وفيهَا لاربع خلت من شهر ربيع الثَّانِي توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْوَلِيّ الصَّالح الْوَرع الزَّاهِد بَقِيَّة السّلف وعمدة الْخلف القَاضِي الْفَقِيه عبد الله بن مُحَمَّد بن حسن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عسين الشَّافِعِي بالشحر وَدفن فِي تربة الشَّيْخ فضل وحزن النَّاس بفقده وتأسفوا عَلَيْهِ كثيرا
نَشأ من صغره فِي الطَّاعَة وَالْعِبَادَة وَظَهَرت عَلَيْهِ من حِينَئِذٍ لوائح السَّعَادَة وأشتغل بِالْعلمِ فبرع وسلك طرق التدقيق فلحق من قبله وَفَاتَ من بعده وتصدر فِي الشحر للْفَتْوَى والتدريس وَتخرج بِهِ الطّلبَة وأنتفعوا بِهِ كثيرا وَكَانَ سيدا شرِيف النَّفس كَرِيمًا سخياً مفضالا وصُولا للطلبة كثير الْإِحْسَان إِلَيْهِم وَكَانَ يجْتَهد فِي جمعهم وترغيبهم للطلب وَيسْعَى لَهُم فِي الرزق بإذلا لَهُم نَفسه حسن التَّعْلِيم لين الْجَانِب فِي غَايَة التَّوَاضُع وَكَانَ متقشفاً فِي ملبسه طارحا للتكلف آمُر بِالْمَعْرُوفِ ناهياً عَن الْمُنكر يُنكر على الْمُلُوك والأمراء فَمن دونهم ساعياً فِي قَضَاء حوائج الْمُسلمين وَلَا يتَأَخَّر برد من رده وَلَا يكون ذَلِك منفراً لَهُ عَن الْعود إِلَى الشَّفَاعَة مرّة أُخْرَى
وَمن فضائله الْمَشْهُورَة ومناقبه الْمَذْكُورَة سَعْيه فِي إِخْرَاج وقف الْجَامِع الَّذِي على الْمدرس والمدرسة وَغَيرهم من يَد الدولة بعد أَن أستولوا عَلَيْهِ مُدَّة وَكَاد أَن ينطمس ويندرس وَمن ذَلِك أَنه كَانَ السَّبَب فِي وُصُول الْفَقِيه الْعَلامَة عفيف الدّين عبد الله بن الْحَاج فضل إِلَى الشحر وترتيبه مدرساً فِي الْجَامِع وأنتفاع النَّاس بِهِ
وَبِالْجُمْلَةِ ففضائله ومناقبه أَكثر من أَن تحصر وَكَانَ رَحمَه الله يعلم الصّبيان الْقُرْآن وَحفظ الْقُرْآن عَلَيْهِ خلق كثير وَكَانَ ينْسَخ الْمَصَاحِف ويجتهد فِي ضَبطهَا وَتَصْحِيح رسمها وَكتب نَحْو خمسين مُصحفا
وَحكي أَنه كَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا من كسب يَده وَكَانَ حسن الْخط وَأهل تِلْكَ الْجِهَة يضْربُونَ بِخَطِّهِ الْمثل وَكَانَ مَعَ هَذَا كُله مُتَوَلِّيًا الْقَضَاء بالشحر وَكَانَ من قُضَاة الْعدْل المشكورين وأئمة الْفضل الْمَشْهُورين وأشتهر ذكره وطار صيته وَضربت بِهِ الْأَمْثَال وَلم يكن يَأْخُذ لنَفسِهِ من مَعْلُوم الْقَضَاء شَيْئا بل كَانَ يخص بعض المحتاجين من الْفُقَهَاء والدرسة وَلم يزل فِي جَمِيع مُدَّة ولَايَته الْقَضَاء وَغَيرهَا مستمراً على جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ من تَعْلِيم وَنسخ الْمَصَاحِف وَالسَّعْي فِي حوائج الْمُسلمين والشفاعات لَهُم إِلَى الْمُلُوك فَمن دونهم وَالْقِيَام بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَعدم المداهنة والمراعاة فِي الْأَحْكَام والأغلاظ للظلمة وَعدم الاحتفال بِأَهْل الدُّنْيَا وارباب الجاهات والمناصب والتقشف فِي الملبس حَتَّى أَنه كَانَ يعصر المداد بعمامته وَقد لَا يكون لَهُ إِلَّا ثوب وَاحِد يتزر بِبَعْضِه وَيجْعَل بعضه على عَاتِقه وَيَمْشي كَذَلِك فِي الْأَسْوَاق وَغَيرهَا غير مكترث بِأحد وَلَا مستحي من أحد
وَقَضيته مَعَ السُّلْطَان عبد الله بن جَعْفَر الكثيري صَاحب الشحر مَشْهُورَة وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور أشترى حصاناً من بعض النَّاس ثمَّ بعد ذَلِك أَرَادَ رده وأدعى فِيهِ عَيْبا وأمتنع من تَسْلِيم الثّمن للْبَائِع فاشتكى عَلَيْهِ إِلَى القَاضِي الْمَذْكُور فَكتب إِلَيْهِ أَن أحضر إِلَى الشَّرْع الشريف وَلم يراع السُّلْطَان وَلَا تساهل لأَجله وَلَا حاباه بِكَلِمَة وَاحِدَة وَللَّه دره وَلَقَد أبقى فخراً وغنم أجرا وأمتطى ذرْوَة ورقى فَوق أوج الافلاك شعر ... هَيْهَات أَن يَأْتِي الزَّمَان بِمثلِهِ ... إِن الزَّمَان بِمثلِهِ لَا يسمح ...
وَكَانَت آيَة فِي الْعلم وَالْفِقْه وَيَكْفِي فِي ذَلِك أَنه أختلف هُوَ والفقيه الإِمَام مُحَمَّد ابْن عمر بحرق فِي مَسْأَلَة فِي الْفِقْه وَطَالَ النزاع بَينهمَا حَتَّى أشتهر بَين النَّاس فجَاء صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى الْفَقِيه بحرق وَمَعَهُ كتاب الرَّوْضَة للنووي فاوقفه على الْمَسْأَلَة فَرجع إِلَى قَوْله ثمَّ ان الْفَقِيه بحرق صعد الْمِنْبَر وخطب وَقَالَ أَلا أَن الْمَسْأَلَة الَّتِي أختلفت فِيهَا أَنا وَالْقَاضِي ابْن عبسين وجدت الْحق فِيهَا مَعَه وَلَا يخفى مَا فِي هَذِه الْحِكَايَة من المنقبة الْعَظِيمَة لَهُ الَّتِي تشهد بغزارة علمه وَكَثْرَة اطِّلَاعه وفيهَا مَا يدل على تواضع الْفَقِيه بحرق وأنصافه من نَفسه وأعترافه بِالْحَقِّ ورجوعه إِلَيْهِ وَهَذَا عَزِيز إِلَّا على من وَفقه الله تَعَالَى وَعَصَمَهُ من الْهوى ورزقه الأخلاص فِي الْعلم وَالله درهما وَهَكَذَا فلتكن العزائم وَهَذِه وَالله هِيَ المناقب ولمثلها فليعمل الْعَامِلُونَ وفيهَا فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ
-النور السافر عن أخبار القرن العاشر-لمحي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروس.