جعفر بن محمد بن هارون الرشيد العباسي أبي الفضل

المتوكل على الله جعفر بن محمد

تاريخ الولادة205 هـ
تاريخ الوفاة247 هـ
العمر42 سنة
مكان الولادةبغداد - العراق
مكان الوفاةسامراء - العراق
أماكن الإقامة
  • بغداد - العراق
  • سامراء - العراق
  • دمشق - سوريا

نبذة

المتوكل على الله: الخليفة, أبي الفضل, جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرَّشِيْدِ هَارُوْنَ بنِ المَهْدِيِّ بنِ المَنْصُوْرِ, القُرَشِيُّ العباسي البغدادي. ولد سنة خمس ومائتين

الترجمة

المتوكل على الله:
الخليفة, أبي الفضل, جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرَّشِيْدِ هَارُوْنَ بنِ المَهْدِيِّ بنِ المَنْصُوْرِ, القُرَشِيُّ العباسي البغدادي.
ولد سنة خمس ومائتين.
وَبُوْيِعَ عِنْدَ مَوْتِ أَخِيْهِ الوَاثِقِ فِي ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ:
حَكَى عَنْ: أَبِيْهِ، وَيَحْيَى بنِ أَكْثَمَ.
وَكَانَ أَسْمَرَ جَمِيْلاً, مَلِيْحَ العَيِنَيْنِ, نَحِيْفَ الجِسْمِ, خَفِيْفَ العَارِضَيْنِ, رَبْعَةً وَأُمُّهُ اسْمُهَا شُجَاعٌ.
قَالَ خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ: اسْتُخْلِفَ المُتَوَكِّلُ، فَأَظْهَرَ السُّنَّةَ، وَتَكَلَّمَ بِهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَتَبَ إِلَى الآفَاقِ بِرَفْعِ المِحْنَةِ، وَبَسْطِ السُّنَّةِ، وَنَصْرِ أَهْلِهَا. وَقَدْ قَدِمَ المُتَوَكِّلُ دِمَشْقَ، فِي صَفَرٍ سَنَةَ 244، فَأَعْجَبَتْهُ وَعَزَمَ عَلَى المُقَامِ بِهَا، وَنَقَلَ دَوَاوِيْنَ المُلْكِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِالبِنَاءِ بِهَا، وَأَمَرَ لِلأَتْرَاكِ بِمَالٍ رَضُوا بِهِ، وَأَنْشَأَ قَصْراً كَبِيْراً بِدَارَيَّا مِمَّا يَلِي المِزَّةَ.
قَالَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ: كَانَتْ لِلْمُتَوَكِّلِ جُمَّةٌ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ مِثْلَ أَبِيْهِ، وَالمَأْمُوْنِ.
وَقَالَ الفَسَوِيُّ: رَجَعَ مِنْ دِمَشْقَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ إِلَى سَامَرَّاءَ. وَقِيْلَ: نُعِتَتْ لَهُ دِمَشْقَ، وَأَنَّهَا تُوَافِقُ مِزَاجَهُ، وَتُذْهِبُ عِلَلَهُ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ بِالعِرَاقِ.
قَالَ خَلِيْفَةُ: وحج بالناس قبل الخلافة.
وَكَانَ قَاضِي البَصْرَةِ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ يَقُوْلُ: الخُلَفَاءُ ثَلاَثَةٌ: أبي بَكْرٍ يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، فِي رَدِّ المظَالِمِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالمُتَوَكِّلُ فِي مَحْوِ البِدَعِ، وَإِظْهَارِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ يَزِيْدُ بنُ مُحَمَّدٍ المُهَلَّبِيُّ: قَالَ لِي المُتَوَكِّلُ: إِنَّ الخُلَفَاءَ كَانَتْ تَتَصَعَّبُ عَلَى النَّاسِ ليُطِيْعُوهُمْ، وَأَنَا أُلِيْنُ لَهُمْ ليُحِبُّونِي وَيُطِيْعُونِي.
وحَكَى الأعْسَم أَنَّ عَلِيَّ بنَ الجَهْمِ دَخَلَ عَلَى المُتَوَكِّلِ، وَبِيَدِهِ دُرَّتَانِ يُقَلِّبُهُمَا، فَأَنْشَدَهُ قَصِيْدَةً لَهُ، فَدَحَا إِلَيْهِ بِالوَاحِدَةِ فَقَلَّبْتُهَا، فَقَالَ: تَسْتَنْقِصُ بِهَا? هِيَ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْ مائَةِ أَلْفٍ. فَقُلْتُ: لاَ وَاللهِ, لَكِنِّي فَكَّرْتُ فِي أبيات آخذ بها الأخرى. وأنشأت أقول:
بِسُرَّ مَنْ رَأَى إِمَامٌ عَدْلٌ ... تَغْرِفُ مِنْ بَحْرِهِ البِحَارُ
يُرْجَى وَيُخْشَى لِكُلِّ خَطْبٍ ... كَأَنَّهُ جَنَّةٌ وَنَارُ
المُلْكُ فِيْهِ وَفِي بَنِيْهِ ... مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
لَمْ تَأَتِ مِنْهُ اليَمِيْنُ شيئا ... إلا أتت مثلها اليسار
فَدَحَا بِهَا إِلَيَّ، وَقَالَ: خُذْهَا, لاَ بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيْهَا.
قَالَ الخَطِيْبُ: وَرُوِيَتْ هَذِهِ للبُحْتُرِيِّ فِي المُتَوَكِّلِ.
وَعَنْ مَرْوَانَ بنِ أَبِي الجَنُوْبِ أَنَّهُ مَدَحَ المُتَوَكِّلَ بِقَصِيْدَةٍ، فَوَصَلَهُ بِمائَةٍ وَعِشْرِيْنَ أَلْفاً وثِيَابٍ.
قَالَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ: كَانَ المُتَوَكِّلُ مَشْغُوْفاً بِقَبِيْحَةَ لاَ يَصْبِرُ عَنْهَا. فَوَقَفَتْ لَهُ وَقَدْ كَتَبَتْ عَلَى خَدِّهَا بِالغَالِيَةِ: "جَعْفَرٌ"، فَتَأَمَّلَهَا, ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُوْلُ:
وَكَاتِبَةٍ بِالمِسْكِ فِي الخَدِّ جَعْفَراً ... بِنَفْسِي مَحَطُّ المِسْكِ مِنْ حَيْثُ أَثَّرَا
لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْراً مِنَ المِسْكِ خَدَّهَا ... لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الحُبِّ أَسْطُرَا
وفِي أَوَّلِ خِلاَفَتِهِ كَانَتِ الزَلْزَلَةُ بِدِمَشْقَ, سَقَطَ شُرُفَاتُ الجَامِعِ، وَانْصَدَعَ حَائِطُ المِحْرَابِ، وَهَلَكَ خَلْقٌ تحت الردم, دامت ثلاث سَاعَاتٍ، وَهَرَبَ النَّاسُ إِلَى المُصَلَّى يَسْتَغِيْثُونَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ فِي "تَارِيْخِهِ": وَمَاتَ تَحْتَ الهَدْمِ مُعْظَمُ أَهْلِهَا, كَذَا قَالَ، وَامْتَدَتْ إِلَى الجَزِيْرَةِ، وَهَلَكَ بِالمَوْصِلِ خَمْسُوْنَ أَلْفاً، وَبِأَنْطَاكِيَةَ عِشْرُوْنَ ألفًا، وبلي ابن أبي دؤاد بِالفَالِجِ.
وَفِي سَنَةِ 234: أَظْهَرَ المُتَوَكِّلُ السُّنَّةَ، وَزَجَرَ عَنِ القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الأَمْصَارِ، وَاسْتَقْدَمَ المُحَدِّثِيْنَ إِلَى سَامَرَّاءَ، وَأَجْزَلَ صِلاَتِهِمْ، وَرَوَوْا أَحَادِيْثَ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ، وَنَزَعَ الطَّاعَةَ مُحَمَّدُ بنُ البُعَيْثِ نَائِبُ أَذْرَبِيْجَانَ وَأَرْمِيْنِيَةَ، فَسَارَ لِحَرْبِهِ بُغَا الشَّرَابِيُّ, ثُمَّ بَعْدَ فُصُوْلٍ أُسِرَ.
وَفِي سَنَةِ 235: أَلْزَمَ المُتَوَكِّلُ النَّصَارَى بِلُبْسِ العَسَلِي.
وَفِي سَنَةِ سِتٍّ: أَحْضَرَ القُضَاةَ مِنَ البُلْدَانِ لِيَعْقِدَ بِوِلاَيَةِ العَهْدِ لبَنِيْهِ: المُنْتَصِرِ مُحَمَّدٍ, ثُمَّ لِلْمُعْتَزِّ, ثُمَّ لِلْمُؤيَّدِ إِبْرَاهِيْمَ. وَكَانَتِ الوَقْعَةُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ والروم، ونصر الله.
وفِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلاَثِيْنَ: هَدَمَ المُتَوَكِّلُ قَبْرَ الحُسَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ البَسَّامِيُّ أَبْيَاتاً منها:

أسفوا على أن لا يَكُوْنُوا شَارَكُوا ... فِي قَتْلِهِ فَتَتَّبعُوهُ رَمِيْمَا
وَكَانَ المُتَوَكِّلُ فِيْهِ نَصْبٌ وَانْحِرَافٌ فَهَدَم هَذَا المَكَانَ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الدُّوْرِ، وَأَمَرَ أَنْ يُزْرَعَ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ انْتِيَابِهِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: هَكَذَا قَالَهُ أَرْبَابُ التَّوَارِيْخِ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ قَتَلَتِ الأُمَرَاءُ عَامِلَ أَرْمِيْنِيَةَ يُوْسُفَ، فَسَارَ لِحَرْبِهِم بُغَا الكَبِيْرُ، فَالتَقَوا، وَبَلَغَتِ المَقْتَلَةُ ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً. وَعَفَّى قَبْرَ الشَّهِيْدِ الحُسَيْنِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الدُّوْرِ. فَكَتَبَ النَّاسُ شُتَمَ المُتَوَكِّلِ عَلَى الحِيْطَانِ، وَهَجَتْهُ الشُّعَرَاءُ كَدِعْبِلٍ وَغَيْرِهِ, وَبَعَثَ المُتَوَكِّلُ إِلَى نَائِبِهِ بِمِصْرَ، فَحَلَقَ لِحْيَةَ قَاضِي القُضَاةِ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي اللَّيْثِ, وضَرَبَهُ، وَطَوَّفَ بِهِ عَلَى حمار في رمضان، وسجن، وكان ظلومًا جَهْمِيّاً ثُمَّ وَلِيَ القَضَاءَ الحَارِثُ بنُ مِسْكِيْنٍ، فَكَانَ يَضْرِبُهُ كُلَّ حِيْنٍ عِشْرِيْنَ سَوْطاً ليُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّا للهِ.
وَغَضِبَ المُتَوَكِّلُ على أحمد بن أبي دؤاد، وَصَادَرَهُ، وَسَجَنَ أَصْحَابَهُ، وَحُمِّلَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَافْتَقَرَ هُوَ وَآلُهُ. وَولَّى يَحْيَى بنَ أَكْثَمَ القَضَاءَ، وَأَطْلَقَ مَنْ تَبَقَّى فِي الاعْتِقَالِ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنَ القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، وَأُنْزِلَتْ عِظَامُ أَحْمَدَ بنِ نَصْرٍ الشَّهِيْدِ، وَدَفَنَهَا أَقَارِبُهُ، وَبنَى قَصَرَ العَرُوْسِ بِسَامَرَّاءَ، وَأُنْفِقَ عَلَيْهِ ثَلاَثُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَالْتَمَسَ المُتَوَكِّلُ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَذَهَبَ إِلَى سَامَرَّاءَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ, اسْتَعْفَى، فَأَعْفَاهُ، وَدَخَلَ عَلَى وَلَدِهِ المُعْتَزِّ، فَدَعَا لَهُ.
وفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاَثِيْنَ, عَصَى مُتَوَلِّي تَفْلِيْسَ، فَنَازَلهَا بُغَا، وَقَتَلَ مُتَوَلِّيْهَا، وَأَحْرَقَهَا، وَفَعَلَ القَبَائِحَ، وَافْتَتَحَ عِدَّةَ حصون.
وأقبلت الروم في ثلاثمائة مركب، فكبسوا دمياط، وسبوا ستمائة امْرَأَةٍ، وَأَحْرَقُوا، وَرَدُّوا مُسْرِعِيْنَ، فَحَصَّنَهَا المُتَوَكِّلُ.
وَفِي سَنَةِ 239 غَزَا يَحْيَى بنُ عَلِيٍّ الأَرْمَنِيُّ بِلاَدَ الروم حتى قرب من القُسْطَنْطِيْنِيَّة، وَأَحْرَقَ أَلْفَ قَرْيَةٍ، وَسَبَى عِشْرِيْنَ ألْفاً، وَقَتَلَ نَحْوَ العَشْرَةِ آلاَفٍ، وَعُزِلَ يَحْيَى بنُ أَكْثَمَ مِنَ القَضَاءِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَرْبَعَةُ آلاَفِ جَرِيْبٍ، وَمَائةُ أَلْفِ دِيْنَارٍ.
وَفِي سَنَةِ أَرْبَعِيْنَ فِيْهَا سَمِعَ أَهْلُ خَلاَطٍ صَيحَةً مِنَ السَّمَاءِ مَاتَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيْرَةٌ.
وَفِي سَنَةِ 241: مَاجَتِ النُّجُوْمُ، وَتنَاثَرَتْ شِبْهَ الجَرَادِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً مُزْعِجَةً.
وَفِيْهَا خَرَجَ مَلِكُ البُجَاةِ، وَسَارَ المِصْرِيُّونَ لِحَرْبِهِ، فَحَمَلُوا عَلَى البُجَاةِ، فَنَفَرَتْ جِمَالُهُم، وَكَانُوا يقَاتِلُونَ, ثُمَّ تَمَزَّقُوا، وَقُتِلَ خَلْقٌ، وَجَاءَ مَلِكُهُمْ بِأَمَانٍ إِلَى المُتَوَكِّلِ، وَهُمْ يَعْبُدُوْنَ الأصنام.

وَفِي سَنَةِ 242: الزَلْزَلَةُ بِقُومِسَ، وَالدَّامَغَانِ، وَالرَّيِّ، وَطَبَرِسْتَانَ، وَنَيْسَأبيرَ، وَأَصْبَهَانَ، وَهَلَكَ مِنْهَا بِضْعَةٌ وَأَرْبَعُوْنَ أَلْفاً، وانهد نصف مدينة الدامغان.
وفي سنة 244: نفى المتوكل طبيبه يختيشوع. وَاتَّفَقَ عِيْدُ النَّحْرِ وَعِيْدُ النَّصَارَى وَعِيْدُ الفَطِيْرِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَفِي سَنَةِ 245: عَمَّتِ الزَلْزَلَةُ الدُّنْيَا، وَمَاتَ مِنْهَا خَلاَئِقُ. وَبنَى المُتَوَكِّلُ المَاحُوْزَةَ، وَسَمَّاهَا الجَعْفَرِيَّ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا بَعْدَ مُعَاوَنَةِ الجَيْشِ لَهُ أَلْفَي أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا، وَفِيْهَا وَقَعَ بِنَاحِيَةِ بَلْخَ مَطَرٌ كَالدَّمِ العَبِيْطِ.
وَكَانَ المُتَوَكِّلُ جَوَاداً مُمَدَّحاً لَعَّاباً، وَأَرَادَ أَنْ يَعْزِلَ مِنَ العَهْدِ المُنْتَصِرَ، وَيُقدِّمَ عَلَيْهِ المُعْتَزَّ لِحُبِّهِ أُمَّهُ قَبِيْحَةَ، فَأَبَى المُنْتَصِرُ، فَغَضِبَ أبيهُ، وَتَهَدَّدَهُ، وَأَغْرَى بِهِ، وَانْحَرَفَتِ الأَتْرَاكُ عَلَى المُتَوَكِّلِ لمُصَادَرَتِهِ وَصِيْفاً وَبُغَا حَتَّى اغْتَالُوهُ.
قَالَ المُبَرِّدُ: قَالَ المُتَوَكِّلُ لِعَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الرِّضَا: مَا يَقُوْلُ وَلَدُ أَبِيْكَ فِي العَبَّاسِ? قَالَ: مَا تَقُوْلُ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ فِي رَجُلٍ فَرَضَ اللهُ طَاعَتَهُ عَلَى نَبِيِّهِ، وَذَكَرَ حِكَايَةً طَوِيْلَةً، وَبَكَى المُتَوَكِّلُ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الحَسَنِ, لَيَّنْتَ مِنَّا قُلُوْباً قَاسِيَةً, أَعَلَيْكَ دَيْنٌ? قَالَ: نَعَمْ, أَرْبَعَةُ آلاَفِ دِيْنَارٍ فَأَمَرَ لَهُ بِهَا.
حَكَى المَسْعُوْدِيُّ أَنَّ بُغَا الصَّغِيْرَ دَعَا بِبِاغِرَ التركي، فكلمه، وقال: قَدْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّ المُنْتَصِرَ عَامِلٌ عَلَى قَتْلِي، فَاقْتُلْهُ. قَالَ: كَيْفَ بِقَتْلِهِ وَالمُتَوَكِّلُ بَاقٍ? إِذاً يُقَيِّدُكُمْ بِهِ, قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ? قَالَ: نَبْدَأُ بِهِ, قَالَ: وَيْحَكَ وَتَفْعَلُ?! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَادْخُلْ عَلَى أَثَرِي، فَإِنْ قَتَلْتُهُ، وَإِلاَّ فَاقْتُلْنِي، وَقُلْ: أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ مَوْلاَهُ. فَتَمَّ التَّدْبِيْرُ، وَقُتِلَ المُتَوَكِّلُ.
وَحَدَّثَ البُحْتُرِيُّ قَالَ: اجْتَمَعْنَا فِي مَجْلِسِ المُتَوَكِّلِ، فَذُكِرَ لَهُ سَيْفٌ هِنْدِيٌّ، فَبَعَثَ إِلَى اليَمَنِ، فَاشْتُرِيَ لَهُ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ، فَأَعْجَبَهُ. وَقَالَ لِلْفَتْحِ: ابْغِنِي غُلاَماً أَدْفَعْ إِلَيْهِ هَذَا السَّيْفَ لاَ يُفَارِقُنِي بِهِ، فَأَقْبَلَ بَاغِرُ، فَقَالَ الفَتْحُ بنُ خَاقَانَ: هَذَا مَوْصُوْفٌ بِالشَّجَاعَةِ وَالبَسَالَةِ فَأَعْطَاهُ السَّيْفَ، وَزَادَ فِي أَرْزَاقِهِ. فَمَا انْتَضَى السَّيْفَ إِلاَّ لَيْلَةً, ضَرَبَهُ بِهِ بَاغِرُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ المُتَوَكِّلِ فِي لَيْلَتِهِ عَجَباً, رَأَيْتُهُ يَذُمٌّ الكِبْرَ وَيتَبَرَّأُ مِنْهُ. ثُمَّ سَجَدَ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ وَنَثَرَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَتَطَيَّرْتُ لَهُ, ثُمَّ جَلَسَ، وَعَمِلَ فِيْهِ النَّبِيْذُ، وَغُنِّيَ صَوْتاً أَعْجَبَهُ، فَبَكَى، فَتَطَيَّرْتُ مِنْ بُكَائِهِ. فَإِنَّا فِي ذَلِكَ إِذْ بَعثَتْ لَهُ قَبِيْحَةُ خِلْعَةً اسْتَعْمَلَهَا دِرَاعَةً حَمْرَاءَ من خز
وَمِطْرَفِ خَزٍّ، فَلَبِسَهُمَا, ثُمَّ تَحَرَّكَ فِي المِطْرَفِ، فَانْشَقَّ، فَلَفَّهُ، وَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ ليَكُوْنَ كَفَنِي، فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ, انْقَضَتْ وَاللهِ المُدَّةُ. وَسَكِرَ المُتَوَكِّلُ سُكْراً شَدِيْداً. وَمَضَى مِنَ اللَّيْلِ إِذْ أَقْبَلَ بَاغِرُ فِي عَشْرَةِ مُتَلَثِمِيْنَ تَبْرُقُ أَسْيَافُهُم، فَهَجَمُوا عَلَيْنَا، وَقَصَدُوا المُتَوَكِّلَ، وَصَعِدَ بَاغِرُ وَآخَرُ إِلَى السَّرِيْرِ، فصَاحَ الفَتْحُ: وَيلَكُم مَوْلاَكُمْ. وَتَهَارَبَ الغِلْمَانُ، وَالجُلَسَاءُ، وَالنُّدَمَاءُ، وَبَقِيَ الفَتْحُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَقْوَى نَفساً مِنْهُ بَقِيَ يُمَانِعُهُم، فَسَمِعْتُ صَيْحَةَ المُتَوَكِّلِ إِذْ ضَرَبَهُ بَاغِرُ بِالسَّيْفِ المَذْكُوْرِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَدَّهُ إِلَى خَاصِرَتِهِ، وَبَعَجَ آخَرُ الفَتْحَ بِسَيْفِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ ظَهْرِهِ، وَهُوَ صَابِرٌ لا يزول, ثم طرح نَفْسَهُ عَلَى المُتَوَكِّلِ، فَمَاتَا فَلُفَّا، فِي بِسَاطٍ ثُمَّ دُفِنَا مَعاً، وَكَانَ بُغَا الصَّغِيْرُ اسْتَوْحَشَ مِنَ المُتَوَكِّلِ لِكَلاَمٍ، وَكَانَ المُنْتَصِرُ يَتَأَلَّفُ الأَتْرَاكَ لاَ سِيِّمَا مَنْ يُبْعِدُهُ أبيهُ.
قَالَ المَسْعُوْدِيُّ: وَنُقِلَ فِي مَقْتَلِهِ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ أَنْفَقَ المُتَوَكِّلُ، فِيْمَا قِيْلَ عَلَى الجَوْسَقِ، وَالجَعْفَرِيِّ وَالهَارُوْنِيِّ أَكْثَرَ مِنْ مَائَتَي أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلاَفِ سُرِّيَّةٍ وَطِئَ الجَمِيْعَ. وَقُتِلَ وَفِي بَيْتِ المَالِ أَرْبَعَةُ آلاَفِ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَسَبْعَةُ آلاَفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ولا يعلم أحد من رءوس الجِدِّ، وَالهَزْلِ إِلاَّ وَقَدْ حَظِيَ بِدَوْلَتِهِ، وَاسْتَغْنَى، وَقَدْ أَجَازَ الحُسَيْنَ بنَ الضَّحَّاكِ الخَلِيْعَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِيْنَارٍ. وَفِيْهِ يَقُوْلُ يَزِيْدُ بنُ مُحَمَّدٍ المُهَلَّبِيُّ:
جَاءتْ مَنِيَّتُهُ وَالعَيْنُ هَاجِعَةٌ ... هَلاَّ أَتَتْهُ المنَايَا وَالقَنَا قُصُدُ
خَلِيْفَةٌ لَمْ يَنَلْ مِنْ مَالِهِ أَحَدٌ ... وَلَمْ يُصَغْ مِثْلُهُ رُوْحٌ وَلاَ جَسَدُ
قَالَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ: أَهْدَى ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى المُتَوَكِّلِ وَصَائِفَ عِدَةً، فِيْهَا مَحْبُوبَةُ، وَكَانَتْ شَاعِرَةً عَالِمَةً بِصُنُوْفٍ مِنَ العِلْمِ عَوَّادَةً، فَحَلَّتْ مِنَ المُتَوَكِّلِ مَحَلاًّ يَفُوتُ الوَصْفَ، فَلَمَّا قُتِلَ ضُمَّتْ إِلَى بُغَا الكَبِيْرِ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ يَوْماً لِلْمُنَادَمَةِ، فَأَمَرَ بِهَتْكِ السِّتْرِ، وَأَمَرَ القِيَانَ، فَأَقْبَلْنَ يَرْفُلْنَ فِي الحُلِيِّ وَالحُلَلِ، وَأَقْبَلَتْ هِيَ فِي ثِيَابٍ بِيْضٍ، فَجَلَسَتْ مُنْكَسِرَةً، فَقَالَ: غَنِّي. فَاعْتَلَّتْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بالعود فوضع في حجرها، فغنت ارتجالا:
أَيُّ عَيْشٍ يَلَذُّ لِي ... لاَ أَرَى فِيْهِ جَعْفَرَا
مَلِكٌ قَدْ رَأَيْتُهُ ... فِي نَجِيْعٍ مُعَفَّرَا
كُلُّ مَنْ كَانَ ذَا خَبَا ... لٍ وَسُقْمٍ فَقَدْ بَرَا
غَيْرَ مَحْبُوْبَةَ الَّتِي ... لَوْ تَرَى المَوْتَ يُشْتَرَى
لاشْتَرَتْهُ بِمَا حَوَتْـ ... ـهُ يَدَاهَا لِتُقْبَرَا
فَغَضِبَ بُغَا، وَأَمَرَ بِسَحْبِهَا، وَكَانَ آخِرَ العَهْدِ بِهَا.
وَبُوْيِعَ المُنْتَصِرُ مِنَ الغَدِ بِالقَصْرِ الجَعْفَرِيِّ يَوْمَ خَامِسِ شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَقِيْلَ: لَمْ يَصُّح عَنْهُ النَّصْبُ، وَقَدْ بَكَى مِنْ وَعْظِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيِّ العَلَوِيِّ، وَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِيْنَارٍ، فَاللهُ أَعْلَمُ.
لِلْمُتَوَكِّلِ مِنَ البَنِيْنَ: المُنْتَصِرُ مُحَمَّدٌ، وَمُوْسَى، وَأُمُّهُمَا حَبَشِيَّةُ، وَأبي عَبْدِ اللهِ المُعْتَزُّ، وَإِسْمَاعِيْلُ، وَأُمُّهُمَا قَبِيْحَةٌ، وَالمُؤَيَّدُ إِبْرَاهِيْمُ، وَأَحْمَدُ وَهُوَ المُعْتَمِدُ، وَأبي الحُمَيْدِ، وَأبي بَكْرٍ، وَآخَرُوْنَ.
وَقَدْ مَاتَتْ أُمُّهُ شُجَاعٌ قَبْلَهُ بِسَنَةٍ، وَخلَّفَتْ أَمْوَالاً لاَ تُحْصَرُ, مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ آلاَفِ أَلْفِ دِيْنَارٍ مِنَ العين وحده.

سير أعلام النبلاء: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن  قايمازالذهبي

 

- المتوكل على الله
أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المدي، وأمه تركية واسمها شجاع، بويع له لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة 247 وله إحدى وأربعون سنة، ودفن في القصر الجعفري، وهو قصر ابتناه بسر من رأى. وقال الدولابي في تاريخه: أنه دفن هو والفتح بن خاقان وزيره ولم يصل عليهما، فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام.
وقتل المتوكل محمد ولده المنتصر بالله بسرمن رأى وهو على خلوة مع وزيره، فابتدره باغر التركي بسيف، فقام وزيره الفتح بن خاقان في وجهه ووجوه القوم، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطعوهما حتى اختلطت لحومهما فدفنا معا، على ما قيل. وكان السبب في قتله على ماحكي أنه قدم المعتز على المنتصر، والمنتصر أسن منه، وكان يتوعده وسبه ويسب أمه ويأمر الذين يحضرون مجلسه من أهل السخف بسبه، فسعى في قتله ووجد الفرصة في تلك الليلة. وكان من الاتفاق العجيب أن المتوكل كان قد أهدي له سيف قاطع لا يكون مثله، فعرض على جميع حاشيته وكل يتمناه فقال المتوكل: لا يصلح هذا السيف إلا لساعد باغر، ووهبه له دون غيرة، فاتفق أنه أول داخل عليه فضربه به فقطع حبل عاتقه وكان ما ذكرنا من أمره.
وحكى علي بن يحيى بن المنجم قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتب الملاحم فوقف على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقفت عن قراءته فقال: ما لك فقلت: خير، قال: لا بد أن تقرأه فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء فقال: ليت شعري من هذا الشقي المقتول وكان مربوعاً أسمر خفيف شعر العارضين، رفع المحنة في الدين، وأخرج أحمد بن حنبل كما ذكرنا من الحبس وخلع عليه.
وكان بالدينور شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ويدرسون عنده، يقال له بشر الجعاب، فرفع صاحب الخبر بالدينور إلى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضره جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض ويسبون الصحابة ويشتمون السلف، فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا والفرقة التي تجالسه، فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه - وكان صديقا لبشر الجعاب حسن المصافاة له شديد الإشفاق عليه - همه ذلك وسق عليه فاستدعى بشرا واقرأه ما كوتب به في أمره وأمر أصحابه، فقال له بشر: عندي في هذا رأي إن استعملته كنت غير مستبطإ فيما أمرت به وكنت بمنجاة مما أنت خائف علي منه، قال: وما هو قال: بالدينور شيخ خفاف اسمه بشر ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فسر العامل بقوله وهمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه ووصل الباء بما صارت به فاء؛ فكان أخبره عن بشر الخفاف أنه أبله في غاية البله والغفلة وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة، وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون من الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها ما طلوه بدينه ولووه بحقه واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها، وافوا بشرا هذا واعتذروا إليه وخدعوه وابتدروا يعدونه الوفاء ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة، ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستلم إليهم ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة وحملوه على ما تقدم من السنة ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلعة في وقت حاجتهم ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته؛ فانفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقدم الخفاف أمام القوم والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة ساكناً إلى أنه من ركاكته وفهاهته بما يضحك الحاضرين ويحسم الاشتغال بالبحث عن هذه القصة، ويتخلص من هذه الثلاثة؛ فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم، فأمر أن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلق بينه وبينهم سلبية ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك، وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين، فقدموا إليه يقدمهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر فقال له: أنت بشر الخفاف فقال: نعم، فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة وإتمام هذه المدالسة وجواز هذه المغالطة، فقال له: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أرمكم شيء أنكره فأمر بالكشف عنه وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع اليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئاً، قال: قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم، فقال: ما تقول في السلف فقال: لعن الله السلف، فقال له عبيد الله: ويلك أتدري ما تقول قال: نعم لعن الله السلف، فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد الله: يقول لك أمير المؤمنين: سله الثالثة فإن أقام على هذا فاضرب عنقه، فقل له: إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف فقال: لعن الله السلف، قد خرب بيتي وأبطل معيشتي وأتلف مالي وأفقرني وأهلك عيالي، قال: وكيف قال: أنا رجل أسلف الأكرة وأهل الدستان الخفاف والتمسكات على أن يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم، فأصير اليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فغذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي وامتنعوا من توفيتي مالي، ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلية ويحلفون بالله لا يعاودون مطلي وظلمي، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر مالي فقد اختلت حالي وافتقرت عيالي؛ قال: فسمع ضحك عال من وراء السبيبة، وخرج الخادم فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين: هؤلاء قوم مجان محتالون وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم، فلما أمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم فينبغي أن نتولى الكلام نحن ونسلك طريق الجد والديانة، فرجعوا فأمروا بالجلوس، ثم أقبل عبيد الله على القوم فقال: إن الذي كتب في أمركم ليس ممن تقدم على الكتب بما لا يقبله علما ويحيط [به] خبراً وقد أخذ أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم، فقالوا: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: علي بن أبي طالب، فقال الخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا، فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد فقال: يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي، فقلنا: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين في دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: رحمة الله على ابي بكر نقول فيه خيراً، قال: فما تقولون في عمر قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه، قال: ولم قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، قال: فسمعنا من وراء السبيبة ضحكاً أعلى من الضحك الأول ثم أتى الخادم فقال لعبيد الله عن المتوكل: أتبعهم صلة فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنى وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج، وانصرفوا.
وذكر أبو عبد الله حمدون قال: قال لي الحسين بن الضحاك: ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي إياه ثم ضربني الأمين لمماثلتي ابنه عبد الله ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد ثم ضربني المعتصم لمودة كانت بيني وبين العباس بن المأمون ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل، وكل ذلك يجري مجرى الولع

والتحذير لي، ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعا أن يولع بي، فتغاضب المتوكل علي، فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر ضرب ضربته كان بسببك، فضحك وقال: بل أصونك وأكرمك.
وقال المتوكل يوما لمن حضره: ما أرى أحسن من وصيف الصغير، يعني خادمه، فجعل كل يصفه غير بغا الكبير فال: يا بغا ما سكوتك اما تحب وصيفا قال: لا، قال: ولم قال: لأني أحب من يحبك ولا أحب من يحبه.
ودخل أبو العيناء على المتوكل فقال له: بلغني عنك بذاء، قال: إن يكن البذاء صفة المحسن بإحسانه والميء بإساءته فقد مدح الله وذم قال نعم العبد إنه أواب وقال عز وجل هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم فذمه حتى قذفه، وأما أن أكون كالعقرب التي تسلع النبي والذمي (1) بطبع لا يميز فقد أعاذ الله عبدك من ذلك، وقد قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الشر والخير باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما ولما أسلم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الملك (2) الأصبهاني ليؤدي ما عليه من الأموال عاقبه فتلف في مطالبته، فحضر يوماً عند المتوكل فقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة قال: ما قال الله فوكزه موسى فقضي عليه، فاتصل ذلك بموسى فلقي الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال: أيها الوزير أردت قتلي فلم تجد لذلك سبيلاً إلا بإدخال أبي العيناء إلى أمير المؤمنين وعداوته لي، فعاتب عبيد الله أبا العيناء في ذلك فقال: والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سيرته لك، فأمسك عنه. ثم دخل بعد ذلك أبو العيناء على المتوكل فقال: كيف كنت بعدي فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك وشرها غيبتك، فقال: قد والله استقتك، قال إنما يشتاق العبد لأنه يتعذر عليه لقاء مولاه وأما السيد فمتى أراد عبيده دعاه، فقال له المتوكل: من أسخى من رأيت قال: ابن أبي دواد، قال المتوكل: تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين على موضع من المواضع أنفق منه على مجلسك وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود لأن سخاء البرامكة منسوب إلى الرشد، وسخاء الفضل والحسن بن سهل منسوب إلى المأمون، وجود اب أبي دواد (1) منسوب إلى المعتصم، وإذا نسب الفتح وعبيد الله (2) إلى السخاء فذاك سخاؤك ياأمير المؤمنين، قال: صدقت فمن أبخل من رأيت قال: موسى بن عبد الملك، قال: وما رأيت من بخله قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم الغريب، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة، فقال له: قد وقعت فيه عندي وقعتين وما أحب ذلك، فالقه واعتذر إليه ولا يعلم أني وجهت بك، قال: يا أمير المؤمنين من يسكته بحضرة ألف قال: لن تخاف على الاحتراس من الخوف، فسار إلى موسى واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، وافترقا إلى صلح، فلقيه بالجعفري فقال: يا أبا عبد الله قد اصطلحنا فمالك لا تأتينا قال أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ما أرانا إلا كما كنا أولاً.
وكان المتوكل قد غضب على عبادة ونفاه إلى الموصل وكان عبادة من أطيب الناس وأخفهم روحا وأحضرهم نادرة، وكان أبوه من طباخي المأمون وكان معه، فخرج حاذقا بالطبيخ ثم مات أبوه ونحب. حكى أبو حازم الفقيه، وقد جرى ذكر عبادة، قال: ما كان أطرفه، قيل: وكيف قال: لما حصل بالموصل تبعه غرماؤه وطلبوه وقدموه إلى علي بن إبراهيم العمري وهو قاضي الموصل فحلف لواحد ثم لآخر ثم لآخر، فقال له علي بن إبراهيم: ويحك ترى هؤلاء كلهم قد اجتمعوا على ظلمك فاتق الله وارجع إلى نفسك، فإن كانت عسرة بإزائها نظرة، فقال: صدقت فديتك ليس كلهم ادعى الكذب ولا كلهم ادعى الصدق، ولكني دفعت بالله ما لا أطيق. وقيل له وقد مات زوج أخته: ما ورثت أختك من زوجها قال: أربعة أشهر وعشراً.
وحكى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر من خراسان هدية جليلة فيها جوار فيهن جارية يقال لها محبوبة قد نشأت بالطائف وبرعت في الأدب وأجادت قول الشعر وحذقت الغناء وقربت من قلب المتوكل وغلبت عليه فكانت لا تفارق مجلسه، فوجد عليها مرة فهجرها أياما، وبكرت عليه فقال: يا علي قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال رأيت الليلة في منامي كأني رضيت عن محبوبة وصالحتها وصالحتني، قلت: خيراً يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وسرك، إنما هي عبدتك والرضى والسخط بيدك، فو الله أنا لفي ذلك إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال: قم بنا يا علي ننظر ما تصنع، فنهضنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب العود وتغني:
أدور في القصر لا أرى أحداً ... أشكو إليه ولا يكلمني
كأنني قد أتيت معصيةً ... ليس لها توبة تخلصني
فهل شفيع لنا إلى ملكٍ ... قد زارني في الكرى وصالحني
حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني قال: فصاح أمير المؤمنين وصحت معه، فسمعت فتلقته وأكبت على قدميه تقبلهما، فقال: ما هذا قالت: يا مولاي رأيت في ليلتي كأنك رضيت عني فتعللت بما سمعت، قال: وأنا والله رأيت مثل ذلك، فقال لي: يا علي رأيت أعجب من هذا كيف اتفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنا فيه ودعا بالجلساء والمغنين واصطبح وما زالت تغنيه الأبيات يومه ذلك؛ قال: وزادت حظوة عنده حتى كان من أمره ما كان، فتفرق جواريه وصارت محبوبة إلى وصيف الكبير فما زالت حزينة باكية، فدعاها يوما وأمرها أن تغني فاستعفته وجيء بعود فوضع في حجرها فغنت.
أي عيش يلذ لي ... لا أرى فيه جعفرا كل من كان في ضنى وسقام فقد برا ...
غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشترى
لاشترته بما حوته ... يداها لتقبرا ولبست السواد والصوف وما زالت تبكيه وترثيه حتى ماتت، رحمها الله تعالى.

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لأبو العباس شمس الدين أحمد ابن خلكان البرمكي الإربلي.

 

جعفر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسى ، بويع بعد موت أخيه الواثق، و استمر إلى أن قتل بإذن ولده المنتصر ليلة الأربعاء رابع شوال سنة سبع و أربعين و مائتين. و كانت مدته أربع عشر سنة و تسعة أشهر و ثمانية أيام، و عهد إلى أولاده: المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد، و لم يعهد إلى باقى أولاده؛ و هما المعتمد و الموفق، فصار الأمر إلى ولد الموفق فى تمام الدولة العباسية، على خلاف ما أراده، و مراد اللّه هو الغالب.

و من مفرداته أن سلم عليه بالخلافة ثمانية كل‏واحد منهم أبوه خليفة، و هم: المنصور بن المهدى عم أبيه، و العباس بن الهادى بن عم أبيه، و أبو أحمد بن الرشيد عمه، و عبد اللّه بن الأمين ابن عمه، و موسى بن المأمون ابن عمه، و أبو أحمد بن المعتصم أخوه، و محمد بن الواثق بن أخيه، و ابنه المنتصر محمد بن المتوكل.

(قتل فى ليلة الأربعاء ثالث أو رابع شوال سنة ٢٤٧ هـ فى القصر الجعفرى و دفن به هو و وزيره الفتح).

- الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء/ علي بن عبد القادر الطبري -.

 

تتمات...

وكان سبب البيعة إنه لما توفي الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دواد وايتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك الزيات وعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق؛ فأحضره وهو غلام أمرد قصير، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله تولون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة يعني لصغره -. فتناظروا فيمن يولونها، فذكر أحمد بن أبي دواد جعفراً أخا الواثق، فأحضره، فقام أحمد فألبسه الطويلة وعممه وقبله بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ وأراد ابن الزيات أن يلقبه المنتصر فقال أحمد بن أبي دواد: قد رأيت لقباً أرجو أن يكون موافقاً وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه وكتب به إلى الآفاق؛ وقيل: بل رأى المتوكل في منامه قبل أن يستخلف كأن سكراً ينزل عليه من السماء مكتوب عليه " المتوكل على الله "، فقصها على أصحابه فقالوا: هي والله الخلافة، فبلغ ذلك الواثق فحبسه، وضيق عليه ويقال إنه كان يغلو في بغض علي، رضوان الله عليه.

واصطبح المتوكل يوماً فأمر بإحضار الحسين الخليع، وكان قد كبر وضعف، فحمل إليه في محفة حتى وضع بين يديه، فسلم بالخلافة، وعلى رأس المتوكل شفيع يرفل في قراطق ممنطق بمنطقة ذهب وفي يده قهوة حمراء يتلألأ نورها وبين يديه طبقان مرصعان بورد أحمر وأبيض؛ فأمر شفيعاً أن يناول الحسين رطلاً ويحييه بوردة ويلاعبه، فناوله شفيع رطلاً فشربه، ثم حياه بوردة وقرص يده فقال:
وكالوردة الحمراء حيا بأحمر ... من الورد يسعى في قراطق كالورد
له عبثات عند كل تحيةٍ ... بعينيه تستدعي الخلي إلى الوجد
سقى الله دهراً لم [أبت] فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد فضحك المتوكل وطرب وقال: أحسنت والله يا حسين، سل ما شئت، فقال: يأذن أمير المؤمنين في الانصراف، قال: حدثني بحديث في الورد يكون مختصراً، قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ بلغني أن الورد فيما مضى من سالف الدهر كان كله أبيض، وأن قضيبي ورد تعاشقا، فغمز أحدهما صاحبه فأحمر المغموز خجلاً، فمنه حمرة الورد إلى هذه الغاية؛ فضحك المتوكل حتى استلقى، وأمر بحمله إلى منزله، وحملت معه أربعة آلاف دينار.
ورمى المتوكل عصفوراً فأخطأه، فقال ابن حمدون: أحسنت يا أمير المؤمنين، قال: أتهزأ بي كيف أحسنت قال: إلى العصفور يا مولاي، قال: لقد دققت النظر.
وقال المتوكل لزنام الزامر: تأهب للخروج معي إلى دمشق، فقال: يا أمير المؤمنين، الناي في كمي والريح في فمي.
قال عبد الأعلى بن عباد النرسي: دخلت على المتوكل فقربني وألزمني وقال: قد كنا هممنا لك بمعروف فتدافعت الأيام، فقلت: أحسن الله جزاء أمير المؤمنين على حسن نيته وكرم طويته، أفلا أنشدتك لبعض الشعراء شيئاً في مثل هذا قال: بلى، فأنشدته:
لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم تمضه قدراً ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف فقال: يا غلام، دواة وقرطاس، فكتبهما بيده.
ورأى الفتح بن خاقان في لحية المتوكل شيئاً، فلم يمسه بيده ولا قال له شيئاً

لكنه نادى يا غلام، مرآة أمير المؤمنين، فجيء بها، فقابل بها وجهه حتى أخذ ذلك الشيء بيده.
ومن عجائب الظفر ما حكاه الصولي أن المتوكل قال: ركبت إلى دار الواثق أزوره في مرضه الذي مات فيه، فدخلت الدار وجلست في الدهليز ليؤذن لي، فسمعت بكاء بنياحة تشعر بموته، فتحسست وإذا ايتاخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران فيّ، فقال محمد: نقتله في التنور، وقال ايتاخ: بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل. فبينا هم كذلك إذ جاء أحمد بن أبي داود وكان القاضي يومئذ فمنعه الخدام الدخول، فدافعهم حتى دخل، فجعل يحدثهما بما لا أعقله لما داخلني من الخوف واشتغال القلب بإعمال الحيلة في الهرب والخلاص مما ائتمر به فيّ. فبينا أنا كذلك، إذ خرج الغلمان يتعادون إليّ ويقولون: انهض يا مولانا، فما شككت أن أدخل وأبايع ولد الواثق وينفذ فيّ ما قد قرر. فدخلت فلقيني أحمد بن أبي دواد، فقبل يدي وأمسكهما إلى أن أتي السرير وقال لي: اصعد إلى المكان الذي أهلك الله له؛ فلما صعدت وجلست سلم عليّ بالخلافة، وجاء محمد بن عبد الملك الزيات وايتاخ فسلما علي أيضاً، ثم دخل القواد فسلموا، ثم الناس على طبقاتهم. فلما انقضت المبايعة بقيت متعجباً مما اتفق مع ما سمعته من كلام الزيات وايتاخ، فسألت عن الحال كيف جرى، فقيل لي: بينا محمد وايتاخ في تقرير ما سمعته، إذ دخل عليهما ابن أبي دواد فسلم ثم قال: أنا رسول المسلمين إليكما وهم يقرءون السلام عليكما ويقولون لكما: قد بلغنا وفاة إمامنا وعند الله نحتسبه، وأنتما المنظور إليكما في هذا الأمر، فمن اخترتما لإمامتنا فقالا: محمداً ابنه، فقال: بخ بخ، ابن أمير المؤمنين إلا أنه صغير لا يصلح للإمامة؛ فمن غيره قالا: فلان وفلان، وعدّا جماعة، إلى أن قالا: وجعفر بن المعتصم، فقال: رضي المسلمون، اصفقا على يدي، فصفقا، ثم أرسل إليّ، فكان ما أرى، قال المتوكل: فبقي ما قاله ابن الزيات وايتاخ في نفسي فقتلتهما بما اعتزما به على قتلي، فقتلت ابن الزيات في التنور وإيتاخ بالماء البارد.
ولما قتل الأتراك المتوكل بمواطأة ابنه المنتصر وأفضى الأمر بعده وبعد المستعين إلى المعتز، لم تزل أمه قبيحة تحرضه على الإيقاع بقتلة أبيه، فكان يمنيها ذلك ويعلم أنه لا يقوى بهم مع شدة شوكتهم، فأبرزت قبيحة يوماً للمعتز قميص المتوكل الذي قتل وضرج بدمه وجعلت تبكي وتحرضه على الطلب بدمه، فقال: يا أمي، أرفعي وإلا صار القميص قميصين؛ فعندها أمسكت ولم تعد.
 

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لأبو العباس شمس الدين أحمد ابن خلكان البرمكي الإربلي

 

 

جعفر (المتوكل على الله) بن محمد (المعتصم باللَّه) بن هارون الرشيد، أبو الفضل:
خليفة عباسي. ولد ببغداد وبويع بعد وفاة أخيه الواثق (سنة 232 هـ وكان جوادا ممدحا محبا للعمران، من آثاره (المتوكلية) ببغداد، أنفق عليها أموالا كثيرة، وسكنها. ولما استخلف كتب إلى أهل بغداد كتابا قرئ على المنبر بترك الجدل في القرآن، وأن الذمة بريئة ممن يقول بخلقه أو غير خلقه.
ونقل مقر الخلافة من بغداد إلى دمشق، فأقام بهذه شهرين، فلم يطب له مناخها، فعاد وأقام في سامراء، إلى أن اغتيل فيها ليلا، بإغراء ابنه (المنتصر) ولبعض الشعراء هجاء في المتوكل لهدمه قبر الحسين وما حوله، سنة 236 هـ وكثرت الزلازل في أيامه فعمر بعض ما خربت. وكان يلبس في زمن الورد الثياب الحمر، ويأمر بالفرش الأحمر، ولا يرى الورد إلا في مجلسه، وكان يقول: أنا ملك السلاطين والورد ملك الرياحين وكل منا أولى بصاحبه! .

-الاعلام للزركلي-