الفقيه الرئيس الحاجب الكاتب صاحب القلم الأعلى محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي (الفقيه الحاجب، الرئيس الكاتب، محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي (ت 756) من أسرة اشتهرت بالعلم والأدب، وانخرط كثير من رجالاتها في خدمة عدد من الدول كالمرينيين والحفصيين. حجب أبو عبد الله محمد (المترجم به هنا) لأبي عنان المريني ونال حظوة لديه، وثقة واسعة، فقلده عددا المناصب منها «خطة السيف» كما قال ابن الاحمر في مستودع العلامة، وأسند إليه ولاية بجاية، فاستمر عليها الى وفاته:756. قال في البستان «وسيقت جنازته إلى تلمسان فدفن فيها».):
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله وأدركته ورأيته. وهو من أهل تلمسان. وأصل سلفه من الأندلس. من بيت أصالة وتعيين ومحمد والده كان من أهل العلم التام. درّس العلوم بتلمسان وأفتى بها وكان من عباد الله الصالحين، ومن الأولياء المخلصين. وحسبه من ورعه أنه ولي القضاء بتلمسان سنين طائلة، فلما توفي لم يوجد له غير قطيفة، ووسادة صوف، نفع الله به.
ومن سعة علمه أنه رتب التبصرة للإمام أبي الحسن اللخمي وأتى بها نسقا على أبواب التهذيب؛ ومسائله اعتنى بها فقهاء الأمصار وعرفوا بها قدره في العلوم.
وقدّمه على قضاء الجماعة بتلمسان أمير المسلمين المنصور بالله أبو الحسن علي المريني، فأظهر من التصميم في الحق وإقامة منار الشريعة ما يكل اللسان عن وصفه. وأحمد والد محمد كان أيضا من أهل العلم البارع، ودرّس العلوم، وأفتى، وولي قضاء الجماعة في بعض بلاد إفريقية. وكان علي والد أحمد إماما عالما مدرسا مفتيا محدثا حافظا، وولي قضاء الجماعة بتونس لأمير المؤمنين المستنصر بالله، المنصور بفضل الله أبي عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الموحّد؛ وقدمه المستنصر بالله هذا على حجابته، وقلده خطّة علامته.ونسبه في تميم، ويقال إنه من بني الأغلب التميميين، ملوك إفريقية.
والحاجب أبو عبد الله هذا كان ملازما لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان المريني في الصّحبة بتلمسان في إمارته حين قدمه
أبوه أمير المسلمين المنصور بالله أبو الحسن عاملا عليها، فلما بويع بها المتوكل على الله أبو عنان، وسار منها إلى فاس مقعد الملك المريني، قدمه حاجبا له وصاحب علامته، وبلغ لديه جاها عظيما لم يبلغه غيره. وكان أحد الأجواد لا يقاس إلا بمن تقدّم من البرامكة وأمثالهم. وكان قد أعطاه مخدومه السّلطان أبو عنان بعد أن حجبه عشرة من الطّبول وعشرة من البنود، وقدمه أميرا ببجاية وقسنطينة فظهر له هنالك من الآثار الجميلة ما أنسى بها من تقدمه من الحجاب والأمراء. وببجاية توفي في سنة ست وخمسين وسبعمائة، وسيق منها فدفن بتلمسان. فوجد لفقده السّلطان أبو عنان حزنا عظيما أداه ذلك لأن بعث أعز بنيه عنده-وهو الأمير أبو زيان محمد-لبحضر جنازته بتلمسان، وأخرجه حزنه أيضا عليه لأن رثاه بقوله:
ألمّا بأجداث العلى والمناصب ... تحيي ثراها واكفات السّحائب
وعوجا بأكناف الضّريح الذي حوى ... من الجود والإفضال أسنى المراتب
ألا بكّيا غيث المواهب والجدا ... وليث الشّرى نجل السّراة الأطايب
وجودا بوبل الدّمع تهمي شؤونه ... كما هتنت مزن الغيوث السّواكب
5 وبوحا بأنّ المجد أقوت ربوعه ... وزلزل منه مشمخرّ الأهاضب
فيا رجل الدّنيا وواحدها الذّي ... تحثّ لمغناه مطيّ الرّكائب
لقد كنت لي أنسا وخلاّ وصاحبا ... فبنت ولم تثن العنان لصاحب
وقد أنشبت فيك المنيّة ظفرها ... وما غادرت يوما منيع الجوانب
سقتك صروف الدّهر كاسات حتفها ... وجرّعت منها مفظعات المشارب
10 ولاقيت مكروه الحمام وقد سرى ... عبير ثناك في الرّبا والسّباسب
رزئت أبا عبد الإله بفقدكم ... فها أنا ذا أشكو بريب النّوائب
مسعّرة نار الجوى في جوانحي ... تذكّرني عهد النّصيح المراقب
لقد رزئت فيك السّماحة والنّدى ... وضعضع منها جانب أيّ جانب
وما كنت إلا الطّود والبحر والسّنى ... تضيء ضياء الزّاهرات الثّواقب
15 وما كنت إلا حائزا كلّ شيمة ... من الفضل سبّاقا لبذل الرّغائب
فما اختصّت الأملاك مثل محمّد ... ولا خصّت الأملاك منه بحاجب
ولا نالت الأشراف ما نلت من علا ... وما هي ندّ في النّهى والمناصب
وإن خصّ منهم ماجد بمزيّة ... فقد حزت في العليا جميع المناقب
نمتك إلى المجد الأثيل خصائص ... يقصّر عنها نجل زيد وحاجب
20 ظعنت من الدّنيا حميدا مقرّبا ... وسرت بريئا من ذميم المثالب
وتالله ما دمع براق وإنّما ... أكفكف منه كالعهاد الصوائب
تغمّدك الرّحمن منه برحمة ... وبلّغك الزّلفى وأقصى المآرب.
وبوّاك من أعلى الجنان قصوره ... تحيّيك فيها مسبلات الذّوائب
عليك سلام الله ما لاح بارق ... وما سجعت ورق الحمام النّوادب
حاله-رحمه الله تعالى-:
هو القرم الذي حاز الجلالة، والجواد الذي لم تزل مواهبه منثاله.
قدم للحجابة ففخرت به الدّولة، وقلد الرئاسة فكانت له الصّولة. من عظيم أياديه وسموّ ناديه، وكريم أواخر فضله ومباديه. ولا مرية في أنه ساد بجوده، كما فخر الزّمان بوجوده. وزها بنسبه الطّاهر من الأكدار، وسما بأفعاله الخالصة من الأغيار. ونجم في الدولة الفارسية نجوم البدر في السماء، وتلاعب بسياستها تلاعب الأفعال بالأسماء!.
وحين غيّبته الصفائح، وعدم جداه الفائح؛ رثاه العافون، وتوجّع لفقده المبتلون والمعافون!
فمن رثاه الفقيه الكاتب أبو عبد الله محمد بن محمد بن جزيّ الكلبي بقوله:
لعمر المعالي ما وفى بحقوقها ... من النّاس من لم يرث لابن أبي عمرو
فتى جمعت فيه المحاسن كلّها ... ولا بدّ من نقص فكان من العمر!
وفي رثانه أنشدني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن عبد المنّان الأنصاري الخزرجي لنفسه (أبي العباس أحمد بن يحيى بن عبد المنان)
من كان يبكي ماجدا فليجد ... بالمدمع السّكب على الحاجب
يمّم وجه المجد فاغتاله ... صرف الرّدى لم يخش من حاجب
عين أصابته ويا قربها ... في الوجه بين العين والحاجب!
وإذ قد فرغنا مما رثي به فلنذكر شعره، وهو ما كتب به لمخدومه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان:
أنا حاجب لفظا، ومعنى ... ليس لي منها نصيب
فمتى دعيت بحاجب ... فالحقّ ألا أستجيب
بالعجز عن ضرر العدوّ ... وعن موالاة الحبيب
فأنا البعيد حقيقة ... وعلى المجاز أنا القريب
فجاوبه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان بقوله:
لئن استقمت كما أمر … ت وترعوي فلك النّصيب
ومتى دعيت بحاجب … فعليك حقّا أن تجيب
فلقد جمعت خصالها … بفعائل الفطن اللّبيب
ونصحت مالكك الذي … ما مثله لك من طبيب
فاشكر لما أولاكه … شكرا به أبدا تصيب
أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن - إسماعيل بن يوسف الخزرجي الأنصاري النصري المعروف بابن الأحمر.