وفيهَا توفّي السُّلْطَان الْأَعْظَم سُلَيْمَان بن سليم سُلْطَان العثمانيين وَكَانَ عادلاً فَاضلا وللأديب ماميه الانقشاري فِي تَارِيخ وَفَاته شعر ... انْتقل الْعَادِل من دنيته ... جاور الرَّحْمَن وَالْمولى الرَّحِيم
قَالَت الأقطاب فِي تَارِيخه ... مَاتَ سُلَيْمَان بن سُلْطَان سليم ...
ولهفيه مراثية أَجَاد فِيهَا كل الإجادة مِنْهَا هَذِه الأبيات ... لقد بجدد الْبَيْت الْعَتِيق حداده ... وَقد وشحت طراز السود المحامد
كَأَن بني الْعَبَّاس سنت سوادها ... عَلَيْهِ وبالأعلام قاست دَلَائِل
وَكَانَ عماد الدّين فِي كل حَادث ... وسلطانه بالنصر للشَّرْع حافل
وَمَا كَانَ علمي قبل فقد سما الْعلَا ... بِأَن الثرى للنيرين منَازِل
على عد علمي حم حمى ملكه حمى ... وَعَن قَوْله كم قَالَ روا ناقل
وجثته فِي الأَرْض أضحت دفينة ... وَمن شَأْنهَا تحوي اكنوز الجنادل
بِسبع أقاليم بَكَى النَّاس وَاحِدًا ... على السَّبع يطوي فِي الوغى وَهُوَ حاثل
فَصَبر وعفو الْعين سَار وسارح ... ودمعي على الْخَدين هام وهامل
فكم حَيّ قلب وَقد تقلب فِي الغضا ... عَلَيْهِ وَكم عقل غَدا وَهُوَ ذاهل
وَكم انفق الْأَمْوَال فِي الْغَزْو قَائِلا ... إِلَّا فِي سَبِيل الله مَا أَنا فَاعل
شياطين أهل الْكفْر ولت لِأَنَّهَا ... سُلَيْمَان وافا وَهُوَ للشرك خاذل
غزاهم بعزم كالشاب وَقد سما ... وَمن حوله عد النُّجُوم حجافل
أسود لَهَا لهف الدروع مَوَاطِن ... وغاياتها سمر القنا والعوامل ...
وَهِي طَوِيلَة أَولهَا ... لعمرك مَا الْأَعْمَار إِلَّا مراحل ... وفيهَا مُرُور الحادثات مناهل ...
ولحسنها ذكرت مِنْهَا هَذِه الأبيات وفيهَا اشارة إِلَى بعض مآثره رَحمَه الله وَلَوْلَا خشيَة التَّطْوِيل لأتيت بهَا جميعنا فَإِن قاعدتنا فِي هَذَا التَّارِيخ الْبسط فِي تَرْجَمَة الْعلمَاء والصلحاء دون غَيرهم من السلاطين وَنَحْوهم وَحكي أَنه لما مَاتَ السُّلْطَان سليم وَتَوَلَّى وَلَده سُلَيْمَان سمع قَائِلا يَقُول ... قل لشياطين الْبُغَاة اخسأوا ... قد اوتي الْملك سُلَيْمَان ...
ولمكامية الانقشاري أَيْضا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ... لَو يقاسي قيس مَا قاسيته ... لشكى للنَّاس ضرّ الضرتين
ذَاك مَجْنُون بليلى وَحدهَا ... وانا الْمَجْنُون بَين الليلتين ...
قَالَ بعض الْفُضَلَاء وَقد وقف عَلَيْهِمَا عجب من رومي هَذِه الفصاحة قلت وَمثله ان الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله لما سمع هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ... إِذا مَا رَآنِي العاذلون وغردت ... حمائم دوح أيقظتها النسائم
يَقُولُونَ مَجْنُون جفته سلاسل ... وممسوس خي فارقته التمائم ...
وهما لتاج الطرفي الاصفهاني تعجب من ذَلِك وَقَالَ مَا ظَنَنْت ان أحدا من الْعَجم يصل كَلَامه إِلَى هَذَا الْحَد وَبعث إِلَيْهِ بخلعة وَكَانَ الشَّاعِر ماميه الأنقشاري الْمَذْكُور حج فِي سنة خمس وسين وَتِسْعمِائَة وَحصل لَهُ قبُول عَظِيم وطارح ادبآء مَكَّة بأشعارعه
قَالَ الشَّيْخ عبد الرؤوف بن يحيى الْوَاعِظ تلميذ الشَّيْخ ابْن حجر الهيثمي فِي وَصفه انه مِمَّن توَحد فِي عصره بصناعة الشّعْر وبرع فِي الصناعتين فِي الْغَزل والنسيب وَكَاد ان يكون ثَانِي الحاجري فِي الرقة والتشبيب وَمن شعره أَيْضا فِي القهوة وَهُوَ تَشْبِيه حسن ... طَاف يسْعَى بقهوة مقَام ... شمس حسن سما بصبح الْمحيا
كأسها الْبَدْر والحباب نُجُوم ... وَهِي ليل تجلى بكف الثريا
وَمِنْه
قد شربنا قهوة بنية ... وَلها شربنا غَدا بالنيه
لَوْنهَا قد حكى أذايب مسك ... أَو زباد وسط الزباد الجلية ...
وَمِنْه ... أتتتنا قهوة من قشر بن ... تعين على الْعِبَادَة للعباد
حكت فِي كف أهل اللطف صرفا ... زباداً ذائباً وسط الزباد ...
وَمِنْه أَيْضا على لسانها ... أَنا المعشوقة السمرا ... اجلى فِي الفناجين
وعود الْهِنْد لي عطر ... وذكري شاع فِي الصين
وَمِنْه أَيْضا ... مَا زلت أبْكِي حيرة الأجرع ... حَتَّى اسْتَغَاثَ الْغَيْث من ادمعي
وددت من توديع أهل اللوى يَوْم النَّوَى لَو أَن قلبِي معي
يابين مَا شِئْت امتحنن إِنِّي ... لَوْلَا فِرَاق الْجزع لم أجزع
قد مستني ذكر عبير الْحمى ... حَتَّى قد مس معي مسمعي
وَانْقطع الصَّبْر وَضاع القوى ... لكنما مد معي مدمعي
يَا حادي الْبَين ترآى الْحمى ... فلعلع الْأَصْوَات فِي لعلعي
لم أدر هَل صبح بدا بالسنا ... أم أسفرت ليلى عَن البرقع ...
وَمِنْه ... سبا الْعُقُول بصاد جلّ فاطره ... وصاد قلب الْمَعْنى وَهُوَ فاطره
غزال ربرب يغزل الجفن غازلنا ... وَقد غزاني ببيض السود ناظره
فريد وصف تثنى قده هيفاً ... وماس تيهاً على الأغصان ناضره
إِن صال بأعينه أَسد فرائسه ... أَو مَال مايسه فالقلب طَائِره
نَبِي حسن بَدَت أنوار طلعته ... تهدي الَّذِي قد اضلته غدائره
مَا مثله بشر فِي ثغره دُرَر ... فِي طرفه حور هاروت ساحره
لم انس حِين وفا وَالْوَقْت فِيهِ صفا ... والصب بعد جَفا قد سر خاطره
والهم منفرج وَالْقلب منبلج ... وَالرَّوْض مبتهج تزهو أزاهره
وَبَات ينشدني والكأس سفي يَده ... بِذكر صبوحك أهنا الْعَيْش باكره ...
وَمِنْه ... كل الْوُجُود تجليات جماله ... لَكِن بدا متحجبا بحلاله
نورولا شَيْء سواهُ وَإِنَّهُم ... ظنُّوا السوى لتشكلات خياله
لاتشهدن النَّقْص لَو فِي نقصا إِنَّمَا ... مرآته تجلى عَلَيْهِ بِحَالهِ
فاطلب وَلَو أفنيت عمرك طَالبا ... فعساك أَن تحظى بكنز وصاله ...
وَمِنْه ... زمن الْورْد روح جسم الزَّمَان ... وحياة النُّفُوس نبت الرُّمَّان
فدعاني واودعاني بِحسان ... والقياني بَين القنان القيان
كل حوراء تفتن الْحور حسنا ... وجمالا وزتزهو على الْولدَان
بدر ثمَّ يُدِير بَين النُّجُوم ... فِي هِلَال الكؤوس شمس الدنان
فِي رياض أرضي الْغَمَام ثراها ... فتراها قد زخرفت كالجنان
سِيمَا وَالربيع حَيا فأحيا ... ميت الأَرْض بالحيا الفتان
وَبدر السَّحَاب منثور در ... نظمته مباسم الاقحوان
وتغنت بلابل الدوح لما ... ان تجلت عرائس الاغصان
فتباهت وَشقت الارض شقاً ... وجلا الْغُصْن وردة كالدهان
مَا أحيلى الصبوح بَين صباح ... فِي صباح أَتَى ببشر التهاني
فِي رياض تجنت فَلهَذَا ... سلسلتها سلاسل الغدوان
فاغتنم فرْصَة الزَّمَان وبادر ... قبل ان تَدور نَوَائِب الْحدثَان
ولعمري مَا الْعُمر إِلَّا زمَان ... قد مضى بالمنا وغر الاماني
وَمِنْه مورياً بالنغمات ... ركب الحجان صَعِيد عراقها ... فأثار نَار الشوق من عشاقها
لما سرى لَيْلًا بسلمى قَاصِدا ... اهداه نَار ضاء من اشراقها
شمس إِذا رفعت سَحَاب ردائها ... ابدت لنا القمرين من أطواقها
عجبا لعَيْنِي كَيفَ أغرقها البكا ... وجوانحي تَشْكُو لظى حراقها
مَا علم الْقمرِي ينوح بشجوه ... إِلَّا جريح ان من اشواقها
وَمِنْه هَذَا التخميس ... حَبِيبِي زار فِي روض نزيه ... وجاد بِرُؤْيَة الْوَجْه الْوَجِيه ... وَحين سكرت بالأشجان فِيهِ ... سقاني خمرة من ريق فِيهِ ... وَحيا بالعذار وَمَا يَلِيهِ ... وانعم لي بوصال بعد صد ... وأقربني إِلَيْهِ بعد بعدِي ... وَبت وحيدة من فَوق زندي ... وسارت معانقي خداً بخد ... غزال فِي الْأَنَام بِلَا شَبيه ... وَأمسى الدَّهْر طَوْعًا فِي يدينا
وَعين السعد ناظرة إِلَيْنَا ... وباتت شمسنا تجلى لدينا ... وَبَات الْبَدْر مطلعاً علينا ... سلوه لَا ينم على أَخِيه ...
وَمِنْه هَذَا التخميس على الْبَيْتَيْنِ الْمَشْهُورين ... أَلا طاعات نَفسك فاجتنبها ... وساعات الْأَمَانِي فارتقبها ... وزردة منحة إِن تحتلبها ... إِذْ ادرت نياقك فاحتلبها ... فَمَا تَدْرِي الفصيل لمن يكون ... تحذر من أمورك واحتكمها ... وَمن دنياك فَانْقَطع واتهمها ... وسفن الصَّبْر فارك واستلمها ... فان هبت رياحك فاغتنمها ... فان لكل خافقة سُكُون ...
وَمِنْه هَذَا التخميس أَيْضا ... يَا من يروم من الْإِنْسَان رفقته ... ويرتجي من أهيل الود صحبته ... قد قَالَ قبلك من عانى عشيرته ... مَا فِي زَمَانك تصفو مودته ... وَلَا صديق إِذا خَان الزَّمَان وفا ... فَلَا تعاشر فَتى يرميك فِي نكد ... وان رآك بِخَير مَاتَ من كمد ... فَلَا خلا جَسَد فِي الدَّهْر من حسد ... فعش وحيداً وَلَا تركن إِلَى أحد ... اني نَصَحْتُك فِيمَا قلته وكفا ...
وفيهَا فِي رَجَب ختم صَحِيح البُخَارِيّ عِنْد الْأَمِير الصَّالح الفخان الحبشي بِقِرَاءَة الْعَلامَة القَاضِي جمال الدّين محجمد المهايمي وَعمل الفخان لختمه ضِيَافَة عَظِيمَة وَأَنْشَأَ القَاضِي المهايمي فِي فضل البُخَارِيّ خطْبَة وَذكر فِي آخرهَا الفخان قَرَأَهَا ذَلِك الْيَوْم على رُؤُوس الاشهاد
وفيهَا سَافر وَالِدي من بروج إِلَى أحمج اباد وَقَامَ بهَا إِلَى ان توفّي وَكَانَ يَوْم دُخُوله إِلَيْهَا يَوْمًا مشهوداً وَخرج لاستقباله مِنْهَا من كَانَ بهَا من الوزراء
وفيهَا صنع الاستاذ شيخ الاسلام جمال الدّين مُحَمَّد بن الاستاذ شيخ الْإِسْلَام أبي الْحسن الْبكْرِيّ ضِيَافَة عَظِيمَة لتطهير اولاده الْكِرَام وَاتفقَ فِي ذَلِك الْوَقْت اتمام دَار عمرها الاستاذ أَيْضا فانشأ الأديب البارع ابراهيم بن امبلط الْمصْرِيّ فِي ذَلِك قصيدة بديعة فِي بَابهَا فائقة بَين أترابها مُشْتَمِلَة على الْمعَانِي الغريبة ومكا وَقع فِي ذَلِك من الْأُمُور العجيبة مَعَ رقة الانسجام والجناس التَّام ... وَافق السعد فِي حماك السرورا ... وأمان الزَّمَان أرْخى الستورا
فتمتع ونم وقم فِي قُصُور ... لم يصل وَاحِد إليهاقصورا
ان رَآهَا الحسود يَوْمًا بِعَين ... يَنْقَلِب طرفه إِلَيْهِ خسيرا
ان رب السَّمَاء اعطاك فِيهَا ... فَرحا عاطفا عَلَيْهِ سُرُورًا
ودحى عَنْك حادثات اللَّيَالِي ... وَبنى بَينهَا وَبَيْنك سورا
لَا تخف ان سَمِعت طَارق ليل ... فَهُوَ بِالْخَيرِ قد اتاك بشيرا
مَا لهَذَا الْبَنَّا فِي الْحسن واللطف ... وان كَانَ وَاسِعًا وكبيراً
أسسوه على التقى فَلهَذَا ... هُوَ بِالْخَيرِ لم يزل معموراً
شكر الله سعي من قد بناه ... انه كَانَ سَعْيه مشكورا
ستوفى لَك الأجور بِمَا ... وفيت للصانعين فِيهِ الأجورا
فبإتمتامه اقم فِي هناءٍ ... وبختن الْبَنِينَ عش مَسْرُورا
قطعت سرة لَهُم قبل هَذَا ... لَكِن الْآن طهروا تَطْهِيرا
وَسَيَأْتِي زواجهم عَن قريب ... فتأهب لَهُ واعط المهور ا
صَاحِبي أحضرا وَلِيمَة ختن ... ودعا عنكما محالا وسرورا
وانظرا مجمعا لَهُم ضم خلقا ... لَيْسَ يُحْصى أعدادهم تكثيراً
عَالما صَالحا أَمِيرا كَبِيرا ... قَاضِيا ساهداً غَنِيا فَقِيرا
فَيَقُول الْفَقِيه عني استنيبوا ... فِي جهاتي وعطلوها شهورا
فجهاتي مَشْغُولَة عَن جهاتي ... ولي الْعذر إِن تركت الحضورا
والاصولي قَائِل بِي اضطرار ... وتبيح الضَّرُورَة المحضورا
وَيَقُول الْخَطِيب للنَّاس جَهرا ... يَا أولي الْجد شمبروا تشميرا
وَيَقُول القَاضِي وللأكل يُوفي ... كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا
قد دَعَاني ولي أَمْرِي ... وَعِنْدِي يسْتَحق الْمُخَالف التعزيرا
وَتقول الشُّهُود جِئْنَا نُؤَدِّي ... مَا علينا ونترك التاخيرا
وَتقول الْقُرَّاء عنوان خير ... نَحن فِي رزقنا نرى التيسيرا
وَيَقُول الْمجِيد علم لُغَات ... بل لجرعان تعرفُون نظيرا
والعروضي لَا يقطع إِلَّا فِي ... لُحُوم وَلم يقطع بحورا
وأخو النَّحْو قد أَعْلَاهُ اخْتِلَاط ... فَهُوَ يُبْدِي ضَمِيره المستورا ... ويجر المصوب من غير سوغ ... ثمَّ من بعد يرفع المجرورا
جملَة الْأَمر انهم ابصروا مَا ... حير الْعقل مِنْهُم تحييرا
رق قلبِي على رغيف سيواط ... حِين أَبْصرت قلبه مكسورا
وقباب الْحَلْوَى الَّتِي عرضوها ... عَن جموع السَّلامَة التكسيرا
والعزيزي من إياد طوال ... خَافَ فازداد لَونه تصفيرا
وَلكم فِي السماط رَأس سميط ... وسليخ قد اسْتَوَت تخميرا
ودجاج معلوفة وأوز ... كَانَ مِنْهَا الصُّدُور تشفي الصدورا
جمع الطَّيِّبَات طولا وعرضاً ... ولعمري يسْتَوْجب التصديرا
شبع النَّاس كلهم مِنْهُ أكلا ... وانتهابا وَلم يزل مَسْتُورا
وَالَّذين اعتنوا بِنَقْل قراهم ... ينقلون الصَّحِيح والمشهورا
رَضِي الله فِيهِ من نقباء ... قد أجادوا التصريف والتدبيرا
.. فَإِذا أبصروا بأيدي نابصيه ... لم يظهروا تَأْثِيرا
وَإِذا قَالَ قَائِل لنقيب ... مَا تراهم يَقُول كن ستيرا
وَإِن هَذَا رزق حَلَال ... مُبَاح وَرَأى مَنعه لَهُم مَحْظُورًا
كم أُلُوف من فضَّة وَكَذَا من ... ذهب قدرت لَهُ تَقْديرا
لم يكن دِرْهَم ولادينار ... مستعداً لَهُم وَلَا مصرورا
بل من الله قد أَتَت وبحمد ... انفقت فِي الهنا وعادت أجورا
وَلكم أوقدت مصابيح نور ... فِيهِ حَتَّى بدا الصَّباح منيرا
تشبه النَّجْم كَثْرَة وارتفاعاً ... وضياء على الْأَنَام ونورا
فِي لَيَال بدابها قمر الْأُفق ... منبرا فزادها تنويرا
وشموع كَأَنَّهَا الفات فِي ... طروس الظلام خطت سطورا
كلما مس نوره الرّيح أَمْسَى ... كلسان بَين الشفاه أديرا
والحرقات فِي المراكب ترمي ... شرراً من قراضة مُسْتَطِيرا
صَنْعَة الكيميا فِي الرّفْع والخفض ... ترينا التصعيد والتقطيرا
كمروق السِّهَام دفعا ورفعاً ... وبروق السَّمَاء لاحت ظهورا
أَو كَمَا فر طَائِر فر حَسْبَمَا ... فعلا شاهقاً وَجَاوَزَ سورا
أَو كحلي فِي رَأسه شربوس ... قد تبدا مقرعاً منشورا
أَو كَمَا قرطت سلاسل در ... وبدا حب عقدهَا منثورا
أَو كَمَا تبذر الْحُبُوب لزرع ... أَو كَمَا تنفخ الشفاة القشورا
أَو كخشخاشة بكف صَغِير ... لم يجد أكلهَا فصب البزورا
أَو كَمَا تنثر النُّقُود نقوطاً ... أَو كَمَا تخرجد الرياض زهورا
وَلكم فصلت ثِيَاب حَرِير ... وَغدا فِي اختلافها الْأَمر شورا
وَلكم اطلقت صنوف بخور ... وشممنا نشراً لَهَا وعبيرا
وَلكم سكر نقي مذاب فِي ... الْأَوَانِي مكوراً تكريرا
وَترى النَّقْل والفواكه والحلوى ... لجمع الورى أعدت فطورا
وَلكم قد أدير القهوة بن ... وسقينا مِنْهَا شرابًا طهُورا
من تعاطى مِنْهَا شهاراً جهاراً ... لَا يرى فِي الورى عَلَيْهِ نكيرا
وخيام مَنْصُوبَة لَا يرى من ... حل فِيهَا شمساً وَلَا زمهريرا
.. وَتَوَلَّى فِينَا ملك جَدِيد ... دَامَ فِينَا مؤيداً منصورا
وَله بالحلى زينت الدُّنْيَا ... واثرت ملابساً وستورا
إِن أردْت اللحاظ تلق حَرِيرًا ... أَو أردْت الْجُلُوس تلق سريرا
واكتسى الرَّوْض من بَدَائِع صنعا ... موشى محبرا تحبيرا
واكتست خضبة من الْخلْع الْخضر ... الَّتِي فَضلهَا غَدا مجرورا
وأجادت رقصاً باكمام زهر ... عطر الْكَوْن نشرها تعطيرا
وفصاح الطُّيُور غنت بلحن ... وَأجَاب المطوق الشحرورا
ولجمع الأتراك يَوْم عَظِيم ... كَانَ يحوي الْأَمِير والمأمورا
والأغاوات والصناجق إِلَّا صَاحب ... السعد مَا اسْتَطَاعَ الحضورا
ودعا السَّادة الْبَنِينَ وَأَعْطَاهُمْ ... من المَال مبلغا مصرورا
وكساهم ملابس فاخرات ... صيرت خاطراً لَهُم مجبورا
بعد اجلالهم بِحسن تلقيه ... واحلا لَهُم محلا اثيرا
ثمَّ قَاضِي الْقُضَاة جَاءَ و ... ابْتَاعَ لَهُ كَانَ جمعهم موفورا
والأمير الْمُعظم دفتر دَار مصر يُعْطي الْوُقُوف الكثيرا
وَيَقُول انْظُرُوا لعبد ولاكم ... خدمَة فالأمير لَيْسَ أَمِيرا
أدباً مِنْهُ واحتشاماً ولطفاً ... زَاده فِي مقَامه تَكْبِيرا
ومماليك صَاحب السعد جَاءُوا ... جلّ من قد براهم تصويرا
نَحْو سبعين وَثَمَانِينَ شخصا ... كل شخص يَحْكِي الْقَضِيب النضيرا
بالحياصات والعصائب صيغت ... من نضار صفا وأشرق نورا
والمزامير والطبول بأيدي ... من يجيد التطبيل والتزميرا
فغدا يَوْم جمعهنم وَهُوَ يَحْكِي ... بهم يَوْم موكب مَشْهُورا
ثمَّ كَانَت لَهُم نَهَارا وليلاً ... زفف تجمع الموَالِي الصدورا
من أولى الْخَيْر وَالصَّلَاح وَأهل ... الْعلم زيدوا على الورى توفيرا
وَمن السَّادة الموقعين وَأَصْحَاب ... الدَّوَاوِين كَانَ جماً غفيرا
وَجَمِيع الْكتاب إِلَّا قَلِيلا ... وَجَمِيع التُّجَّار إِلَّا يَسِيرا
ثمك بَاقِي الْأَنَام إِلَّا كَبِيرا ... أَو رَضِيع ثدي صَغِيرا
قلت لَوْلَا جمَالهمْ بِثِيَاب ... لحكى الْبَعْث جمعهم والنشورا
وتصور الشموع والزهر فاقت ... كثرا واستوق بهَا تَقْديرا
وزهت باخْتلَاف شكل ... ولون زَادهَا فِي جمَالهَا تزهيرا
ثمَّ فِيهَا الجنائب الغر تزهو ... بلبوس قد شهرت تشهيرا
من خُيُول مسومات جِيَاد ... عاليات وغاليات مهورا
وَلمن زف مَعَ بنيه صغَارًا ... وكطساهم من اللبَاس حَرِيرًا
وَتَوَلَّى أجر الْحساب لَهُم عَن ... والديهم يَبْغِي بِذَاكَ الأجورا
ثمَّ فِي سَابِع الْخِتَان لَهُم ... كَانَ مُهِمّ ضاهى المهم الكبيرا
فِي اجْتِمَاع وَفِي مصابيح نور ... عمرت حِين أشبعت تعميرا
وسماط مركب طَبَقَات ... كم حوى طيبا وَحَازَ حنورا
فِيهِ لَا يعبر اوصف عَنهُ ... فَلِذَا أطبقوا عَلَيْهِ حبورا
قاسه كل ذِي ذِرَاع طَوِيل ... فَرَآهُ محرراً تحريرا
أمنُوا عِنْده رقيبا نَقِيبًا ... وحسود الْأكل وغيورا
والمشاهير بِالدُّخُولِ من القرا ... والواعظين كَانُوا حضورا
يقرأون الْقُرْآن طوراً وطورا ... ينشدون الموشح المشهورا
فظفرنا مَعَهم باحياء ليل ... كَانَ بِالْخَيرِ كُله معمورا
كَانَ هَذَا المهم حاوي مهمات ... عِظَام يحْتَاج شرحا كَبِيرا
نَحْو شهر يقالم فِي كل يَوْم ... فَرح كَامِل عديم نظيرا
مَعَ غلاء الأقوات سعراً ... وَإِذ لَا يقْضِي حكم حَاكم تسعيرا
يَا لتِلْك الليال حسنا وطيباً ... ليتها مَا انْقَضتْ ودامت شهورا
تمّ فِيهَا السرُور من كل وَجه ... ومحى صفو عيشها التكديرا
وبلغنا من الزَّمَان الْأَمَانِي ... وَأمنا الْمخوف والمحذورا
لسرور الْأُسْتَاذ من سخر الله ... لَهُ الْكَوْن كُله تسخيرا
وأفاض الآله مِنْهُ علينا ... نعما جمة وفضلاً كَبِيرا
وكراماته غَدَتْ بَيِّنَات ... لَيْسَ تخفى على الْأَنَام ظهورا
من أَبُو بكر الإِمَام لَهُ جد ... وَقد كَانَ للنَّبِي نَصِيرًا
ورفيقا وَصَاحب وأنيساً ... من عَدو فِي الْغَار يَأْتِي مغيرا
حَاز إِسْنَاده علو ورفعاً ... دَرَجَات على الْأَنَام وفورا
أَخذ الْعلم عَن أَبِيه عَن الصّديق ... عَن سيد اورى مأثورا
لَا تَجف عين علمه عين ضد ... فَهِيَ عين قد فجرت تفجيرا
سَيِّدي هَذِه هَدِيَّة عبد ... من فريض قد غاص فِيهِ البخورا
لَو رَأَتْ درة النفيس الغواني ... نظمته وقلدته النحورا
فِيهِ لب حُلْو المذاق وقشر ... فَخذ اللب مِنْهُ وارم القشورا
مزج الْجد مِنْهُ بِالْهَزْلِ كَيْمَا ... بانتقالاته يرى مجبورا
عذره فِي تأخيرره رمد فِي ... عَيْنَيْهِ لم يزل مَعْذُورًا
وشعاري التَّأْخِير دأباً وَمعنى لم أزل فِي الورى بِهِ مغيورا
وَعَسَى أَن يحصل بِي نظر مِنْك ... فَيلقى التَّقْدِيم والتأخيرا
دمت فِي الْعَالمين عمرا طَويلا ... كل عَام تنشي مهما كَبِيرا
وَبقيت الزَّمَان مُجْتَمع الشمل ... بأولادك الْجَمِيع قريرا
بالوالي أبي السرُور وتاج الدّين ... والعارفين عاشوا دهورا
ثمَّ عبد الرَّحِيم أَيْضا وزين ... العابدين الَّذِي اسْتحق الظهورا
وأخيهم أبي الْمَوَاهِب ثمَّ الأ ... عملا صَالحا وعلماً غزيرا
قد حَضَرنَا ولائماً لَيْسَ تحصى ... وَشَهِدْنَا جمع الْأَنَام الكثيرا
مَا رَأينَا وَلَا سمعنَا بِشَيْء ... مثل هَذَا واسأل بِذَاكَ خَبِيرا
وَلَقَد قيل أرخوه فَقُلْنَا ... فَرح مبهج الْقُلُوب سُرُورًا
وَصَلَاة من رَبنَا وَسَلام ... لنَبِيّ إِلَى الْأَنَام بشيرا
مَا أُقِيمَت فِي شرع طه بمُوسَى ... سنة للخليل يهدي السرورا .
-النور السافر عن أخبار القرن العاشر-لمحي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروس.