الفقيه الكاتب القاضي الخطيب علي بن عبد الله بن الحسن
الجذامي (أبو الحسن علي بن عبد الله، الشهير بالقاضي النباهي. من رجال الدولة النصرية في النصف الثاني من القرن الثامن. ولد بمدينة مالقة سنة 703، واستكمل علومه في مدينة غرناطة وولي القضاء في بعض مدن دولة غرناطة ثم التحق كاتبا بالديوان. وقد حظي عند الغني بالله محمد الخامس بمكانة مرموقة فصار قاضي الجماعة على أيامه. ولا يذكر القاضي النباهي دون أن يذكر معه لسان الدين بن الخطيب. فقد بدآ صديقين، يتقارضان الثناء. وذكره ابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة مديحة لم يضن فيها بالإطراء، ولكنه نقض كلامه في (أعمال الأعلام) وفي (الكتيبة الكامنة) وهجاه هجوا مرا. ولما اشتد بينهما الخلاف ألف فيه «خلع الرسن في وصف القاضي أبي الحسن». وكان النباهي من أهم المحرضين على ابن الخطيب، لا يعدله في ذلك غير ابن زمرك الوزير الذي جاء بعد ابن الخطيب. واشتدت الحملة بينهما بعد أن غادر لسان الدين إلى المغرب تاركا وزارته بغرناطة ومقاطعا السلطان النصري. للنباهي «المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا» ط-القاهرة-وشرح المقامة النخلية-خ-. قال في «نيل الابتهاج» إنه كان حيا سنة 793.):
[كنيته:]
يكنى أبا الحسن، وأدركته، ورأيته، ويعرف بابن الحسن، وبالبني.
وهو من أهل مالقة، من بيت رفيع المجادة؛ من أولي علم وقضاء وخطابه.
وقدّمه قاضيا بغرناطة ابن عمنا أمير المسلمين الغني بالله أبو عبد الله محمد المخلوع واختطب به، واستكتبه، ثم قدّمه على قضاء الجماعة ثانية.
ولجده الفقيه القاضي ابن الحسن المالقي أخبار شهيرة مع الحاجب المنصور بالله، أبي عامر محمد بن أبي عامر المعافري، حاجب هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين الأموي، خليفة الأندلس، أثبت هنا منها حكاية طريفة. ولم أثبتها إلا ليعلم منها أصالتها، وعلوّ منصبه. وهي ما قال محمد به موسى بن عزرون عن أبيه موسى. قال: اجتمعنا يوما في متنزّه لنا بجهة النّاعورة بقرطبة مع المنصور بن أبي عامر في حداثة سنّه، وأوان طلبه، وهو مرجئ مؤمّل. ومعنا ابن عمّه عمرو بن عبد الله بن عسقلاجه والكاتب ابن المرعزي، والفقيه ابن الحسن المالقي كانت معنا سفرة فيها طعام. فقال ابن أبي عامر من ذلك الكلام الذي يتكلم به: لا بد أن أملك الأندلس! وأملك الرجال! وأقود الجيوش! وينفذ حكمي في جميع الأندلس! ونحن نضحك من قوله ونتعجّب من حديثه. فقال
يتمنى كل واحد منكم ما شاء، فتمنى كل واحد منهم، فقال عمرو بن عبد الله، نتمنى أن توليني المدينة لضرب الظّهور والجناة ونفتحها مثل هذه الشاردة. وقال ابن المرعزي: أنا أشتهي هذه الإسفنج، توليني أحكام السّوق حتّى نشتفي منها! وقال ابن الحسن، أحبّ هذا التين نتمنى
تولّيني القضاء بريّة (وتعرف الآن بمالقة) حتى أتشفّى من ذلك.
قال موسى بن عزرون: فقال لي تمنّ أنت! قال فشققت لحيته، وضرطت به وقلت قولا قبيحا من أقوال السّفال. قال فلمّا صار المنصور إلى ما صار من ملك الأندلس ولى ابن عمّه المدينة، وولّى ابن المرعزي أحكام السّوق، وولى ابن الحسن المالقي قضاء ريّة، وبلغ كل واحد منهم ما تمنّى، وأغرمني أنا مالا عظيما أجحف بي وأفقرني لقبح ما جئت به!
حاله:
ملك من الطريقة الأدبيّة الصدور والأعجاز، وضرب القداح في منثورها ومنظومها بمعلاهما وفاز. واهتز قضيب براعته في المسائل الفقهية أي اهتزاز.
ذو إصابة في الأحكام الشرعية، ووقوف عند حدودها السنيّة. إلى سمت ووقار، وكلام ألذ من كاسات العقار.
فمن قوله ما كتب به للشريف الفقيه القاضي أبي القاسم محمد بن الفقيه القاضي أبي علي حسن الحسيني السّبتي المعروف بالتّلمساني:
يا عمادي الذي له القدر العالي، والفضل المستوالي؛ والمكارم التي صحّت منها الأسانيد وحسنت الأمالي. خصّكم الله بدوام السّعادة، وحباكم من عوارفه بالحسنى والزيادة. وصلت العقيلة الجليلة التي قادت الجذل، وسحرت بجمالها المثل. وهبّت أسرار معانيها هبوب الرّياح، وسرت ألطافها الشريفة مسرى الحياة في الأرواح. أكرم بها من زهرة سعيدة، وزهرة لشرخ الشباب معيدة. لم تكدّر صفو شهدها إبر النحل. ولا شكت دوحة مجدها ألم المحل. يمينا لقد أنست صباحتها محاسن أدباء بغداد، وأزرت فصاحتها بخطباء إياد. فمن سطور تحاكها الشذّور، وتغصّ بمرآها البدور، ومن طرف أغراض تذهب بعلل القلوب المراض، ويقصر عن طيب شذاها أنفاس الرّياض. ومن معان تطلق من ربقة الجهل كلّ عان.
فنزّهت فيها الناظر والخاطر، ونافحت بها الرّوض الماطر، والمسك العاطر. وناديت بأعلى صوتي: بمثل هذه الخريدة، الفذّة الفريدة؛ يكاثر من يكاثر؛ ويفاخر من يفاخر. ثم إني أقبلت أناجيها بالضّمير، وأقول في مراجعتها بلسان التّقصير:
يا تحفة القلم الذي زان الزّمن ... من ذا يقوم بشكر من أهداك من؟
إن خطّ مهرقه فقد سحر النّهى ... وأراك فيه وشي صنعاء اليمن
وكلامه نظما ونثرا لؤلؤ ... لكنه يربي على غالي الثّمن
أبدى وأظهر من صفاة كماله ... ما كان لي في القلب منه قد كمن
لا زال يبلغ في الزّمان مراده ... ويبيت من طرق الليّالي في أمن
وعذرا يا سيّدي في الاختصار والاقتصار من الكلام على هذا المقدار. فلا خفاء عليكم بما لديّ من القصور في المنظوم والمنثور. على أني لو كنت أشعر من حبيب، وأخطب من شبيب، وأحكم من أكثم، أو عمرو بن الأهتم؛ وأطرف وأطبع من الملقب في عدوان بذي الإصبع، وأصبحت بعلوم البيان أعلم من الشيخ أبي عبد الرحمن، أو (. . .) عمرو بن أبي عثمان أو الأخفش علي بن سليمان لاستقصرت كلّ لسان، ولرأيت الواجب لكم فوق ذلكم الإحسان.
بيد أن المعظّم يعاتب مثابة الجمال والإجمال معاتبة الإدلال، والجمع بين المفاكهة والإجلال، والإحماض والإخلال. فنقول: العقيلة المعبر عنها أصاب كمالها سهم النقص، إذ دفعت إلى الشخص الذي هو دون قدرها بالقياس والنص! فليس لمثلي على القيام بحقها من يدين، ولو أني علوت الفرقدين، واستنزلت النّيرّن الأكبرين، وسقت لها النّعائم والشّعريين، والزّباني مع البطين. وأمّا قرطا ماريّة فما إن رضيت بهما لها من قرطين، ولو كللّلا بالغفر والشّرطين ولم لا وهي بنت فكر إمام المغربين، وجمال المشرقين، وقدوه العدوتين. فكيف جرى هذا الواقع، ومتى حلّ السّبب القاطع، حتى ظهر على الشّمس المنيرة النّسر الواقع. هنا يجمل تعصّب الفقيه، ويحمد تكلّمه بملء فيه، وإظهار ما يرويه ويدّعيه؛ من سند وثيق، ونكت تحقيق، ونصوص توثيق. فهو محلّ القبول والردّ، والحلّ والعقد، والاستدراك والنقد.
إيه، أيها المنعم بالتّحفة المعطارة، قد آن للمعظّم أن يكف من هذه الغزارة ويراجع نفسه، فبئست الجارة، والعصيّة الأمارة، والمكرهة المختارة. فأقول-وبالحقّ أصول-صنيعة العماد إنما هي درر وشذور.
ثبت عدم قارون عندها وإن العديم لمعذور. وغير نكير على البحر الكبير أن يجود على فقير أو حقير بمذخور. فسيّدي أولى من تطوّل بالهيبة السّمحة والنعمة السّحّة، من غير منّ ولا أذى، ولا تعلّل بفتح باب «حتّى» و «إذا». فهو ربّ الأيادي، وملاذ الحاضر والبادي. أبقاه الله شرفا للأيام، وفخر الدولة السامية المقام. وهذا ما حضر من الكلام، والسّلام.
أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن - إسماعيل بن يوسف الخزرجي الأنصاري النصري المعروف بابن الأحمر.