وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ رَابِع عشر الْمحرم سنة أَربع عشر توفّي الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عمر أَبَا هُرْمُز الشبامي بهينن بِلَاد من أَرض حضر موت وهرمز بِضَم الْهَاء وَالْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَآخره زَاي وَهُوَ شيخ الْفَقِيه الصُّوفِي عمر بن عبد الله أَبَا محزمة وَكَانَ كَبِير الشَّأْن وَله أَحْوَال غَرِيبَة وكرامات خارقة رَحمَه الله تَعَالَى آمين
وَحكي أَنه نفع الله بِهِ كَانَ عِنْدَمَا يرد عَلَيْهِ الْحَال يطْلب النِّسَاء الحسان من ذَوَات الْجمال فيغنين بَين يَدَيْهِ ويرقصن فَكَانَ هَذَا دأبه فِي أَكثر الْأَوْقَات وَكَانَ الْفَقِيه عمر أَبَا محزمة على طَريقَة الْفُقَهَاء فَسمع بذلك فقصد الانكار على الشَّيْخ وَمنعه من ذَلِك فسافر من بَلَده إِلَيْهِ بِهَذِهِ النِّيَّة فَلَمَّا وصل إِلَى أثْنَاء الطَّرِيق بدا لَهُ أَن يرجع فَرجع إِلَى بَلَده
ثمَّ سمع عَنهُ أَيْضا أَمْثَال هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي ظَاهرهَا مُخَالفَة الشَّرْع فَمَا أمكنه الصَّبْر عَن ذَلِك فَصَارَ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَدخل عَلَيْهِ فَلَمَّا وَقع بَصَره على الشَّيْخ كاشفه وَقَالَ لَهُ عمر عَاد وقتك مَا جَاءَ فَرجع كَذَلِك إِلَى بَلَده وامتثل وَلم يحصل مِنْهُ انكار على الشَّيْخ لما سبق لَهُ من الْفَتْح على يَدَيْهِ ثمَّ سَار إِلَيْهِ ثَالِثا فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أَمر الشَّيْخ نفع الله بِهِ بعض النِّسَاء الحسان مِمَّن كَانَت ترقص عِنْده ان تعتنقه فَمَا هُوَ إِلَّا أَن فعل بِهِ ذَلِك خر مغشياً عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق تلمذ للشَّيْخ وَحكمه فِي ذَلِك الْوَقْت وَفتح الله عَلَيْهِ ببركة الشَّيْخ وَصَارَ من كبار العارفين المربين
وَقيل أَن الْفَقِيه لما طلب التَّحْكِيم من الشَّيْخ قَالَ لَهُ صلي رَكْعَتَيْنِ إِلَى الشرق فامتثل فَلَمَّا أحرم رأى الْكَعْبَة تجاه وَجهه
وَرُوِيَ عَن الْفَقِيه عمر نفع الله بِهِ أَنه قَالَ وقفت بَين يَدي سَيِّدي وشيخي عبد الرَّحْمَن بن عمر أَبَا هُرْمُز رَضِي الله عَنهُ واسعفني بطلبتي وأجابني إِلَى مَسْأَلَتي عَشِيَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر رَجَب سنة تِسْعمائَة وَثَلَاثَة عشر ووقفت بَين يَدَيْهِ لَيْلَة قبل ذَلِك وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي حكمني وألبسني الْخِرْقَة فَقَالَ أَنْت الْحَاكِم الْمُحكم قلت فألبسني الْخِرْقَة على قَاعِدَة الصُّوفِيَّة فَقَالَ مَا هِيَ قاعدتي أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ قلت أَنا أحب ذَلِك قَالَ أَنا خرقتك وَأَنت نَائِب عني قلت فَلَا تغفل عني فِي أموري فَقَالَ وَالله اني مَعَك فِي صائب وَغير صائب وَإِنِّي لَك مثل روحك وَنحن على سَاق وَاحِدَة وَمرَّة قَالَ لي أَنْت أَنا وَقد أَشَارَ إِلَيّ ذَلِك الْفَقِيه بقوله على لِسَان حَال شَيْخه وَأَنت أَنا والطريقة وَاحِدَة والتمذهاب
ثمَّ قَالَ الْفَقِيه قلت لَهُ لقني شَيْئا من الْأَذْكَار قَالَ قل فِي كل مسَاء سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ مائَة مرّة فَإِنَّهُ لَا يكْتب عَلَيْك ذَنْب وَقل فِي كل مسَاء يَا لطيف مائَة مرّة ثمَّ قل يَا حفيظ مائَة مرّة ثمَّ قل يَا كريم مائَة مرّة ثمَّ قل يَا كريم تكرم علينا بكرمك ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قل يَا لطيف لاطفنا بلطفك ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قل يَا حفيظ احفظنا بحفظك ثَلَاث مَرَّات قلت إِن لي وردا من آيَة الْكُرْسِيّ أقرأها كل يَوْم ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر مرّة قَالَ هَذَا كثير قلت هُوَ سهل عَليّ قَالَ كثير قلت هُوَ سهل عَليّ قَالَ ابق عَلَيْهِ وَقرأَهَا وَقَالَ اقرأها هَكَذَا وَإِذا صمت وداع رَمَضَان فَجعل قرَاءَتهَا سرا بِالْقَلْبِ فَقَط قلت لي ورد من الله لَا اله إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم فَقَط وَهُوَ ألف مرّة قَالَ ابق عَلَيْهِ وَأَن زِدْت فَهُوَ خير لَك وَابْشَرْ فانهم معطوك أَكثر مِمَّا توهم مَا غير مَا يجيبك إِلَّا فِي الْعرض من غير تَأمل قلت فَلَا تغفل عني فَانِي مخلط كثير التَّخْلِيط قَالَ وَالله لَو تلبس المعتب أَن غير عَلَيْك عندنَا شَيْء وَأَنا شيخك فَعَلَيْك بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا شيخك فيهمَا وَفِي عُلُوم تستفاد مِنْهُمَا وَقد أَشَارَ الْفَقِيه إِلَى ذَلِك أَيْضا حَيْثُ قَالَ مُشِيرا إِلَى شَيْخه ... احْمِلُونِي فَتى يَا هلي مخلط ولعاب ...
ثمَّ قَالَ على لِسَان حَال شَيْخه ... ان لَو تلبس المعتب وتسهى وتنساب
لَا وَلَا الرَّد يَا أَبَا محزمة عَنْك ينجاب
أَنْت منا وَنحن مِنْك فِيمَا خطا أَو صاب ...
ثمَّ قَالَ لَهُ شَيْخه اجْعَل على نَفسك وردا من قِرَاءَة الْقُرْآن أما غيبا وَأما نظرا فِي الْمُصحف قلت لَهُ أَدخل أربعينيه قَالَ لَا وأنما أربعينيتك ان تحفظ لسَانك وعينك وأذنك من الْمُحرمَات أَرْبَعِينَ يَوْمًا واما الأربعينية الْمَعْرُوفَة فَلَا تدْخلهَا انْتهى
تَنْبِيه
قلت رُبمَا انه يشكل مَا صدر مِنْهُم فِي مثل ذَلِك على بعض الأغبياء ميل اكثر النَّاس بالطبع إِلَى الْفسق والفجور وَيَنْظُرُونَ إِلَى هَنَات وَقعت من بعض من ينْسب إِلَى الْعلم أَو مَا وَقع لبَعض أهل الله تَعَالَى كأحمد الْغَزالِيّ وَالشَّيْخ الْعَارِف عَليّ وَفَاء وَالشَّيْخ الْعَارِف عبد الرحمان أَبَا هُرْمُز وتلميذه الْفَقِيه عمر أَبَا محزمة وَالشَّيْخ جِبْرَائِيل الهتار وَغَيرهم نفع الله بهم فيظنون أَن الْأَمر سَوَاء وَلَيْسَ كَذَلِك فَمَا كَانَ يَقع من ذَلِك للنَّاس فَهُوَ شقوة فِي حَقهم وَأَكْثَرهم لَا يكترث بِمَا يصدر مِنْهُ من الْعِصْيَان وَلَا ينْدَم على ذَلِك وَمَا كَانَ يَقع مِمَّن ينْسب إِلَى الْعلم فَهُوَ دَعْوَة لَان الْمقَام لَا يعْطى ذَلِك وَهُوَ أَيْضا لَا يرتضي بِهَذِهِ الْحَالة وَإِنَّمَا تكون وَقعت مِنْهُ هفوة كعقوق الْوَالِدين أَو التكبر على خلق الله تعالي وَالنَّظَر إِلَيْهِم بِعَين الاحتقار وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَعُوقِبَ بِمثل ذَلِك وَمَا كَانَ نسب من ذَلِك إِلَى بعض أهل الله فَهُوَ إِنَّمَا هُوَ لصيانتهم أهل الْعِصْيَان وَذَلِكَ لكَمَال شفقتهم على خلق الله تعالي كَمَا هُوَ مَعْلُوم وَقد يكون لله مُرَاد فِي حق شخص معِين مِنْهُم من يُرِيد الله أَن يَنْقُلهُ من تِلْكَ الْحَالة ويرقيه أَلِي مَرَاتِب الْأَوْلِيَاء وَرُبمَا غلب على ذَلِك الْوَلِيّ بعض الْأَحْوَال القوية فخشي على عقله أَن يذهب أَو جِسْمه أَن يتْلف فاراد تَعْدِيل لطافة الْحَال بكثافتهم وَالله أعلم
وَلَا بُد مَا نذْكر نبذة تتَعَلَّق بقطر حَضرمَوْت وَحده وَوجه تَسْمِيَته وأقوال الْعلمَاء فِي ذَلِك وَمَا اخْتصَّ بِهِ من الْعَجَائِب والفضائل خُصُوصا بَلْدَة تريم تيمنا بذكرها وتتميماً للفائدة إِذْ كثير مِمَّن ذكر فِي هَذَا التَّارِيخ مَاتَ بِهَذِهِ الْبَلَد الْمُبَارَكَة وَبَعْضهمْ مَاتَ بغَيْرهَا مثل شبام ودوعان من بِلَاد حَضرمَوْت فَنَقُول حَضرمَوْت بِفَتْح الْحَاء وَالْمِيم وَسُكُون الْمُعْجَمَة بلد بِالْيمن
قيل ان صَالحا لما هلك قومه جَاءَ بِمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ مَاتَ فَقيل حضر موت
وَذكر الْمبرد انه لقب عَامر جد اليمانية كَانَ لَا يحضر حَربًا إِلَّا كثر فِيهِ الْقَتْلَى فَقَالَ عَنهُ من رَآهُ حَضرمَوْت بتحريك الضَّاد ثمَّ كثر ذَلِك فسكن كَذَا ذكره الْحَافِظ السُّيُوطِيّ فِي حَاشِيَته على صَحِيح مُسلم
وَقَالَ الإِمَام أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شراخيل الشبامي الْحَضْرَمِيّ فِي كِتَابه مِفْتَاح السّنة حَضرمَوْت بِلَاد مَشْهُورَة متسعة من بِلَاد الْيمن تجمع اودية كَثِيرَة وَهُوَ بِضَم ميمها وَقد اخْتصَّ بِهَذَا الِاسْم وَادي ابْن رَاشد طوله نَحْو مرحلَتَيْنِ أَو ثَلَاث إِلَى قبر هود عَلَيْهِ السَّلَام وَيُطلق على بِلَاد كَثِيرَة وساحلها الْعين وبروم إِلَى الشّجر ونواحيها ونجدها من جردان ونواحيها إِلَى تريم إِلَى قبر هود عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا وَرَاء ذَلِك بِلَاد مهرَة والأحقاف بِلَاد عَاد جمع حقف هُوَ كثيب الرمل ذكره الواحدي فِي الْبَسِيط فِي تَفْسِير الْأَحْقَاف
قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْأَحْقَاف وَاد بَين عمان ومهرق وَفِي سيرة ابْن هِشَام بِلَاد عَاد بَين حَضرمَوْت وعمان وَقيل الْأَحْقَاف رَملَة الشّعْر وَلَيْسَ بِشَيْء إِلَّا أَن يُرَاد بالرملة مَا وَرَاء جبل الشحر الَّذِي عِنْد ظفار الحبوضي فثم رَملَة مُتَّصِلَة بِطرف عمان وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم أنْتَهى
وَقَالَ الْقزْوِينِي فِي عجائب الْبلدَانِ حضر موت ناحيه بِالْيمن مُشْتَمِلَة على مدينتين يُقَال لأَحَدهمَا شبام وللأخرى تريم وَهِي بِقرب الْبَحْر وشرقي عدن وَأَنَّهَا بِلَاد قديمَة
حكى رجل من اهل حَضرمَوْت قَالَ وجدنَا بهَا فخارا فِيهِ سنبلة حِنْطَة الطّرف مِنْهَا وَزنهَا كَانَت منا وكل حَبَّة مِنْهَا كبيض دجَاجَة وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت شيخ لَهُ خَمْسمِائَة سنة وَله ولد لَهُ أَرْبَعمِائَة سنة وَولد ولد لَهُ ثَلَاثمِائَة سنة فذهبنا إِلَى ابْن الأبن قُلْنَا أَنه اقْربْ إِلَى الْفَهم وَالْعقل فوجدناه مبلداً لَا يعرف الْخَيْر وَالشَّر فَقُلْنَا إِذا كَانَ هَذَا حَال ولد الْوَلَد فَكيف حَال الْأَب وَالْجد فذهبنا إِلَى صَاحب أَرْبَعمِائَة فوجدناه أقرب إِلَى الْفَهم من وَلَده فذهبنا إِلَى صَاحب خَمْسمِائَة سنة فوجدناه سليم الْعقل والفهم فَسَأَلْنَاهُ عَن حَال ولد وَلَده فَقَالَ انه كَانَت لَهُ زَوْجَة سَيِّئَة الْخلق لَا توافقه فِي شَيْء أصلا فأثر فِيهِ ضيق خلقهَا ودوام الْغم بمقاساتها وَأما وَلَدي فَكَانَت لَهُ زَوْجَة توافقه مرّة وتخالفه أُخْرَى وَهَذَا هُوَ أقرب إِلَى الْفَهم مِنْهُ وَأما أَنا فلي زَوْجَة مُوَافقَة فِي جَمِيع الْأَمر مساعدة فَلذَلِك سلم فهمي وعقلي فَسَأَلْنَاهُ عَن السنبلة فَقَالَ هَذَا زرع قوم من الْأُمَم الْمَاضِيَة كَانَت مُلُوكهمْ عادلة وعلماؤهم أُمَنَاء وأغنياؤهم أسخياء وعوامهم منصفة
وَذكر الْقزْوِينِي أَيْضا أَن بهَا الْقصر المشيد الَّذِي ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز بناه رجل يُقَال لَهُ صد بن عَاد وَذَلِكَ أَنه لما رأى مَا نزل بِقوم عَاد من الرّيح الْعَقِيم بنى قصراً لَا يكون للريح عَلَيْهِ سُلْطَان من شدَّة أَحْكَامه وَأَنْتَقِلَ إِلَيْهِ هُوَ وَأَهله وَكَانَ لَهُ الْقُوَّة مَا كَانَ يَأْخُذ الشَّجَرَة بِيَدِهِ فيقلعها بعروقها من الأَرْض وَيَأْكُل من الطَّعَام مَأْكُول عشْرين رجلا من قومه وَكَانَ مغرماً بِالنسَاء تزوج أَكثر من سَبْعمِائة عذراء وَولد لَهُ من كل وَاحِدَة ذكر وَأُنْثَى فَلَمَّا كثر أَوْلَاده طَغى وبغى وَكَانَ يقْعد فِي أعالي قصره مَعَ نِسَائِهِ لَا يمر بِهِ أحد إِلَّا قَتله كَائِنا من كَانَ حَتَّى كثر قتلاه فَأَهْلَكَهُ الله تَعَالَى مَعَ قومه بصيحة من السَّمَاء وَبَقِي الْقصر خرابا لَا يَجْسُر أحد على دُخُوله لِأَنَّهُ ظهر فِيهِ شُجَاع عَظِيم وَكَانَ يسمع من دَاخله أَنِين كأنين المرضى وَقد أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم وَعَن أمثالهم بقوله {فكأين من قَرْيَة أهلكناها وَهِي ظالمة فَهِيَ خاوية على عروشها وبئر معطلة وَقصر مشيد} والبئر المعطلة كَانَت بعدن
ثمَّ ذكر أَن بحضرموت قبر هود النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ كَعْب الْأَحْبَار كنت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خلَافَة عُثْمَان رض = فَإِذا رجل قد رمقه النَّاس لطوله فَقَالَ أَيّكُم أبن عَم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا أَي أبن عَمه قَالَ ذَلِك الَّذِي آمن بِهِ صَغِيرا فاتوا إِلَى عَليّ رض = قَالَ عَليّ مِمَّن الرجل قَالَ من الْيمن من بِلَاد حَضرمَوْت فَقَالَ أتعرف مَوضِع الاراك والسدرة الْحَمْرَاء الَّتِي يقطر من أوراقها مَاء فِي حَمْزَة الدَّم فَقَالَ الرجل كَأَنَّك سَأَلتنِي عَن قبر هود عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ عَليّ عَنهُ سَأَلتك حَدثنِي فَقَالَ مضيت فِي أَيَّام شَبَابِي فِي عدَّة من شباب الْحَيّ نُرِيد قَبره فسرنا إِلَى جبل شامخ فِيهِ كهوف ومعنا رجل عَارِف بقبره حَتَّى دَخَلنَا كهفاً فَإِذا نَحن بحجرين عظيمين قد أطبق أَحدهمَا على الآخر وَبَينهمَا فُرْجَة يدخلهَا رجل نحيف وَكنت أَنا أنحفهم فَدخلت بَين الحجرين فسرت حَتَّى وصلت إِلَى فضاء وَاسع فَإِذا أَنا بسرير عَلَيْهِ ميت وَعَلِيهِ أكفان كَأَنَّهَا الْهوى فمسست بدنه فَكَانَ صلباً وَإِذا هُوَ كَبِير الْعَينَيْنِ مقرون الحاجبين وَاسع الْجَبْهَة أسيل الخد طَوِيل الْحَيَّة وَإِذا عِنْد رَأسه حجر على شكل لوح مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا} أَنا هود بن الْجُلُود بن عَاد رَسُول الله إِلَى بني عَاد بن عوص بن سَام بن نوح جئتهم بالرسالة وَبقيت فيهم مُدَّة عمري فكذبوني فَأَخذهُم الله بِالرِّيحِ الْعَقِيم فَلم يبْق مِنْهُم أحد وَسَيَجِيءُ بعدِي صَالح بن كابوح فكذبه قومه فاخذتهم الصَّيْحَة فَقَالَ لَهُ على رضي الله عنه صدقت هَكَذَا قبر هود على نَبينَا وَعَلِيهِ افضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
ثمَّ ذكر الْقزْوِينِي أَن بهَا أَي بحضر موت بِئْر برهوت وَهِي الَّتِي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن فِيهَا أَرْوَاح الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَهِي بِئْر عَادِية قديمَة عميقة فِي فلاة وواد مظلم
وَعَن عَليّ رضي عَنهُ ابغض الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى وَادي برهوت بحضر موت فِيهِ بِئْر مَاؤُهُ أسود منتن تاوى إِلَيْهِ أَرْوَاح الْكفَّار
وَذكر الْأَصْمَعِي عَن رجل حضرمي قَالَ أَنا نجد من نَاحيَة برهوت رَائِحَة مُنْتِنَة فظيعة جدا فَيَأْتِينَا الْخَبَر أَن عَظِيما من عُظَمَاء الْكفَّار مَاتَ
وَحكى رجل أَنه بَات لَيْلَة بوادي برهوت فَقَالَ كنت أسمع طول اللَّيْل يَا دومة فَذكرت ذَلِك لبَعض أهل الْعلم فَقَالَ إِن الْملك الْمُوكل بأرواح الْكفَّار أُسَمِّهِ دومه انْتهى
وَقَالَ ابْن الوردي فِي كِتَابه خريدة الْعَجَائِب حضر موت وَهِي شَرْقي الْيمن وَبهَا بِلَاد أَصْحَاب الرس وَكَانَت لَهُم مَدِينَة تسمى الرس سميَّة بذلك باسم نهرها وَمن ارْض حضر موت الْمَشْهُورَة سبأ الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وَكَانَت مَدِينَة مأرب هُوَ اسْم تِلْكَ الْبِلَاد وبهذه الْمَدِينَة كَانَ السد الَّذِي أرسل عَلَيْهِ سيل العرم انْتهى
وَقَالَ الْقزْوِينِي سبأ مَدِينَة كَانَت بَينهَا وَبَين صنعاء ثَلَاث أَيَّام بناها سبأ بن يسحب بن يعرب بن قحطان كَانَت مَدِينَة حَصِينَة كَثِيرَة الْأَشْجَار لذيذة الثِّمَار كَثِيرَة أَنْوَاع الْحَيَوَان وهى الَّتِي ذكرهَا الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه الْعَزِيز {لقد كَانَ لسبأ فِي مسكنهم أَيَّة جنتان عَن يَمِين وشمال كلوا من رزق ربكُم وأشكروا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور} مَا كَانَ يُوجد بهَا ذُبَاب وَلَا بعوض وَلَا شَيْء من الْهَوَام كالحية وَالْعَقْرَب وَنَحْوهَا وَقد أجتمعت فِي ذَلِك الْموضع مياه كَثِيرَة من السُّيُول فتمشي بَين جبلين فبنوا بَين الجبلين سداً من الصخر والقار وَنزل المَاء الْعَظِيم خَارج السد وَجعلت فِي السد مشاعب اعلى واوسط واسفل ليأخذوا من المَاء كلما أحتاجوا إِلَيْهِ فحرث دَاخل السد ودام سقيها فعمرها النَّاس وبنوا وغرسوا وزرعوا فصارة أحسن بِلَاد الله وأكثرها خيرا كَمَا قَالَ تَعَالَى {جنتان عَن يَمِين وشمال} وَكَانَ أَهلهَا أخوة وَبني عَم حمير وكهلان فَبعث الله تَعَالَى إِلَيْهِم ثَلَاثَة عشر نَبيا فكذبوهم فَسلط الله تَعَالَى الجرذ على بلدهم انْتهى
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مأرب كورة بَين حَضرمَوْت وَصَنْعَاء لم يبْق بهَا العامر إِلَّا ثَلَاث قرى يسمونها الدروب كل الْقرْيَة مَنْسُوب إِلَى قَبيلَة من الْيمن وهم يزرعونها على المَاء الَّذِي جَاءَ من نَاحيَة السد يسقون أَرضهم سقية وَاحِدَة ويزرعون عَلَيْهِ ثَلَاث مَرَّات فِي كل عَام وَيكون بَين زرع الشّعير وحصاده فِي ذَلِك الْموضع نَحْو شَهْرَيْن وَكَانَ بهَا سيل العرم الَّذِي جرى ذكره فِي سبأ فغرقت الْبِلَاد حَتَّى لم يبْق إِلَّا مَا كَانَ على رُؤُوس الْجبَال وَذَهَبت الحدائق والجنان والضياع والدور وَجَاء السَّيْل بالرمل فطمها وَهِي على ذَلِك إِلَى الْيَوْم كَمَا أختبر الله تَعَالَى {فجعلناهم أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق} والعرم المسناة بنتهَا مُلُوك الْيمن بالصخر والقار حاجزاً بَين السُّيُول والضياع ففجرته فَأْرَة فَيكون أظهر فِي الأعجوبة
قَالَ ابْن الوردي وَكَانَ من حَدِيثه إِن امْرَأَة كَانَت رَأَتْ فِي منامها ان سَحَابَة غشيت أَرضهم فارعدت وابرقت ثمَّ أصعقت فأحرقت كل مَا وَقعت عَلَيْهِ فَأخْبرت زَوجهَا بذلك وَكَانَ يُسمى عَمْرو بن عَامر فَذهب إِلَى سد مأرب فَوجدَ الجرذ وَهُوَ الفار يقلب برجليه حجر لَا يقلبه إِلَّا خَمْسُونَ رجلا فراعه مَا رأى وَعلم أَنه لَا بُد من كائنة تنزل بِتِلْكَ الْقرْيَة فَرجع فَبَاعَ جَمِيع مَا كَانَ لَهُ بمأرب وَخرج هُوَ وَزَوجته وَولده مِنْهَا وَأرْسل الله تَعَالَى الجرذ على ذَلِك السد الَّذِي يحول بَينهم وَبَين المَاء فأغرقهم وَهُوَ سيل العرم فهدم السد وَخرج إِلَى تِلْكَ الأَرْض فاغرقها كلهَا وَهُوَ السد الَّذِي بناه لُقْمَان الْأَكْبَر ابْن عَاد بناه بالصغر والرصاص فَرسَخ ليحول بَينهم وَبَين المَاء وَجعل فِيهِ أبواباً ليأخذوا من مَائه مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ انْتهى
وَذكر الْقزْوِينِي فِي عجائب الْبلدَانِ مَا يقرب من ذَلِك قَالَ إِن سيادة الْيمن كَانَت لولد حمير ولولد كهلان وَكَانَ كَبِيرهمْ عمرَان بن عَامر وَكَانَ جواداً عَاقِلا وَكَانَ لَهُ ولاقاربه من الحدائق مَا لم يكن لأحد من ولد قحطان وَكَانَت عِنْدهم كاهنة اسْمهَا طريفة قَالَت لعمران والظلمة والضياء وَالْأَرْض وَالسَّمَاء ليقبلن اليكم المَاء كالبحر إِذا طما فيدع أَرْضكُم خلاء يسفي عَلَيْهَا الصِّبَا فَقَالُوا لَهَا أفجعتينا بِأَمْوَالِنَا فبيني لنا مَقَالَتك فَقَالَت انْطَلقُوا إِلَى رَأس الْوَادي لترون الجرذ العادي يجر كل صَخْرَة صبخاء بأنياب حداد وأظفار شَدَّاد فَانْطَلق عمرَان فِي نفر من قومه حَتَّى أشرفوا على السد فَإِذا هم بجرذ أَحْمَر يقْلع الْحجر الَّذِي لَا يستقله رجال ويدفعه بمخاليب رجلَيْهِ إِلَى مَا يَلِي الْبَحْر ليفتح السد فَلَمَّا رأى عمرَان ذَلِك علم صدق قَول الكاهنة وَقَالَ لأَهله اكتموا هَذَا القَوْل من بني عمكم حمير لَعَلَّنَا نبيع حدائقنا مِنْهُم ونرحل عَن هَذِه الأَرْض ثمَّ قَالَ لِابْنِ أَخِيه حَارِثَة إِذا كَانَ الْغَد وَاجْتمعَ النَّاس أَقُول لَك قولا خالفني وَإِذا شتمتك ردهَا عَليّ وَإِذا ضربتك فاضربني مثله فَقَالَ يَا عَم كَيفَ ذَلِك فَقَالَ عمرَان لَا تخَالف فَإِن مصلحتنا فِي هَذَا
فَلَمَّا كَانَ الْغَد وَاجْتمعَ عِنْد عمرَان أَشْرَاف قومه وَعُظَمَاء حمير ووجوه رَعيته أَمر حَارِثَة أمرا فَعَصَاهُ فَضَربهُ بمخصرة كَانَت بِيَدِهِ فَوَثَبَ عَلَيْهِ حَارِثَة فَلَطَمَهُ فاظهر عمرَان الْغَضَب وَأمر بقتل ابْن أَخِيه فَوَقع فِي حَقه الشفاعات فَلَمَّا أمسك عَن قَتله حلف أَن لَا يُقيم فِي أَرض امتهن بهَا وَقَالَ وُجُوه قومه وَلَا نُقِيم بعْدك يَوْمًا فعرضوا ضياعهم على البيع فاشتراها بَنو حمير بأغلى الْأَثْمَان فارتحل عَن أَرض الْيمن فجَاء السَّيْل بعد رحيلهم بِمدَّة يسيرَة فخربت الْبِلَاد كَمَا قَالَ تَعَالَى {فأعرضوا فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط واثل وَشَيْء من سدر قَلِيل} فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد وَيضْرب بهم الْمثل يُقَال {تفَرقُوا ايادي سبا} وَكَانُوا عشرَة ابطن سِتَّة تيامنوا وهم كِنْدَة والأشعريون والأزد ومدحج وأنمار وحمير وَأَرْبَعَة تشاموا وهم عامرة وجذام ولخم وغسان وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة بَين مبعث عِيسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى
وَذكر صَاحب كتاب المستبصر فِي الْكَلَام على سد مأرب إِن أهل شَدَّاد وَعَاد سدت بَين منفذ جبلين بِالْحجرِ والرصاص وصعدوا فِي ارتفاعه إِلَى أَن حَاذَى الْحَائِط ذرْوَة الجبلين فَصَارَت السُّيُول تقلب فِيهِ المَاء ليستجمع إِلَى أَن رَجَعَ مسدوداً وَكَانُوا يسقون مِنْهُ أراضيهم وأنعامهم
وَيُقَال أَنهم كَانُوا يسقون مِنْهُ إِلَى قرب الشَّام بساتين ذَات أعناب ونخيل وَزرع وقرى مُتَّصِلَة بَعْضهَا بِبَعْض وَبَقِي الأقليم عَامِرًا إِلَى أَن اخربه الله وَكَانَ الْمُوجب لذَلِك مَا ذكره الدَّارِيّ قَالَ خرجت قافلة من الشَّام وَإِذا بفأر قفز من الأَرْض وَركب ظهر جمل من بعض الْجمال الَّتِي فِي الْقَافِلَة وَلَا زَالَ ينْتَقل من جمل إِلَى جمل ويعبر منزلا بعد منزل إِلَى أَن وصل مَدِينَة مأرب فقفز الفأر من الْجمل وَدخل السد وَصَارَ يعْمل فِيهِ عمله
وَيُقَال إِن النُّعْمَان بن الْمُنْذر خرج يَوْمًا فِي طلب الصَّيْد فَحصل فِي طرد الصَّيْد فَوجدَ الفار بأنياب حَدِيد يحْفر السد فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَبِيه الْمُنْذر قصّ عَلَيْهِ حِكَايَة الفار وَصفَة أنيابه أَنَّهَا من حَدِيد يحْفر بهَا السد فَقَالَ الْمُنْذر صَحَّ يَا بني مَا وَجَدْنَاهُ فِي الْكتب أَن مَا يخرب سد مأرب إِلَّا فار أنيابه من حَدِيد وَأُرِيد مِنْك اذا دَخَلنَا يَوْم الْأَحَد إِلَى الدَّيْر وَالْكَنَائِس وَالنَّاس فِيهِ مجمعون قُم إِلَيّ وشاكلني فِي أَمر من الْأُمُور وَطول وَهَا أَنا اشاقك عَلَيْهِ فَإِذا رَأَيْت الْأَمر قد طَال قُم الطمني براحة كفك على خدي قَالَ النُّعْمَان وَكَيف يُمكن ذَلِك قَالَ يَا بني افْعَل مَا أَمرتك بِهِ لِأَن لي فِيهِ رَأيا وَلَك فِيهِ مصلحَة فَفعل الْوَلَد مَا أمره بِهِ وَالِده فَلَمَّا لطم الشَّيْخ غضب من الْحِين وَسمي الْمَظْلُوم فَقَامَ الشَّيْخ إِلَى الْجَمِيع وَقَالَ يَا وُجُوه الْعَرَب مَا بَقِي لي مَعكُمْ سكن قَالُوا لَهُ الْجَمِيع وَلم قَالَ وَكَيف أقيم وَصبي كسر حشمتي بَيْنكُم وحرمتي وَمن سَاعَته نَادَى على السد فتألبت والتأمت قبائل الْعَرَب فِي شِرَائِهِ قَالُوا بكم قَالَ تغمدوا سَيفي هَذَا وغرس ذُبَاب سَيْفه على الأَرْض وَصَارَت الْعَرَب تنقل الذَّهَب وَالْفِضَّة والمصاغ إِلَيْهِ وَلَا زَالُوا على حَالهم يصبون الذَّهَب إِلَى أَن غمد سَيْفه بِالذَّهَب فَأخذ الشَّيْخ المَال وَصعد الْجَبَل وَسكن مُقَابل السد والجبل يُسمى حفا وَهُوَ وَأَهله ينتظرون خراب السد وَلما تمكن الفار من السد وخرقه أخر بِهِ وَخرج السَّيْل
ثمَّ قَالَ حَدثنِي سَلامَة بن مُحَمَّد بن حجاج قَالَ لما وَقع السد أَخذ المَاء فِي جملَة مَا أَخذ ألف صبي أَمْرَد على ألف حصان ابلق غير الْبيض والشقر والدهم وَالْخضر وَقَالَ الشَّاعِر
.. تهدم سد المأربين وَقد مضى ... زمَان وَهُوَ ينقاد حَيْثُ يُقَاد ...
وَإِلَى مأرب أَرْبَعَة فراسخ وَتسَمى الحضين وَمن هَذَا الْبَلَد نقلت الْجِنّ عرش بلقيس إِلَى أَرض فَارس فِي زمن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا قَالَ الله عز وَجل {أهكذا عرشك قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ} فَلَمَّا اندق السد أَخذه فِي جملَة مَا أَخذ فَلَمَّا زَالَ شَرّ المَاء دارت الْخلق على موضِعين سليمين مِنْهُ سوران يُسمى أَحدهمَا درب الْأَعْلَى وَالثَّانِي درب الْأَسْفَل
ثمَّ قَالَ وَيُقَال إِن مَدِينَة مأرب بناها سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان وَيُقَال عَابِر وَهُوَ هود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُقَال إِنَّمَا سمي سد مأرب لِأَن قوم عَاد لما سلط الله عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم وَكَانَ يقف على السد كل يَوْم كَذَا وَكَذَا من مجله ليردوا عَن أَصْحَابهم الْبلَاء وَكَانَت الرّيح تضرب بَعضهم على بعض كَمَا قَالَ عز وَجل {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} فبنوا السد ليرد عَنْهُم قُوَّة المَاء فَلَمَّا غَدَتْ تِلْكَ الْأمة اجْتمع السُّيُول فِيهِ وَكَثُرت الْمِيَاه فبقى جَريا للْمَاء فَبنِي عَلَيْهِ قرى وعمارات وزراعات إِلَى حُدُود الشَّام وَكَانَ يسقى مِنْهُ جَمِيع ذَلِك فَقتل ولد لحصيص بن فِي مأرب وَأمسى علمه فِي حَضرمَوْت مسيرَة ثَمَانِيَة أَيَّام لِأَن كل ناطور زرع كَانَ يخبر صَاحبه الْخَبَر حَتَّى اتَّصل بحضرموت يَعْنِي فِي مِقْدَار يَوْم فِي ذَلِك من عمَارَة الْبِلَاد وَكَثْرَة الْعباد انْتهى
قَالَ ابْن الوردي فِي الخريدة وَكَانَت أَرض مأرب من بِلَاد الْيمن مسيرَة سِتَّة أشهر مُتَّصِلَة العمائر والبساتين وَكَانُوا يقبسون النَّار بَعضهم من بعض وَإِذا أَرَادَت الْمَرْأَة الثِّمَار وضعت مكتلها على رَأسهَا وَخرجت تمشي بَين الْأَشْجَار وَهِي تغزل الصُّوف فَلَا ترجع إِلَّا والمكتل ملآن من الثِّمَار الَّتِي بخاطرها من غير أَن تمس شَيْئا بِيَدِهَا الْبَتَّةَ وَكَانَت أَرضهم خَالِيَة من الْهَوَام والحشرات وَغَيرهَا فَلَا تُوجد فِيهَا حَيَّة وَلَا عقرب وَلَا بعوض وَلَا ذُبَاب وَلَا قمل وَلَا براغيث وَإِذا دخل الْغَرِيب أَرضهم وَعَلِيهِ فِي ثِيَابه شَيْء من الْقمل والبراغيث هَلَكُوا فِي الْوَقْت والحين وَذهب مَا كَانَ فِي ثِيَابه من ذَلِك بقدرة قَادر واذهب الله جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَلم يبْق من أَرضهم إِلَّا الخمط والأثل وَهُوَ الطرفاء والاراك وَشَيْء من سدر قَلِيل قَالَ الله عز وَجل {ذَلِك جزيناهم بِمَا كفرُوا وَهل نجازي إِلَّا الكفور} وسبأ الْآن خراب وَكَانَ بهَا قصر سُلَيْمَان ابْن دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقصر بلقيس زَوجته وَهِي ملكة تِلْكَ الأَرْض الَّتِي تزَوجهَا سُلَيْمَان وقصتها مَشْهُورَة وبأرضها جبل منيع صَعب المرتقى لَا يصعد إِلَى أَعْلَاهُ إِلَّا بالجهد الْعَظِيم وَفِي أَعْلَاهُ قرى عَظِيمَة عامرة وبساتين وفواكه ونخل مثمر وخصب كثير وَبِهَذَا الْجَبَل أَحْجَار العقيق وأحجار الجثيب وأحجار الْجزع وَهِي مغشاة بأغشية ترابية لَا يعرفهَا إِلَّا طالبها وَلَهُم فِي مَعْرفَتهَا عَلَامَات فتصقل فَيظْهر حسنها انْتهى وَالله أعلم
قَالَ الْقزْوِينِي إرم ذَات الْعِمَاد بَين صنعاء وَحضر موت من بِنَاء شَدَّاد بن عَامر
رُوِيَ أَن شَدَّاد بن عَاد كَانَ جباراً من الْجَبَابِرَة لما سمع بِالْجنَّةِ وَمَا وعد الله فِيهَا أولياءه من قُصُور الذَّهَب وَالْفِضَّة والمساكن الَّتِي تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار والغرف الَّتِي فَوْقهَا غرف قَالَ إِنِّي متخذ فِي الأَرْض مَدِينَة على صفة الْجنَّة فَوكل بذلك مائَة رجل من وكلائه تَحت كل وَكيل ألف من الأعوان ولغيرهم ان يطلبوا أفضل فلاة من الأَرْض من أَرض الْيمن ويختاروا أطيبها تربة ومكنهم من الْأَمْوَال وَمثل لَهُم كَيْفيَّة بنائها وَكتب إِلَى عماله فِي سَائِر الْبلدَانِ أَن يجمعوا جَمِيع مَا فِي عَددهمْ من الذَّهَب وَالْفِضَّة والجواهر فَجمعُوا مِنْهَا صبرا مثل الْجبَال فَأمر باتخاذ اللَّبن من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَبنى الْمَدِينَة بهَا وَأمر أَن يفصص حيطانها بجواهر الدّرّ والياقوت والزبرجد وَجعل فِيهَا غرفاً فَوْقهَا غرف أساطينها من الزبرجد والجزع والياقوت ثمَّ أجْرى إِلَيْهَا نَهرا سَاقه إِلَيْهَا من أَرْبَعِينَ فرسخاً تَحت الأَرْض وَظهر فِي الْمَدِينَة فَأجرى من ذَلِك النَّهر السواقي فِي السكَك والشوارع وَأمر بحافتي النَّهر والسواقي فطليت بِالذَّهَب الْأَحْمَر وَجعل حصباه أَنْوَاع الْجَوَاهِر الْأَحْمَر والأخضر والأصفر وَنصب على حافتي السواقي وَالنّهر أشجاراً من الذَّهَب وَجعل ثمارها من اليواقيت والجواهر وَجعل طول الْمَدِينَة اثْنَي عشر فرسخاً وعرضها مثل ذَلِك وصير سورها عَالِيا مشرفاً وَبنى فِيهَا ثَلَاثمِائَة قصر مفصصاً بواطنها وظواهرها بأصناف الْجَوَاهِر
ثمَّ بنى لنَفسِهِ على ذَلِك النَّهر قصراً منيفاً عَالِيا يشرف على تِلْكَ الْقُصُور كلهَا وَجعل ماءها يشرع إِلَى وَاد رَجَب وَنصب عَلَيْهِ مصراعين من ذهب مفصص بأنواع الْجَوَاهِر واليواقيت وَجعل ارْتِفَاع الْبيُوت والسور ثَلَاثمِائَة ذِرَاع وَجعل تُرَاب الْمَدِينَة من الْمسك والزعفران وَجعل خَارج الْمَدِينَة مائَة مائَة ألف قنطرة أَيْضا رصعت بِالذَّهَب وَالْفِضَّة لينزلها جُنُوده وَمكث فِي بنائها خَمْسمِائَة عَام فَبعث الله تَعَالَى هوداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَدَعَاهُ إِلَى الله تَعَالَى فتمادى فِي الْكفْر والطغيان وَكَانَ إِذْ ذَاك تمّ على ملكه سَبْعمِائة سنة فانذره هود بِعَذَاب الله تَعَالَى وخوفه بِزَوَال ملكه فَلم يرتدع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَعند ذَلِك وافاه الموكلون بِبِنَاء الْمَدِينَة وَأَخْبرُوهُ بالفراغ مِنْهَا فعزم على الْخُرُوج اليها فِي جُنُوده وَخرج فِي ثَلَاثمِائَة ألف رجل من أهل بَيته وَخلف على ملكه مرْثَد بن شَدَّاد ابْنه وَكَانَ مرْثَد فِيمَا يُقَال مُؤمنا بهود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَمَّا انْتهى شَدَّاد إِلَى قرب الْمَدِينَة بمرحلة جَاءَت صَيْحَة من السَّمَاء مَاتَ هُوَ وَأَصْحَابه وَجَمِيع من كَانَ فِي أَمر الْمَدِينَة من القهارمة والصناع والفعلة وَبقيت لَا أنيس بهَا فأخفاها الله تَعَالَى لم يدخلهَا بعد ذَلِك إِلَّا رجل وَاحِد أَيَّام مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ يُقَال لَهُ عبد الله بن قدامَة فَإِنَّهُ ذكر فِي قصَّة طَوِيلَة تلخيصها
أَنه خرج من صنعاء فِي طلب ابل ضلت فأفضى بِهِ السّير إِلَى مَدِينَة صفتهَا مَا ذَكرْنَاهُ فَأخذ مِنْهَا شَيْئا من الْمسك والكافور وشيئاً من الْيَاقُوت وَقصد الشَّام وَأخْبر مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ وَعرض عَلَيْهِ مَا أَخذه من الْجَوَاهِر وَكَانَت قد تَغَيَّرت بطول الزَّمَان فَاحْضُرْ مُعَاوِيَة كَعْب الْأَخْبَار وَسَأَلَهُ من ذَلِك فَقَالَ هَذَا ارْمِ ذَات الْعِمَاد الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز بناها شَدَّاد بن عَاد لَا سَبِيل إِلَى دُخُولهَا وَلَا يدخلهَا إِلَّا رجل وَاحِد وَصفته كَذَا وَكَذَا وَكَانَت تِلْكَ الصّفة صفة عبد الله بن قدامَة فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أما أَنْت يَا عبد الله فأحسنت النصح وَلَكِن لَا سَبِيل إِلَيْهَا وَأمر لَهُ بجائزة
وَحكي أَنهم عرفُوا قبر شَدَّاد بن عَاد بحضرموت وَذَلِكَ أَنهم وَقَعُوا فِي حفيرة وَهِي بَيت فِي جبل تنور مائَة ذِرَاع فِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعا وَفِي صَدره سَرِير عَظِيم من ذهب عَلَيْهِ رجل عَظِيم الْجِسْم وَعند رَأسه لوح فِيهِ مَكْتُوب شعر ... أعتبر يَا أَيهَا الْمَغْرُور بالعمر المديد ... أَنا شَدَّاد بن عَاد صَاحب الْقصر المشيد
وأخو الْقُوَّة والبأساء وَالْملك الحشيد ... دَان أهل الأَرْض طراً لي من خوف وعيدي
فَأتى هود وَكُنَّا فِي ضلال قبل هود ... فَدَعَانَا لَو قبلناه إِلَى الْأَمر الرشيد
فعصيناه ونادينا الْأَهْل من مجيد ... فأتتنا صَيْحَة تهوي من الْأُفق الْبعيد
فثوينا مثل زرع وسط بيداء حصيد ...
وَكفى حَضرمَوْت من الشّرف الْعَظِيم وَالْمجد الفخيم وَالْفَخْر الَّذِي لَا يبْلى ويبيد بل يَنْمُو وَيزِيد أَن الإِمَام شيخ الْإِسْلَام مُجْتَهد زَمَانه الشَّيْخ أَبَا الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي ذكر فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى {وَأَن مِنْكُم إِلَّا وأردها} الْآيَة يَسْتَثْنِي من ذَلِك أهل حَضرمَوْت لأَنهم أهل ضنك فِي الْمَعيشَة
وَرُوِيَ عَن الشَّيْخ عبد الله بن أسعد اليافعي رَضِي الله عَنهُ أَنه أرسل وَلَده عبد الرَّحْمَن من مَكَّة المشرفة إِلَى حضر موت لزيارتهم فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ سَأَلَهُ عَنْهُم فَقَالَ لَهُ رَأَيْتهمْ لَا يُحصونَ كَثْرَة وَرَأَيْت أنوارهم مشرقة كَالشَّمْسِ وَأنْشد شعر ... مَرَرْت بوادي ضرموت مُسلما ... فالفيته بالبشر مُبْتَسِمًا رحباً ... .. والفيت فِيهَا من حبها بذة الْعلَا ... اكابر لَا يلقون شرقا وَلَا غربا ...
واما تريم الَّتِي قدرهَا كوزنها عَظِيم وَهِي بتاء مثناة فوقية ثمَّ رَاء مَكْسُورَة ثمَّ يَاء تحتية بعْدهَا مِيم بَلْدَة بحضرموت وَهِي أعدل أَرض الله هَوَاء وأصحها تربة وأعذبها مَاء وَهِي قديمَة يُقَال أَنَّهَا كَانَت قديم الْأَيَّام عامرة جدا وَأما الْآن فَهِيَ ضَعِيفَة إِلَى الْغَايَة ولاجل ضنك الْمَعيشَة بهَا وَقع من الشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ ذَلِك القَوْل فِي حق أَهلهَا وَهَذَا لعمري من جملَة محاسنها إِذْ القاطنون بهَا دَائِما كَأَنَّهُمْ فِي رياضة وَلِهَذَا يفتح على كثير مِنْهُم بِأَدْنَى توجه وأقبال على الله فزوى الله عَنْهُم أَسبَاب البطر والأشر من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَمن الْعِصْمَة أَن لَا تقدر وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ وَالظَّاهِر أَن سَبَب خرابها سيل العرم الَّذِي أرْسلهُ الله تَعَالَى على سبأ فَانْقَطَعت عَنْهَا الْمِيَاه الَّتِي كَانَ يزرع عَلَيْهَا فسبحان من يقلب الْأُمُور وَلم يتَغَيَّر بِتَغَيُّر الدهور وَلم يُوجد الْآن بهَا من الْفَوَاكِه غير التَّمْر وَهُوَ كثير عِنْدهم بِحَيْثُ أَنه غَالب قوت الْبَلَد وعَلى أَنْوَاع مُخْتَلفَة فَهِيَ بِاعْتِبَار كَثْرَة النخيل بهَا كانها جنَّة شعر ... كَأَن النخيل الباسقات وَقد غَدَتْ ... مناظرها حسنا قباب زبرجد
وَلَقَد علقت من قبتها زِينَة لَهَا ... قناديل ياقوت بأمراش عسجد ...
وَقيل أَنه كَانَ بهَا عُيُون كَثِيرَة وَالَّذِي سدها معن بن زايدة الشَّيْبَانِيّ الْجواد فعد ذَلِك من سيئاته وَسبب ذَلِك فِيمَا ذكرُوا أَن أَخَاهُ كَانَ والياً عَلَيْهَا وَكَانَ فَاسِقًا فَقتله أَهلهَا بِسَبَب ذَلِك فَغَضب معن لذَلِك وَأمر بسد الْعُيُون الَّتِي كَانَت فِيهَا فَسدتْ بالرصاص وَحكم على أَهلهَا بكشف الرؤوس وَلبس السوَاد فَمن ثمَّ جرت عَادَتهم بذلك بل صَار الْيَوْم لبس السوَاد عِنْدهم من جملَة الزِّينَة حَتَّى أَن أهل الْوَرع يحذرون مِنْهُ
وَحكي أَن بعض المغاربة جَاءَ الى حَضرمَوْت فِي زمن السُّلْطَان بدر الكثيري وَأَرَادَ أَن يفتح فِيهَا بعض الْعُيُون ثمَّ إِن السُّلْطَان خَافَ ان يطْمع فِيهَا الاروام إِذا قويت فَترك ذَلِك بعد أَن كَانَ عزم عَلَيْهِ وبناها تريم بن حَضرمَوْت فسميت باسمه وَقيل أسعد الْكَامِل وللفقيه مُحَمَّد بن أبي الْحبّ قصيدة فِي صفتهَا وخواصها مِنْهَا شعر ... نسيم جنوبها أبدا صَحِيح ... وطبع الجو فِيهَا مُسْتَقِيم
وطبع بيارها فِي الصَّيف برد ... وَأَيَّام الشتا هِيَ الْحَمِيم
تعادل حرهَا وَالْبرد فِيهَا ... فلاحر يضر وَلَا سموم
وطبع الْبرد فِيهَا فِيهِ لطف ... يطيب نسيمه يَنْمُو الجسوم
وحر الشَّمْس فِيهَا لَيْسَ يُؤْذِي ... وَبرد شتائها أبدا سليم
بِلَاد طَابَ مَسْكَنهَا وَطَابَتْ ... مباركة لَهَا رب رَحِيم
فَلَو نظرت فلاسفة إِلَيْهَا ... لقالوا جنَّة الدُّنْيَا تريم ...
وسماها الشَّيْخ القطب عمر المخضار ابْن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف فِي بعض قصائده بِلَاد الطِّبّ قَالَ بَعضهم شملت هَذِه الْكَلِمَة من الشَّيْخ عمر رَضِي الله عَنهُ الطبين جَمِيعًا طب الْقُلُوب وطب الْأَبدَان
ولي ترى صَاحِبي أفوز بزورة من تريم وأظفر بالمنا قَالَ لي تبلغ مَا ترم سَيِّدي من الريم وتحظى بالهنا وَمَا أحسن قَول الشَّيْخ عبد الْمُعْطِي أَبَا كثير رَحمَه الله فِي صفتهَا شعر ... أَرضًا غَدَتْ تفاخر السما ... كَذَا حصاها فاخر الجوزا
أَرضًا ينَال كل من أم لَهَا ... كَرَامَة فَوق الَّذِي أملهَا
وتربها غَدا يضاهي المسكي ... للزعفران الجنوي يحْكى
قد أشرقت من سَائِر النواحي ... على الملا بنورها الوضاحي ...
وَهِي معشر الْأَوْلِيَاء ومعدنهم ومنشأ الْعلمَاء وموطنهم وَهِي مسكن السَّادة الْأَشْرَاف آل أَبَا علوي فَإِن جدهم أَحْمد بن عِيسَى لما قدم إِلَى حضر موت سكن فابتنى جشير بِكَسْر الْجِيم والشين الْمُعْجَمَة وَبعدهَا يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء يعرف الْيَوْم بِبَيْت بني جشيب بِالْبَاء الْمُوَحدَة على نصف مرحلة من تريم ثمَّ أنتقل مِنْهَا إِلَى الحسيسة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح السِّين وياء مثناة من تَحت بَينهمَا مُشَدّدَة مَكْسُورَة قريب مِنْهَا وأشترى بهَا عقارا كثيرا وَبهَا توفّي وَدفن فِي شعبها الشَّرْقِي
ثمَّ أَن وَلَده الشَّيْخ عبد الله أنتقل إِلَى سمل بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وسكنها مُدَّة زمَان وَاشْترى بهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وَهِي على نَحْو سِتَّة أَمْيَال من تريم وَحكي أَن وَفَاته كَانَت بهَا ثمَّ أنتقل أَوْلَاده مِنْهَا إِلَى بَيت جُبَير بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة واسكان الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَرَاء بعْدهَا قريب مِنْهَا فسكنوها مُدَّة ثمَّ انتقلوا إِلَى تريم وَسَكنُوا بهَا وتوطنوها من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة إِلَى يَوْمنَا هَذَا فازدادت بهم شرفا وفخرا إِلَى فخرها وازدهت بهم أقطارها واخضرت أشجارها وأشرقت بدورها وفاح عبيرها وَأنْشد قَائِلهَا ... أَشمّ مِنْك نسيما لست أعرفهُ ... مَا ضرّ لميا جرت فِيك اذيالا ...
غَيره ... تحيي بهم كل ارْض ينزلون بهَا ... كَأَنَّهُمْ لخراب الأَرْض عمار ...
وَلما كَانَت خير بِلَاد الله بعد الْحَرَمَيْنِ الشريفين وَبَيت الْمُقَدّس أكرمها الله تَعَالَى بِخَير عباده وَأكْرمهمْ عَلَيْهِ الَّذين زينهم بأتباع السّنة الغراء مَعَ صِحَة نسبهم الْمُتَّصِل بالسيدة الزهراء الَّذِي عز وجود نَظِيره فِي غَيرهم فكاد لَا يُوجد الشريف السّني إِلَّا نَادرا هَذَا مَعَ مَا خصوا بِهِ وأشتهر عَنْهُم من الْعِبَادَة وَالْعلم والتواضع والزهد فأدناهم والمقصر مِنْهُم فِي أُمُوره هُوَ الشريف السّني رَضِي الله عَنْهُم ونفع بهم آمين وَللَّه در من قَالَ شعر ... طابت تريم بهم وطاب محلهَا ... أضحوا بهَا الْقنْدِيل وَهِي الْمَسْجِد
تختال زهواً فِي العراص لحسنها ... بحلول سلمى حسنها لَا يفقد
اضحت تريم بهم عروساً تجتلى ... تذكر عبيراً نشره يتَرَدَّد
يَا ربع سلمى رَحْمَة وتحية ... مني عَلَيْك مدى الزَّمَان تردد ...
وَيذكر إِنَّهَا تنْبت الصَّالِحين كَمَا تنْبت الأَرْض البقل وَاجْتمعَ بهَا فِي عصر وَاحِد من الْعلمَاء الَّذين بلغُوا رُتْبَة الْإِفْتَاء ثَلَاثمِائَة رجل وان بمقبرتها جمَاعَة مِمَّن شهد بَدْرًا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وان عَددهمْ سَبْعُونَ نَفرا وَكَانَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف رض = إِذْ زار قُبُور تريم يُشِير إِلَى مَكَان قُبُورهم فِي مَحل مَخْصُوص هُنَاكَ
وَرُوِيَ عَنهُ انه قَالَ فِي تربة أل أَبَا علوي ثَمَانُون قطباً كلهم أَشْرَاف
وَرُوِيَ عَن بعض الصَّالِحين انه قَالَ لرجل من أهل تريم أتعرف الفريط الْأَحْمَر والجبل الْأَحْمَر فَقَالَ لَهُ نعم فَقَالَ لَهُ تَحْتَهُ رَوْضَة من رياض الْجنَّة
وَرُوِيَ عَن الشَّيْخ فضل ابْن عبد الله انه قَالَ ثَلَاث ترب محمولات بترابهم إِلَى الْجنَّة تربة تريم وتربة الهجرين وتربة غيل أبي سودان
وَيُقَال ان أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ دعى لَهَا بِثَلَاث دعوات أَن يكثر بهَا الصالحون وَأَن يُبَارك الله فِيمَا بهَا وَأَن لَا تطفىء بهَا نَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَعْنَاهُ ان لَا تزَال عامرة الى يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ حِين بلغه ان اهلها لم يرتدوا كغيرهم من بعد موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَا قيل لَهَا مَدِينَة الْعَرَب الَّذين إرتدوا أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ
وَرُوِيَ أَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أبي بكر عباد رَحمَه الله كَانَ يَقُول اذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أَخذ أَبُو بكر الصّديق اهل تريم كلهم قَبْضَة فِي يَده وَرمى بهم فِي الْجنَّة وَبهَا مَسَاجِد كَثِيرَة مَشْهُورَة الْبركَة مِنْهَا الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بِمَسْجِد آل أَبَا علوي
وَقد نظم السَّبْعَة الَّذين يعْتَقد أهل زبيد ان من زارهم سَبْعَة ايام مُتَوَالِيَة قضيت حَاجته الشَّيْخ على بن أبي بكر فِي معرض الثَّنَاء عَلَيْهِم ثمَّ التَّعْرِيف أَن فِي بَلْدَة تريم الجم الْغَفِير من هم بِهَذَا الْوَصْف الخطير فَقَالَ رَحمَه الله ورضى عَنهُ وَعَن سَائِر الصَّالِحين وعنا بهم آمين شعر ... بِبَاب سِهَام سَبْعَة من مَشَايِخ ... لقصدهم فَخر وكنز لمقلل
فيونس إِبْرَاهِيم مَرْزُوق جبرتي ... وأفلح مياد كَذَا ابْن الرضي الْوَلِيّ
زيارتهم نجح لكل حوائج ... وَفِي الْخلد سُكْنى للَّذي زار مقبل
تريم بهَا مِنْهُم الوف عديدة ... بِسَاحَة بشار شموس الْهدى قل
زِيَارَة كل مِنْهُم صَحَّ أَنَّهَا ... لما شِئْت من جلب وَدفع مُحَصل
وَإِن قيل ترياق بِبَغْدَاد جربا ... وَفِي ربع بشار شفا كل معضل
وَيَا حبذا ذَاك الفريط وظله ... فكم قد حوى من كَامِل السِّرّ منهل
فكم مَعْدن كم مورد كم مُعظم ... وَكم حبر تَحْقِيق وَشَيخ مدلل
وبلبل قلبِي نفح مسك بزنبل ... بهَا من كنوز السِّرّ كم من مجلل ... .. وَكم جهبذ فِيهَا بنوا كدر بهَا ... بهم ينزل الله الغيوث لممحل
فَلَا تحقرنها رب اشعث خامل ... سماسرة فضلا على كل مفضل ...
-النور السافر عن أخبار القرن العاشر-لمحي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروس.