهما)
(لَهُ مقلة سيافة غمدها الحشا ... ونبالة قلبِي لَا سهمها مرمى)
(تجسم من لطف وظرف أما ترى ... تغيره لما تخبلته وهما)
وَمِنْهَا:
(يَمِينا بميمات الباسم أنني ... عَن الْحبّ لَا ألوي بلومهم العزما)
(وَلَا أَبْتَغِي من قيد حبيه مخلصا ... سوى حسن فعلا وقولا كَذَا إسما)
وَكَانَ سَافر إِلَى قسطنطينية لوفاة وَالِده مُحَمَّد بهَا وَكَانَ من قُضَاة العقبات فَتوجه أَحْمد إِلَيْهَا ليتناول مَا خَلفه وَالِده من المَال فاشتهر صيته بَين عُلَمَاء الرّوم حَتَّى أَن الْمُفْتِي الْأَعْظَم زَكَرِيَّا بن بيرام الْآتِي ذكره جعله ملازما فِيهِ على قَاعِدَة عُلَمَاء تِلْكَ الديار ثمَّ أَدَّاهُ لطف الطَّبْع والإمتزاج مَعَ ظرفاء تِلْكَ الْبَلدة إِلَى إستعمال بعض المكيفات فَغلبَتْ عَلَيْهِ السَّوْدَاء فاختلط عقله وَصَارَ يخلط فِي كَلَامه فوضعوه فِي دَار الشِّفَاء ثمَّ لزم إرسالة إِلَى بِلَاده وَكَانَ بقسطنطينية أذ ذَاك بعض أَعْيَان دمشق فصحبه مَعَه موثقًا وَقدم بِهِ إِلَى دمشق ثمَّ تزايد عَلَيْهِ الْجُنُون حَتَّى حبس فِي بَيت لَا يخرج مِنْهُ إِلَّا فِي بعض الْأَوْقَات وَعَلِيهِ حارس مُوكل وَكَانَت حَالَته تزيد وتنقص بِحَسب فُصُول الْعَام قَالَ البوريني فِي تَرْجَمته وَلَقَد دخلت عَلَيْهِ مُسلما وَله من الدَّهْر متظلما فرأيته فِي سلسلة طَوِيلَة الذيل فأسبلت دموعي كالسيل حزنا عَلَيْهِ وشوقا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يراسلني بقصائده ويتحفني بفرائده وَكنت أُجِيبهُ عَن رسائله وأحقق جَمِيع دلائله فَقَالَ لي وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال متمثلا على سَبِيل الإرتجال مُشِيرا إِلَى سلسلته الَّتِي منعته الْمسير وصيرته فِي صُورَة الْأَسير
(إِذا رَأَيْت عارضاً مسلسلا ... فِي وجنة كجنة يَا عاذلي)
(فَاعْلَم يَقِينا اننا من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل)
قلت البيتان للوداعي وأصلهما الحَدِيث عجب رَبك من أَقوام يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل قيل هم الأسرى يقادون إِلَى الْإِسْلَام مكرهين فَيكون ذَلِك سَبَب دُخُولهمْ الْجنَّة لَيْسَ أَن ثمَّة سلسلة وَيدخل فِيهِ كل من حمل على عمل من أَعمال الْخَيْر وَلَا يخفى لطف موقع الْبَيْت لما فِيهِ من دَعْوَى اأنه من أسرى الْمحبَّة وَقد بَقِي على ذَلِك الْحَال نَحْو ثَلَاثِينَ سنة إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَبَيت المنقار بحلب ودمشق بَيت علم ورياسة خرج مِنْهُم نجباء وجدهم الْأَعْلَى مُحَمَّد بن مبارك بن عبد الله الحسامي كَانَ أَمِيرا جَلِيلًا صَار أحد مقدمي الألوف بِالشَّام سنة ثَلَاث وَثَمَانمِائَة وَولي كَفَالَة حماة فِي أَيَّام السُّلْطَان فرج بن برقوق وَجعله مرّة رَئِيس عسكره وَكَانَ أَولا يعرف بِابْن المهمندار وَهُوَ صَاحب الْوَقْف الْعَظِيم الْبَاقِي فِي يَد ذُريَّته بِدِمَشْق وحلب وَمِنْهُم الْفَقِير مؤلف هَذَا التَّارِيخ فَإِن حدتي وَالِدَة وَالِدي مِنْهُم وَهَذَا هُوَ الَّذِي لقب بالمنقار لِأَنَّهُ كَانَ لمطبخه طباخة مُسِنَّة وَكَانَ يُنكر عَلَيْهَا حسن الطَّبْخ مغضبا فَقَالَت لَهُ يَوْمًا إِلَى مَتى ترفع منقارك على تُرِيدُ بذلك رفع أَنفه عَلَيْهَا عِنْد غَضَبه فلقبه أعداؤه بالمنقار رَحمَه الله تَعَالَى.
ــ خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر.
أحمد بن محمد، ابن المنقار:
من شعراء المجانين. علت له شهرة. أصله من حلب، ومولده ووفاته بدمشق. صنف رسالة في مباحث (الاستعارة وتحقيق الحقيقة والمجاز) قبل أن يبلغ العشرين من عمره، ورحل إلى الآستانة فاختلط بظرفائها واستعمل المكيفات، فأصيب بعقله، فحمل إلى دمشق مطوقا بالحديد، فأقام على حاله نحو ثلاثين سنة. وزاره البوريني (المؤرخ الأديب) فلما رآه ابن المنقار عرفه، وكان مقيدا بسلسلة، فأنشد:
(إذا رأيت عارضا مسلسلا في وجنة كجنّة يا عاذلي) (فاعلم يقينا أننا من أمة تقاد للجنة بالسلاسل!) .
-الاعلام للزركلي-