مُحَمَّد بن أَحْمد بْن الْعَبَّاس، القَاضِي أَبُو بكر الْبَيْضَاوِيّ الْفَارِسِي، يعرف بالشافعي.
جليل، من الْعلمَاء بالفقه وَالْأَدب، مُصَنف فيهمَا.
لَهُ كتاب " الْأَدِلَّة فِي تَعْلِيل مسَائِل التَّبْصِرَة " ذكر فِيهِ:
أَن الْحَائِض لَو قَالَت: أَنا أتبرع بِقَضَاء مَا فَاتَ من الصَّلَوَات فِي أَيَّام الْحيض؛ قُلْنَا: لَا يجوز ذَلِك، بل تصلين مَا أَحْبَبْت من النَّوَافِل، فَأَما قَضَاء ذَلِك فَلَا.
وَاحْتج بِأَن امْرَأَة ذكرت مثل ذَلِك لعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا فنهتها، وَقَالَت: أحرورية أَنْت؟ !
وَله كتاب " الْإِرْشَاد " فِي شرح " الْكِفَايَة " للْقَاضِي أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ، وَمِمَّا يفاد مِنْهُ أَنه حكى وَجْهَيْن فِي جَرَيَان الرِّبَا فِي الماورد، وَكَذَا فِي الصمغ الْعَرَبِيّ.
وَحكى عَن الشَّافِعِي قولا فِيمَا إِذا حضر السُّلْطَان دَار رجل أَن رب الدَّار أولى بِالْإِمَامَةِ مِنْهُ، وَذكر أَنه الْأَصَح.
وَذكر أَنه يَنْبَغِي للخطيب إِذا أَرَادَ صعُود الْمِنْبَر أَن يصعد على الرِّفْق والتؤدة، وَيقف على كل مرقاة وَقْفَة خَفِيفَة، وَهُوَ يسْأَل الله تَعَالَى المعونة التسديد، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا، بل يَنْبَغِي أَن يكون راميا ببصره إِلَى من بَين يَدَيْهِ، وَلَا يقبل على يَمِينه وَلَا على يسَاره فِي شَيْء من خطبَته، وَمَا يَفْعَله الخطباء فِي زَمَاننَا هَذَا فبدعة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يَعْنِي التفاته فِي الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
-طبقات الفقهاء الشافعية - لابن الصلاح-
مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْعَبَّاس الْفَارِسِي القَاضِي أَبُي بكر الْبَيْضَاوِيّ
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا لَهُ الرُّتْبَة الرفيعة فِي الْفِقْه وَله معرفَة بالأدب صنف فِي كل مِنْهُمَا وَكَانَ يعرف بالشافعي
وَاعْلَم أَن الْبَيْضَاوِيّ فِي هَذِه الطَّبَقَة من أَصْحَابنَا ثَلَاثَة هَذَا القَاضِي وختن القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن أَحْمد شيخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ سيردان وَلم يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي كِتَابه غير شَيْخه
وَأَبُو بكر هَذَا هُوَ مُصَنف التَّبْصِرَة فِي الْفِقْه مُخْتَصر هُوَ عِنْدِي وَله عَلَيْهِ كِتَابَانِ أَحدهمَا الْأَدِلَّة فِي تَعْلِيل مسَائِل التَّبْصِرَة ذكر ابْن الصّلاح أَنه وقف عَلَيْهِ وَالثَّانِي التَّذْكِرَة فِي شرح التَّبْصِرَة وقفت أَنا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مجلدين ذكر فِي خطبَته أَنه لما حصل بفرج سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة سُئِلَ فِيهِ وَقَالَ فِي آخِره صنفت هَذَا الْكتاب بقرح عِنْد رجوعي من بارم وَلم يكن معي كتاب أعْتَمد فِي شَيْء عَلَيْهِ أَو أرجع فِي وَقت إِلَيْهِ وارتفع ذَلِك فِي مُدَّة أَرْبَعَة أشهر مَعَ توفري كل يَوْم على التدريس ومذاكرة الْجَمَاعَة إِلَى نصف النَّهَار وَكفى بِاللَّه ثمَّ الشُّيُوخ الشَّاهِدين تأليفي هَذَا الْكتاب على مَا قلته شَهِيدا وانْتهى الْكتاب فِي الرَّابِع عشر من شَوَّال سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
هَذَا نَص كَلَامه وَهُوَ شرع حسن فِيهِ فَوَائِد
وَله أَيْضا على مَا ذكر ابْن الصّلاح كتاب الْإِرْشَاد فِي شرح كِفَايَة الصَّيْمَرِيّ
وَلم يذكرهُ الْخَطِيب فِي تَارِيخ بَغْدَاد إِمَّا لِأَنَّهُ لم يدخلهَا أَو أَنه لَا رِوَايَة لَهُ أَو لغير ذَلِك وَإِنَّمَا ذكر الْبَيْضَاوِيّ الآخر مُحَمَّد بن عبد الله
ذكر نخب وفوائد من مصنفات هَذَا الرجل
أما تَعْلِيل مسَائِل التَّبْصِرَة فَلم أَقف عَلَيْهِ إِلَى الْآن ووقف عَلَيْهِ ابْن الصّلاح وَذكر أَنه ذكر فِيهِ أَن الْحَائِض لَو قَالَت أَنا أتبرع بِقَضَاء مَا فَاتَ من الصَّلَوَات فِي أَيَّام الْحيض قُلْنَا لَا يجوز ذَلِك بل تصلين مَا أَحْبَبْت من النَّوَافِل فَأَما قَضَاء ذَلِك فَلَا
وَاحْتج بِأَن أمْرَأَة ذكرت مثل ذَلِك لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فنهتها وَقَالَت أحرورية أَنْت
قَالَ ابْن الصّلاح وَصحح فِي كتاب الْإِرْشَاد القَوْل بِأَن رب الدَّار أولى بِالْإِمَامَةِ من السُّلْطَان وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
قلت وَسَيَأْتِي فِي الطَّبَقَة السَّادِسَة فِي تَرْجَمَة القَاضِي ابْن شَدَّاد تَفْصِيله بَين الْجُمُعَة والعيد وَغَيرهمَا وَقَوله إِنَّمَا يكون الإِمَام أولى بِالْجمعَةِ والعيد وَكَانَ الْخطابِيّ سبقه إِلَيْهِ
قلت وَلَا موقع لهَذَا التَّفْصِيل فَإِن الْجُمُعَة والعيد لَا يكونَانِ فِي دَار حَتَّى يُقَال السُّلْطَان أولى من رب الدَّار وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا يُقَام فِي الدّور فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة قَول بِأَن رب الدَّار أولى كَمَا صَححهُ هَذَا الْبَيْضَاوِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مَسْأَلَة الصِّيغَة فِي الشَّهَادَة على الزِّنَا
قد علم أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ذكر فِي صيغتها أَن الشَّاهِد يَقُول دُخُول المرود فِي المكحلة إِذْ قَالَ فِي مُخْتَصر الْمُزنِيّ فِي بَاب حد الزِّنَا وَلَا يجوز على الزِّنَا واللواط وإتيان الْبَهَائِم إِلَّا أَرْبَعَة يَقُولُونَ رَأينَا ذَلِك مِنْهُ يدْخل فِي ذَلِك مِنْهَا دُخُول المرود فِي المكحلة انْتهى
وَكَذَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم وَالتَّصْرِيح بِهِ أَن يَقُولُوا رَأينَا ذَلِك مِنْهُ يدْخل فِي ذَلِك مِنْهَا دُخُول المرود فِي المكحلة إِلَى أَن قَالَ فَإِذا صَرَّحُوا بذلك فقد وَجب الْحَد
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَقد صَار إِلَى ذَلِك الفوراني وَلم يحك فِي إبانته غَيره
وَيُوَافِقهُ قَول القَاضِي الْحُسَيْن وَقد قيل إِن ذَلِك التَّشْبِيه وَاجِب كَأَنَّهُ لما غلظ بِالْعدَدِ غلظ بالتشبيه ليَكُون أبلغ
قَالَ لَكِن الَّذِي ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب أَنه يَكْفِي أَن يَقُول أولج ذكره فِي فرجهَا وَإِن ذكر كالمرود فِي المكحلة والإصبع فِي الْخَاتم والرشاء فِي الْبِئْر كَانَ آكِد وَهَذَا مَا أوردهُ الرَّافِعِيّ لَا غير وَعَزاهُ إِلَى القَاضِي أبي سعيد
انْتهى كَلَام ابْن الرّفْعَة مُلَخصا
وَأَقُول أما اقْتِصَار الفوراني فِي إبانته على ذكر هَذَا التَّشْبِيه فقد اقْتصر عَلَيْهِ أَيْضا الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَالْبَغوِيّ فِي التَّهْذِيب وَالْغَزالِيّ لَكِن من تَأمل كَلَامهم لم يجده نصا فِي تعْيين هَذِه اللَّفْظَة أَعنِي لَفْظَة التَّشْبِيه وَقد تَركهَا أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة فَلم يذكرهَا فِي تعليقته بل اقْتصر على قَوْله وَلَا بُد أَن يَقُولُوا رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بهَا ورأينا ذَلِك مِنْهُ فِي ذَلِك مِنْهَا
انْتهى
وَكَذَلِكَ فعل الْمحَامِلِي فِي كتاب الْمقنع وَغير وَاحِد لم يذكر أحد مِنْهُم لفظ المرود فِي المكحلة بِالْكُلِّيَّةِ
وَصرح صَاحب الشَّامِل بِأَن أَصْحَابنَا قَالُوا إِذا قَالَ رَأَيْت ذكره فِي فرجهَا كفى والتشبيه تَأْكِيد
انْتهى
وَتَبعهُ صَاحب الْبَحْر فَقَالَ قَالَ أَصْحَابنَا وَلَو قَالَ رَأينَا ذكره غَابَ فِي
فرجهَا أجزأهم وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى قَوْلهم مثل المرود فِي المكحلة لِأَنَّهُ صَرِيح فِي هَذَا الْمَعْنى فَإِن ذَكرُوهُ كَانَ تَأْكِيدًا
انْتهى
وَأفَاد قبيل ذَلِك أَن قَول الشَّافِعِي ذَلِك مِنْهُ فِي ذَلِك مِنْهَا تَحْسِين للعبارة وَالْمرَاد التَّصْرِيح بِمَا يُحَقّق المُرَاد
وَهَذِه عِبَارَته قَالَ الشَّافِعِي ثمَّ يتفهم الْحَاكِم حَتَّى يثبتوا أَنهم رَأَوْا ذَلِك مِنْهُ يدْخل فِي ذَلِك مِنْهَا دُخُول المرود فِي المكحلة وَهَذَا تَحْسِين للعبارة من جِهَة السّلف فَأَما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا قنع إِلَّا بِصَرِيح الْعبارَة
انْتهى فَدلَّ أَن المُرَاد تَحْقِيق الْإِيلَاج خشيَة أَن يظنّ المفاخذة زنا لَا أَنا متعبدون بِلَفْظ المرود والمكحلة على خلاف مَا يتسارع إِلَى الْفَهم من كَلَام الشَّافِعِي
وَمن جرى على ظَاهر نَصه فليحمل كَلَام من أطلق على مَا فسره القَاضِي أَبُو الطّيب وَالْقَاضِي أَبُو سعد وَنَقله ابْن الصّباغ وَالرُّويَانِيّ عَن الْأَصْحَاب من أَن لفظ المرود والمكحلة غير شَرط وَإِنَّمَا المُرَاد الْإِيضَاح دون التقيد بِهِ
وَأما قَول ابْن الرّفْعَة إِن القَاضِي الْحُسَيْن قَالَ وَقد قيل إِن ذَلِك وَاجِب فَكَأَنَّهُ مستخرج فِي الْمَسْأَلَة خلافًا
وَقد كشفت فَوجدت الْخلاف مُصَرحًا بِهِ فِي كَلَام القَاضِي أبي بكر الْبَيْضَاوِيّ
قَالَ فِي بَاب الشَّهَادَة على الزِّنَا من كِتَابه شرح التَّبْصِرَة مَا نَصه قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله كدخول المرود فِي المكحلة فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ ذَلِك على الْوُجُوب وَإِذا لم يَقُولُوا ذَلِك لم تتمّ الشَّهَادَة وَالأَصَح أَنه إِذا قَالُوا نشْهد أَنه زنى بهَا ورأينا الذّكر مِنْهُ قد دخل فِي الْفرج مِنْهَا تمت الشَّهَادَة لِأَن الْبَاقِي تَشْبِيه والتشبيه لَيْسَ من تَمام
الشَّهَادَة كَمَا لَو شهدُوا أَن ذَلِك ذبح فلَانا فَلَا يحْتَاج أَن يَقُولُوا كَمَا يذبح القصاب الشَّاة انْتهى
فَخرج فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَان مُصَرح بهما بِنَقْل هَذَا الإِمَام الثبت وأصحهما كَمَا ذكر وَهُوَ الَّذِي عزا إِلَى الْأَصْحَاب عدم الِاحْتِيَاج وَحمل مَا وَقع فِي كَلَام الشَّافِعِي على الْإِيضَاح لَا التقيد
وَمَا وَقع فِي كَلَام الشَّافِعِي وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي حَدِيث مَاعِز فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ (أنكتها) قَالَ نعم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (حَتَّى غَابَ ذَلِك مِنْك فِي ذَلِك مِنْهَا) قَالَ نعم
قَالَ كَمَا يغيب الْميل فِي المكحلة والرشاء فِي الْبِئْر قَالَ نعم
الحَدِيث
وَلَفظ الرشاء فِي الْبِئْر لم يَقع فِي كَلَام الشَّافِعِي فَدلَّ أَنه لم يفهم مِنْهُ تعين هَذِه الْأَلْفَاظ
نعم أَنا أَقُول يَنْبَغِي أَن يتَعَيَّن لفظ النيك بِصَرِيح النُّون وَالْيَاء وَالْكَاف فَإِنِّي وجدته فِي غَالب الرِّوَايَات
وَفِي لفظ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ أنكتها لَا يكنى
قَالَ نعم الحَدِيث
وَلَا أجد فِي الصراحة مَا هُوَ بَالغ مبلغ لفظ النيك وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد النَّاس حَيَاء وَأَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها فلولا تعين هَذِه اللَّفْظَة لما نطقت بهَا شفتاه
هَذَا مَا يتَرَجَّح عِنْدِي وَإِن لم أَجِدهُ فِي كَلَام الْأَصْحَاب وَلَكِن كَلَامهم لَا يأباه
ولعلهم كنوا عَنهُ بقَوْلهمْ ذَلِك مِنْهُ فِي ذَلِك مِنْهَا ويرشد إِلَى هَذَا قَول الرَّوْيَانِيّ إِنَّهُم حسنوا الْعبارَة وَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقنع إِلَّا بِصَرِيح الْعبارَة فَمَا لنا أَن نقنع إِلَّا بِمَا قنع بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاعْلَم أَن أَكثر الْأَصْحَاب إِنَّمَا أوردوا تبعا للشَّافِعِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة فِي حد الزِّنَا وَالْغَزالِيّ أوردهَا فِي الشَّهَادَات فَتَبِعَهُ الرَّافِعِيّ وَمن تَابعه
طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين السبكي