الفقيه القاضي الخطيب محمد بن محمد السّلمي (أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، (ت 773) وقيل 771 واحد من شيوخ غرناطة وقضاتها المعدودين في القرن الثامن. كان شيخ لسان الدين بن الخطيب وطبقته. وهو ينتمي إلى الصحابي الجليل العباس بن مرداس السلمي. نشأ بمدينة المرية وتلقى علومه فيها وفي مدن الأندلس الأخرى. ورحل إلى المغرب أكثر من رحلة قاصدا العلم والعلماء ووصل حتى بجاية. وعاد إلى الأندلس فولي القضاء في عدد من بلدانه كالمرية، ومالقة ورحل إلى المغرب في أغراض سلطانية. ولأبي البركات تصانيف متعددة الاغراض منها: تاريخ المرية، والمؤتمن على أنباء أبناء الزمن. وخلف ديوان شعر كان متداولا معتنى به. أثنى عليه الذين ترجموا له بالفهم والفضل وإفادة طلبة العلم، وكان أصحابه وتلامذته يقدمونه ويقدرونه غاية التقدير والتبجيل):
[كنيته:]
يكنى: أبا البركات، ويعرف بالبلّفيقي، وبابن الحاج. وأدركته ورأيته. وأصل سلفه من بلّفيق حصن من عمل مدينة المرية ، من بيت العلماء والمحدثين والحفاظ. وكان أبوه محمد بن إبراهيم محدّثا حافظا متفننا في العلوم.
وإبراهيم: والد محمد كان فقيها إماما عالما محدثا حافظا؛ رأيته.
ونسبه:
هو محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن خلف ابن محمد بن سليمان بن سوار بن أحمد بن حزب الله بن عامر بن سعد الخير ابن أبي عيشون عياش بن محمود بن عنبسة بن حارثة بن العباس بن مرداس السّلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدّاخل من أجداده إلى الأندلس من المشرق هو محمود بن عنبسة؛ دخلها مع موسى بن نصير.
وولاه القضاء في سنة سبع عشرة وسبع مئة بشبالش، أمير المسلمين أبو الوليد إسماعيل عم أبينا بن جدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج. ثم لم يزالوا يوالونه القضاء والخطابة بغرناطة وغيرها من البلاد، أبناء عمّنا الملوك من بني الأحمر آل نصر.
فلما ولي الملك ابن عمّنا أمير المؤمنين الغالب بالله المتوكل على الله أبو عبد الله محمد قدّمه على قضاء الجماعة بغرناطة بطول دولته. وبعثه رسولا لملك العدوة؛ وهو أمير المسلمين المستعين بالله أبو سالم إبراهيم. فلقيته بفاس، وأنا إذ ذاك بها في حضرة الملك من بني مرين حين أخرجنا بنو عمّنا الملوك من بني الأحمر آل نصر، فطلبت منه أن ينشدني من شعره فأنشدني ما نذكره إن شاء الله تعالى.
حاله:
هو علم أعلام القضاة، وصاحب الخلال المرتضاة. ورجل الحديث وأسد رجاله. وعلامة العلم وفارس مجاله. وعالم الرّواية، والمحصّل للدراية.
وربّ البلاغة والفصاحة، ومبرّز ميدان الذكاء والسّماحة. وباعه في القراءات مديد، ورأيه في الأحكام سديد. وبيته بيت علم سحب من الصّون ذيلا، وتضوّعت من عرف عرفانه نواسم الجلال نهارا وليلا.
أنشدني لنفسه :
يفنى الهوى وغرام عزّة باق … والشّوق يذهب ما عدا أشواقي
حلف الهوى ألا يفارق مهجتي … طول الزّمان إلى بلوغ تراقي
فالوجد ما طويت عليه جوانحي ... والدّمع ما جادت به آماقي
أنا فارس العشّاق ما منهم فتى … يهتزّ بين يديّ يوم سباق
5 وإذا هم يعدون خلفي سرّعا … لم يظفروا يوم الهوى بلحاق
فأنا الذي عرف الرجال مقامه … من بينهم في مصرع العشّاق
قالوا لعاذ لنا وعاذرنا وما … بي من غرام منهم ووفاق
قد صمّت اذني عن حديثكم كما ... عميت إذا شاهدتكم أحداقي!
إن شئت تعلم هل شعرت بأمركم ... أم لا، فهاك انظر إلى استغراقي
10 الحال أغلب والدّليل مؤخّر … والحكم في ذا الباب للأذواق
دعني وعزّة والغرام فإنّه … تثليث توحيد بغير نفاق!
داء الهوى ما إن أدين ببرئه … ما للطّبيب ولي، وما للرّاقي؟!
هي علة أو سكرة لا ترتجي ... صحوا، وكيف وما عدمت الساقي؟
لله ساق في حلاوة كأسه ... للمدنف الهيمان مرّ مذاق
15 وأمرّ من محن الهوى أن لم أبل ... بعظيم ما في جنب ذاك ألاقي
يا قلب كم أسعى ومالي مخلص ... نحو التفلّت من شديد وثاقي
لله ما يلقاه أرباب الهوى ... من كلّ ما يفري عرى الأعناق
لا غرو أن يشقى المحبّ ببعده ... إن لم يدن محبوبه بتلاق
الموت كلّ الموت أنّي مبتلى ... بفراق من يشكو أليم فراقي!
20 يا من فؤادي في وصال جمالهم ... ما زال في طمع وفي إشفاق
إن كان دهر قد قضى بفراقنا ... فعساكم لا تنقضوا ميثاقي!
وأنشدني أيضا لنفسه، يخاطب بعض الطّلبة معتذرا له وقد [غفل عنه] في بعض حلق العلم :
إن كنت أبصرتك لا أبصرت … بصيرتي في الحقّ برهانها
لا غرو أنّي لم أشاهدكم … فالعين لا تبصر إنسانها!
وأنشدني أيضا لنفسه في البعاد
قالوا تغّربت عن أهل وعن وطن ... فقلت لم يبق لي أهل ولا وطن
مضى الأحبّة والأهلون كلّهم ... وليس لي بعدهم سكنى ولا سكن
أفرغت دمعي وحزني بعدهم فإذا ... من بعد ذلك لا دمع ولا حزن!
وأنشدني أيضا لنفسه:
قد كنت أحسب قدوة في سادة ... عدّوا بغير رضاي من أكفائي
فاجتاحهم ريب المنون فأصبحوا ... رهن الثرى نبأ من الأنباء
وأقام بعدهم الزمان صغارهم ... رغما أمامي، والكبار ورائي!
لم أرض بالطّرف العتيق مسابقا ... فبليت بالجريان خلف الشاء!
وأنشدني أيضا لنفسه في المجبّنة
ومصفرّة الخدّين مطويّة الحشا ... على الجبن والمصفرّ يؤذن بالخوف
لها هيئة كالشّمس عند طلوعها ... ولكنّها في الحين تغرب في الجوف!
أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن - إسماعيل بن يوسف الخزرجي الأنصاري النصري المعروف بابن الأحمر.