مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي
حاجي خليفة
تاريخ الولادة | 1017 هـ |
تاريخ الوفاة | 1068 هـ |
العمر | 51 سنة |
مكان الولادة | استانبول - تركيا |
مكان الوفاة | استانبول - تركيا |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
كاتب جلبي أو حاجي خليفة حياته ومؤلفاته
1017 - 1068 هـ / 1609 - 1657 م
كاتب جلبي أو حاجي خليفة [وكلمة خليفة في المصطلح العثماني تعني آمر القلم ورئيسه]، كما يُعرف بلقبيه المختلفين، هو واحد من أبرز علماء المسلمين في القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي. وهو -كما يتضح من ترجمته التي تضمنتها هذه المقدمة- رجل صَرَفَ همّته وقضى عمره في تحصيل العلم ونشره. بدأ يطلب العلم منذ نعومة أظفاره، وظل يشتغل به طيلة حياته في الحضر والسفر، وفي الحرب والسلم، حتى وَافته المنية وهو منكب على الكتب.
وهو أنموذج واضح لشخصية المثقف العثماني التركي الذى بدأ حياته العلمية بتعلم القرآن الكريم، وتحصيل علوم العربية، والتخصص في علوم الدين، والتمرّس بالعلوم الرياضية والطبيعية، مع إتقان للغة الفارسية وأدبها إلى جانب إتقانه للغة العربية. وقد ألف -كعادة العلماء العثمانيين الأتراك ومن سار على نهجهم من مثقفي الدولة العثمانية غير الناطقين بالعربية- باللغتين العربية والتركية في آن معًا. كذلك فإن الأسلوب المسجع الذي هو القاسم المشترك في كافة النصوص النثرية الكلاسيكية التي كتبت في القرنين السادس عشر والسابع عشر لا نجده في أعماله إلّا في القليل النادر، ولكي نعثر عليها لا بد لنا من تقليب عدة صفحات. فهو لا يعبأ بتزويق أفكاره ومباحثه الجدلية، ولا يعنى باستخدام التعابير والألفاظ الغريبة، أي أنه لا يتعسف في اختلاق الألفاظ والتراكيب، وإنما يميل إلى الكتابة بأسلوب واضح مختصر، ونادرًا ما يستخدم الجناس والتشبيه في الجملة.
وإن المؤلفات العديدة التي خَلّفها لنا كاتب جلبي، والتي سوف نأتي على ذكرها باختصار، تنم عن معرفة موسوعية، وعن عمق في تمثل التراث الحضاري الإسلامي. ولاشك أن كتابه "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" - الذي صار مرجعًا أساسيًا لا غنى عنه لدارسي الحضارة الإسلامية عنه- وإحاطته بالتراث الحضاري الإسلامي هو خير دليل على موسوعية كاتب جلبي، وربما لا يعدله في هذه الشمولية بين مؤلفاته إلا كتاب "سُلّم الوصول إلى طبقات الفحول" الذي نحن بصدد تحقيقه ونشره لأول مرة. كما تدلنا كتبه التي ضمّنها أفكاره في ذلك العصر، حول حاضر الدولة العثمانية، كما خَبَرَها من خلال عمله في الجهاز البيروقراطي في العاصمة إستانبول، أو عمله الإداري في الحملات العسكرية، على عقلية نقدية موضوعية، ونظرة تحليلية، وإن له من الآراء ما يعتبر شاهدًا حيًّا على الشعور القَلِق بين طبقة المثقفين العثمانيين من التحول في ميزان القوى الذي حصل بين الدولة العثمانية والقوى الأوربية في ذلك الحين، ومن بوادر الضعف والخلل الذي أصاب الدولة العثمانية، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها.
أما البعد الثالث في شخصية كاتب جلبي- والذي نعتبره من أهم العناصر في تكوينه الفكري- فهو انفتاحه على الثقافة الأوربية، واهتمامه بها، وعمله الدؤوب على نقل بعض المؤلفات الأوربية من كتب التاريخ والجغرافيا، ومحاولاته في الاستفادة من المصادر الغربية في كتاباته. وهو بعمله هذا يعتبر من أوائل الرُّواد في الحضارة الإسلامية في عصره، ممن بادروا بالاتصال بالغرب، وحاولوا فهم السبل التي أدت إلى تقدمه، وبداية تفوق الأوربيين على العالم الإسلامي، الذي كانت تمثله آنذاك الدولة العثمانية. ولم يقتصر عمل كاتب جلبي على الترجمة أو النقل من اللغة اللاتينية إلى إحدى اللغتين العربية أو التركية، وإنما كانت له نظرات ومقارنات بين الحضارتين الإسلامية والأوربية، أوردها شذراتٍ متفرقات في العديد من مؤلفاته، مما يدل على إحساس مبكر منه بسبق الأوربيين للعثمانيين في مجال الثقافة.
ومن السمات المهمة التي جعلته يحوز مكانة متميزة هي همه في البحث عن الحقيقة، فهي ضالته التي انشغل بالعثور عليها، ثم شجاعته في عرض أفكاره والدفاع عنها، وشجاعته في التناول المحايد للموضوعات الخلافية والجدلية. ولعل ذلك هو الذي جعله يحظى بمكانة متميزة في الشرق والغرب، فتحدث الغربيون عنه وعن أعماله بالإعجاب الشديد، حتى وصفه أحد المستشرقين بأنه "السيوطي" التركي وقد ترك على الكتاب العثمانيين أثرًا كبيرًا، مما حدا ببعضهم أن يقتفي أثره، ويسير على نهجه، فهناك شهري زاده في كتابه (نو بيدا)، ونعيما في تاريخه. ومع ذلك فإن قيمته العلمية الحقيقية لم تظهر في تركيا إلّا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخاصة منذ كتب عنه عدد من الكتاب والمفكرين الأتراك بعض البحوث والمقالات ابتداءً من الرسائل المستقلة التي كتبها بورصه لي محمد طاهر بك، عن حياته، ثم المقالات التي تركزت بوجه خاص حول نظراته العقلانية وأفكاره المتحررة التي جاء بها كتابه "ميزان الحق".
إن كتبه الأخرى في التاريخ والجغرافيا، وكتبه التي حملت آراءه حول الدولة والمجتمع والحياة العلمية والثقافية في أيامه جديرة بالتحقيق المنهجي، والدراسة العلمية المتأنية، والنظرة المتعمقة لمعرفة أدق للوضع الثقافي والمستوى الحضاري الذي كان عليه العالم الإسلامي في القرن السابع عشر، والذي لم يكن أبدًا مثلما زعم البعض منذ أواخر القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين، قرنًا آخر من القرون المظلمة في تاريخ الإسلام، بل على العكس كان يزخر بالنشاط الفكري والعلمي، ويسود المثقفين فيه إحساس بضرورة مراجعة النفس والاتجاه إلى النقد الذاتي.
حياته:
إن الأساس في التعرف على حياة كاتب جلبي هو ما استمددناه من ترجمته هو لنفسه في نهاية كتابيه "سُلّم الوصول إلى طبقات الفحول" و "ميزان الحق في اختيار الأحق". ثم من المعلومات التي سردها في مواضع مختلفة من مؤلفاته كلما وجد لذلك مناسبة، ومن بعض الملاحظات والإشارات المقتضبة، وغير ذلك من الشوارد التي لا تُقَارَنُ بما جاء في كتابيه المذكورين. فعندما نضم هاتين الترجمتين إلى تلك الملاحظات والإشارات يمكننا الحصول على سيرته وحياته بشكل كاف، وهو ما فعله المرحوم الأستاذ أورخان شائق كوكياي في دراسته المطولة عن صاحب الترجمة، والتي اعتمدناها أساسًا لهذه المقدمة.
أصل اسمه مصطفى، واسم أبيه عبد الله، وهو يكتفي على غير العادة بذكر اسم والده فحسب، وكانت شهرته بين علماء المدينة باسم "كاتب جلبي"، وبين أهل الديوان باسم "حاجي خليفة" [وكلمة خليفة في المصطلح العثماني تعني آمر القلم ورئيسه] وهو حين يعرِّف بنفسه يقول إنه "حنفي المذهب إشراقي المشرب". وقد ولد -حسبما ذكرته والدته- في شهر ذي القعدة عام 1017 هـ (فبراير/ شباط 1609 م) في مدينة إستانبول، حيث كانت دارهم أيضًا. وهو بحسب قوله: "قسطنطيني المولد والدار". وعمل والده في قسم الـ (أندرون) (الاندرون: هو القسم الداخلي في السراي العثماني، وبمثابة المدرسة التي تقوم في إطار نظام محكم على تنشئة فئات مختلفة ممن سيعملون في وظائف الدولة) بالسراي العثماني، ثم "خرج" منه بوظيفة ملحقة بزمرة السلحدارية (السلحدارية: مجموعة من كبار الضباط الذين يحتفظون بأسلحة السلطان في القصر، ويحملونها له عند خروجه الى الحرب)، وقنعت نفسه بتلك الوظيفة، فكان يشارك في الحروب والأسفار، وكان على دين وخلق، مواظبًا على مجالس العلماء والشيوخ، حتى إن ليله كان يقضيه في العبادة. ولما بلغ ابنه الخامسة أو السادسة من عمره اتخذ له معلمًا يعلمه القرآن وتجويده، هو الإمام عيسى خليفة القريمي، فتعلم على يديه قراءة القرآن والمقدمة الجزرية في التجويد، كما تعلم مبادئ الصلاة. ثم أسمعه بعد ذلك ما قرأه عليه وحفظه في دار القراء التي تعرف باسم مؤسسها مسيح باشا بإستانبول. وتعلم أيضًا على يدي زكريا علي إبراهيم أفندي، ونَفَس زاده مصطفى أفندي (ت 11 ذو القعدة 1011 ص)، واكتفى بحفظ نصف القرآن.
وقرأ بعد ذلك كتابي التصريف والعوامل على إلياس خوجه، وتعلم الخط على يدي الخطاط أحمد جلبي الأحدب (بوكرى). ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره بدأ والده يمنحه مصروفًا يوميًا قدره أربعة عشر درهمًا من راتبه، ثم اصطحبه إلى جانبه. وعلى هذا النحو انخرط للعمل مساعدًا (شاكرد) في "قلم محاسبة الأناضول" أحد أقلام الديوان الهمايوني (الديوان الهمايوني: هو الهيئة التنفيذية العليا التي تتولى إدارة شؤون الدولة في شتى المجالات تحت رئاسة الصدر الأعظم) (1032 هـ / 1622 - 1623 م). وهناك تعلم مبادئ الحساب من أحد خلفاء القلم، وتعلم معها الأرقام وخط "السياقت" (نوع من الخط لا يستخدم التنقيط، ويأخذ شكلًا رمزيًا لا يعرفه إلّا من تعاطوه. وقد استخدمه العثمانيون بوجه خاص في شئون الحسابات والمالية) فأجاده حتى تقدم على أستاذه، أي "الخليفة" نفسه. ولما غادر الجيش إستانبول عام 1033 هـ / 1623 - 24) لإخماد ثورة أباظة باشا سافر مع والده ليشارك في حملة ترجان. وكان آنذاك في آلاي السلحدار. وفي الوقت الذي حمي فيه وطيس الحرب مع اباظة باشا بالقرب من قيسري في 22 ذي القعدة 1033 هـ (7 سبتمبر/ أيلول 1624 م)، سنحت له الفرصة من فوق ربوة عالية "أن يشهد بعينيه عن كثب أحوال تلك الحرب".
ويقول في كتابه (فذلكه) وهو يروي قصة المعركة تلك مجددًا بها الذكرى: "وكان الفقير [يقصد نفسه كعادة العلماء العثمانيين عند الحديث عن أنفسهم تواضعًا] واقفا في ذلك المحل، فرأيت الباشا المرحوم الصدر الأعظم (طباني ياصِّى محمد باشا) وقد وضع على رأسه خوذة محلاة بماء الذهب، ولا يزال صليل رمحه في أذني إلى الآن". وشارك كاتب جلبي في حملة العراق عام 1035 هـ ـ (1625 - 1626 م)، وفي 12 رمضان من نفس العام (7 يونية / حزيران 1626 م) فتسلق برجًا عاليًا خلف جناح السلحدارية، وشاهد سير المعركة، وكانت طلقات المدافع من برج الأعاجم تمر من فوقه، رغم بعد المسافة. واستمر الحصار هناك تسعة أشهر، وشهد بعينيه كيف تكون ضراوة الحروب. ونتيجة لغلبة الخصم بسبب القحط انقطع الأمل وبدأت رحلة العودة، وعندها عانى من الضيق أعظمه مع الجميع. ولكنه راح يسلي نفسه متعللًا بأن البلية إذا عمت طابت.
وقد أوجز كاتب جلبي تصويره المؤلم لتلك العودة بقوله: "لم تكن المشقة التي عاناها عساكر الإسلام في هذا الطريق شيئًا حدث في التاريخ من قبل"، ولما بلغوا مدينة الموصل توفي والده في شهر ذي القعدة عام 1035 هـ (أغسطس- سبتمبر 1626 م)، ودفن هناك في مقبرة الجامع الكبير. ولم يمض شهر آخر حتى توفي عمه عند موضع (جَرّاحْلو) بالقرب من نصيبين. وعلى هذا رجع كاتب جلبي إلى ديار بكر مع أحد أقربائه، ومكث هناك مدة. وقام أحد زملاء والده ويدعى أحمد خليفة بتعيينه مساعدًا في "قلم مقابلة السواري". (هو أحد أقلام الديوان الهمايوني، وكانت مهمته مسك دفاتر جنود سواري القبوقولية، وتنظيم تذاكر علوفاتهم ورواتبهم).
وفي عام 1037 هـ (1627 - 1628 م) عاد إلى إستانبول، وراح يواظب على دروس قاضي زاده منلا قاسم (ت 899 هـ / 1494 م). ثم شارك بعد ذلك في حصار مدينة أرضروم، وبعد الحصار الذي دام سبعين يومًا بلا طائل لقي مع غيره عناءً كبيرًا في الطريق إلى توقاد، فقد تجمدت أيادي وأرجل الغالبية من شدة البرد وبترت بعضها، ومات من مات، وتعرض هو خلال تلك الكارثة للكثير من المحن والآلام "التي لم تحدث من قبل".
وفي عام 1038 ص (1628 - 1629 م) حضر مدة إلى إستانبول، وراح يواظب على دروس قاضي زاده منلا قاسم (ت 899 هـ / 1494 م)، وتأثر به كثيرًا، فقد كان الرجل عالمًا طلق اللسان عظيم التأثير في نفوس سامعيه، يحضهم على طلب العلم والتخلص من الجهل، فجعله يتعلق به" وجذبه إلى طريق الشغل وتحصيل العلم جذبة وأي جذبة". وبدأ يتذاكر معه العلوم العالية التي درسها من قبل، وظل مداومًا على دروسه ووعظه حتى خرج للحرب مرة أخرى مع خسرو باشا. وفي عام 1039 هـ (1629 - 1630 م) كان في حاشية خسرو باشا مشاركًا إياه في حملتي همدان وبغداد، وقد رَوَى فيما بعد ما تعرضوا له أثناء تلك الحرب، وأشار إلى المدن والمواقع التي استولوا عليها، مثل قلعة كلعنبر وحسن آباد وهمدان وبستون وغيرها، وذلك في كتابه الكبير في الجغرافيا المعروف باسم (جهاننما) وفي كتابه (فذلكه). وعقب حرب همدان في عام 1040 هـ (1630 - 1631 م) رافق الجيش عندما نزل به خسرو باشا إلى بغداد.
ويذكر كاتب جلبي حصار الجيش العثماني لبغداد الذي بدأ في 22 صفر 1040 هـ (30 سبتمبر 1630 م) في كتابه (فذلكه)، فيقول إنه بسبب الأمر الصادر خلافًا للقاعدة العامة جاء الجيش كله إلى قرب المتاريس ورابط هناك، فارتبك الجميع ورفعوا خيامهم ثم نصبوها خلف المتاريس، وقام كل واحد بحفر خندق أمام خيمته، ثم يصور كاتب جلبي الأمور ببعض الصور الحية عندما يقول: "وكنا نقوم بتكويم القرب الجرداء ونفتح دفتر المقابلة ونجلس وراءه، وفي الليل نحفر حفرة ننام فيها مثل القبر".
وفي عام 1041 هـ (1631 - 1632 م) عاد كاتب جلبي مرة أخرى إلى إستانبول، وراح يواظب على دروس قاضي زاده، وقرأ عليه التفسير وإحياء العلوم، وشرح المواقف، والدرر، والطريقة المحمدية.
وفي عام 1043 هـ (1633 - 1634 م) عندما انسحب الجيش تحت قيادة الوزير الأعظم محمد باشا إلى حلب لقضاء الشتاء هناك سافر كاتب جلبي من حلب إلى الحجاز، وفي عودته كان الجيش آنذاك في ديار بكر فقضى فصل الشتاء في تلك المدينة بمصاحبة بعض العلماء والتباحث معهم.
وفي عام 1044 هـ (1634 - 1635 م) سافر مع السلطان مراد الرابع في حملته على رَوَان، وروى لنا بالتفصيل مشاهداته وانطباعاته عن تلك الحرب.
وبعد أن قضى قدر عشر سنوات يصاحب الجيش في الحروب والحملات المختلفة، و"تم له بذلك أمر الحج والجهاد" عاد إلى إستانبول بقصد التفرغ الكامل لتحصيل "العلم الشريف"، والانتقال من "الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" كما هو شائع. وفي إستانبول أنفق على شراء الكتب إرثًا صغيرًا كان له. وكان أثناء إقامته في حلب قد بدأ يسجل أسماء الكتب التي يراها في حوانيت الوراقين، وكان يميل بطبعه إلى مطالعة كتب التاريخ والطبقات والوفيات أكثر من غيرها، حتى استكمل قراءة كل ما وقع تحت يده منها في عام 1046 هـ (1636 - 1637 م). ولما توفي أحد أقربائه عام 1047 هـ (1638 م) وكان تاجرًا ثريًا ورث عنه عدة أحمال من الأقجه (اسم العملة العثمانية)، فانفق قدر ثلاثة منها على شراء الكتب، والباقي على تعمير وإصلاح دار له كانت تقع في الجانب الشمالي لجامع الفاتح (هو الجامع الذي بناه فاتح إستانبول السلطان محمد الثاني)، وفي موضع متوسط بين الجامع المذكور وجامع السلطان سليم، ثم تزوج في السنة نفسها.
ولأنه كان قد عزم على الانقطاع للبحث والتأليف لم يشارك هذه المرة في حملة السلطان مراد الرابع على بغداد، وراح يواظب على دروس مصطفى أفندي الأعرج الذي اشتهر بالعلم والفضل، فقد وجد في ذلك الرجل عِلْمًا وفيضًا يزيد عما وجده لدى كل العلماء الذين حضر دروسهم من قبل، فاتخذه أستاذًا له. كما أبدى الأستاذ أيضًا اهتمامًا بكاتب جلبي يزيد عن اهتمامه بباقي طلابه. وقد قرأ على هذا الأستاذ الأندلسية في العروض، وهداية الحكمة (حتى نهاية الباب الرابع)، والملخص في علم الهيئة، وأشكال التأسيس في علم الهندسة مع شرحه.
وفي عام 1049 هـ (1639 - 1640 م) واظب على سماع دروس الشيخ كُرْد عبد الله واعظ جامع آياصوفيا، وانتقل في العام التالي إلى سماع دروس الشيخ كجه جي محمد أفندي واعظ جامع السليمانية.
أما في عام 1052 هـ (1642 - 1643 م) فقد قرأ على الواعظ ولي أفندي نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر العسقلاني، وبدأ يسمع دروسه في النخبة أيضًا والألفية. واستطاع في عامين أن يكمل أصول الحديث. ولأن هذا الواعظ كان قد أخذ هذا الفنّ عن الشيخ إبراهيم اللقاني في مصر، فإن كاتب جلبي كان يعد نفسه تلميذًا للأخير بالواسطة. كما قرأ كتاب تلخيص المفتاح على المولى ولي الدين تلميذ المولى أحمد حيدر السُّهْرَاني ومفتي أَرْمَنَاك، وقرأ كتاب الفرائض للإمام سراج الدين محمد وشمسية كاتبي في المنطق.
والتقى عدة مرات بالشيخ المصري سري الدين الرضا الذي جاء إلى إستانبول عام 1057 هـ (1647 م) وسمع بعض دروسه. وظل كاتب جلبي قدر عشر سنوات منكبًا ليل نهار على القراءة والبحث، وقد ينسى نفسه أحيانًا مع كتاب، ويظل الشمع مشتعلًا في غرفته من مغيب الشمس إلى مطلعها، فلا يكل ولا يمل أبدًا. وكان يتردد عليه في تلك الآونة بعض الطلاب ليتعلموا على يديه.
واستطاع في عام 1055 هـ (1645 - 1646 م) أن يشهد بنفسه بمناسبة حملة الجيش العثماني على جزيرة كريت كيف يجري إعداد الخرائط ورسْمها، ورأى الكتب المؤلفة في ذلك الموضوع، واطلع على كافة الخرائط. وفي تلك الأثناء حصلت قطيعة بينه وبين كبير موظفي قلم المقابلة (باش خليفه)، لأنه قال له "إن العادة الجارية عند السلف هي تبديل النوبة على خلافة هذا القلم كل عشرين سنة، فهل النوبة لم تأت بعد علينا بحسب أصول الطريق"، فلما رد عليه "الباش خليفة" بأن النوبة "مدى الحياة"، بادر هو بطلب الاستعفاء. وعاش نحو ثلاث سنوات منزويًا بعيدًا عن الحياة الوظيفية، وكان يدرس عليه في تلك الأثناء عدد من الطلاب في موضوعات مختلفة، لكنه مرض، فكان يقرأ كتب الطب، وطالع أيضًا كتب الأسماء والخواص بقصد البحث عن سبل ووسائل للتداوي من ناحية، والتنقيب عن الشفاء بالطرق الروحانية من ناحية أخرى.
وكان ينعزل عن الناس، ويتقرب إلى الله ثقة منه أن دعواته إليه بقلب سليم سوف تأتي بالنتيجة. وفي أثناء عام 1057 هـ (1647 م) قام بتدريس شرح الأشكال في الهندسة والمحمدية لعلي قوشجي في الحساب لكل من مولانا محمد بن أحمد الرومي ولولده هو نفسه، كما علمهما من الزيج قاعدة استخراج دستور التقويم.
وفي أواخر عام 1058 ص (1648 م) حصل على وظيفة "الخليفة الثاني" في القلم الذي كان يعمل فيه، وذلك بتوصية من شيخ الإسلام عبد الرحيم أفندي إلى الصدر الأعظم قوجه محمد باشا بسبب كتاب تقويم التواريخ، وذلك رغم ما بذله المعارضون له من مساعٍ لرفض طلبه وجهود مادية ومعنوية للحيلولة دون ذلك. وكان عبد الرحيم أفندي هذا صديقًا ودودًا له، مطلعًا على سرّه، يحادثه في شئون الدولة، ويستعين بمشورته في موضوعات شتى. والشاهد على ذلك أنه أفتى بأن كتاب ميزان الحق كتاب مفيد. وقنع كاتب جلبي بما كان يتقاضاه من نقود تكفيه على معيشته، ولم يطلب المزيد. وقد ظهر عدد كبير من مؤلفاته في غضون تلك السنوات الأخيرة، كما استطاع بمساعدة الشيخ محمد إخلاصي (الشيخ محمد إخلاصي هو الراهب الفرنسي الذي اهتدى إلى الإسلام) أن ينقل إلى التركية بعض الكتب اللاتينية.
وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة عام 1067 هـ (6 أكتوبر 1657 م) شعر كاتب جلبي بضيق وهو يشرب قهوة الصباح، فسقط الفنجان من يده ومات فجأة. وكان قد كشف عن ذلك من قبلها لزوجته وخادمه، فقال لهما بعد أن سيطر عليه الخوف عندما أكل بطيخًا فجًّا في تلك الليلة، ثم اغتسل في الصباح بماء بارد: "ماذا يا ترى، فقد فعلنا أشياء تُنَاقِضُ بعضها بعضًا، حفظنا الله تعالى من الضر". وتكررت نفس الأقوال سببًا للوفاة في نسخة من كتاب ميزان الحق جرى استنساخها عام 1138 هـ، ولكن يضاف إلى الحادثة بعض التفاصيل. إذ تقول الروايات التاريخية إن كاتب جلبي قد فسدت معدته بسبب البطيخ غير الناضج الذي أكله مساءً، فذكر أن في صدره ألمًا ظهر، "فاستعمل بعض المعاجين والمسهلات، وبينما هو يشرب القهوة بعدها تغيرت حاله، وسقط الفنجان من يده، وراح وهو في هذا الاضطراب يفتش بغير حيلة في كتب الطب، وإذا به يموت فجأة".
وهناك تباين في بعض المصادر حول تاريخ وفاته، إذ يُلاحظ أن تاريخ الوفاة في هذه المخطوطة كان مكتوبًا على شكل (1067) ثم تم مَسْحه من بعد وجُعل على شكل (1068). كما ذكر محمد عُبَيْدي في (تذكره شكوفجيان) التي تحمل اسم (نتائج الأزهار) أن كاتب جلبي توفي عام 1074 هـ (1663 - 1664 م) وهو خطأ. بينما يذكر مستقيم زاده في مجلة النصاب أنه توفي في أدرنة عام 1064 هـ وهذا خطأ أكبر. والواقع أن هذه المخطوطة كتبت بخط بديع الجمال، إلّا أن عدم معرفة الناسخ للعربية جعلتها تفيض بالأخطاء.
ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دانشمند تاريخ وفاته على أنه 15 من ذي الحجة 1068 هـ (24 سبتمبر 1657). إلّا أنه لا يذكر كالعادة المصدر الذي اعتمد عليه.
ويقع قبر كاتب جلبي في مقبرة صغيرة تلاصق سبيل مياه في أسفل مدرسة بالقرب من جامع زَيْرَك بإستانبول، وهناك صورة فوتوغرافية لشاهد قبره القديم، نشرها شرف الدين يالتقايا في مقدمة كشف الظنون. وفي عام 1953 م شُيِّدت له مقبرة جديدة ونُقِشَ على شاهدها الجديد اسمه وتاريخ وفاته.
شخصيته:
يقول محمد عزتي بن لطف الله الذي اشترى معظم مؤلفات كاتب جلبي ومسوداتها من تركته عقب وفاته بعامين إنه كان رجلًا صاحب همّة، حَسَنَ الطباع، قليل الحديث، حكيم النزعة.
ويصفه عشاقي زاده الذي صاحبه في شبابه- في عدة أبيات من الشعر التركي تقول:
مع الزاهد والعابد رفيق وشريك مشرب واحد
يرى لكل قاعدة ما يناسبها
وأرْسَلَ على هؤلاء المتعلمين الجدد
صوته الشجي كالناي حسنًا
ولم يك قعيدًا كالدجاجة ليلًا عند مسقاها
وهو صغيرٌ مع الصغير كبيرٌ مع الكبير
وقد حظي كاتب جلبي بسمعة طيبة، ونال تقدير الناس واحترامهم في حياته وبعد مماته، ولم يخرج على ذلك إلّا رجل يدعى الشيخ محمد نظمي في كتابه الذي ألفه عام 1108 هـ (1696 م) تحت عنوان "هدية الإخوان وعبرة الخلان"، فقد كتب عن العلاقة التي كانت بين قاضي زاده والشيخ السيواسي، وتعرض وهو يترجم لحياة الثاني لكاتب جلبي، فَقَدَحَهُ بلسان غليظ. والحق أن مؤلفات كاتب جلبي كلها تشهد على روحه السمحة، وموضوعيته في النقد، وحياده بين الأطراف المختلفة. فقد كان كاتب جلبي رجلًا وقورًا ينفر من الهجاء، ولم يتحدث في كتابه عن الهزل والمزاح إلّا قليلًا، إذ كان يعرف للأخلاق السامية قدرها، ولهذا امتدح كتاب (اخلاق علائي) في الأخلاق والحكم والسياسة بما لم يمتدح به كتابًا آخر، وامتدح مؤلفه قنالى زاده علي أفندي، فقال "هو أحسن من الجميع في نفس الأمر، شكر الله سعي مؤلفه، وجعله مثابًا ومأجورًا بسبب هذا التأليف الحنيف والتحرير اللطيف، ولعمري إنه كامل أخلاقه طيب أعراقه، من الأفاضل الأفراد، وآثاره تجذب بيد لطفها عنان الفؤاد". ونعلم أيضًا أنه كان من أصحاب الذوق الرفيع، إذ يهوى تربية الزهور، وكان يزرع نوعًا من السنبل الأزرق كثير الأوراق.
أعماله:
1 - فذلكة أقوال الأخيار في علم التاريخ والأخبار (بالعريية):
وهو أول كتاب شرع في تأليفه فكتبه بالعربية، ويضم مقدمة وثلاثة أصول وخاتمة، وهو في التاريخ الإسلامي العام. وتضم المقدمة أربعة فصول، يتحدث أولها عما يحتويه الكتاب من فصول وأبواب. ويتحدث الفصل الثاني عن معنى التاريخ وموضوعاته وفوائده. بينما يتعرض الفصل الثالث لأسماء الكتب التي كتبت في ذلك الموضوع، مرتبةً بحسب الترتيب الألفبائي، وتبدأ بالكتب العربية ثم الفارسية ثم التركية. أما الفصل الرابع فهو يتعرض لذكر القواعد والأصول التي يجب على المؤرخ الالتزام بها في الكتابة. وفي الأصل الأول الذي قسمه إلى قسمين، ثم جعل كل قسم إلى ثلاثة فصول، تحدث في أولهما عن بداية خلق المخلوقات، وفي الثاني عن الأنبياء والرسل، وفي الثالث عن الخلفاء الراشدين الأربعة. أما القسم الثاني فقد تحدث في فصله الأول عن الحكام الذين حكموا قبل ظهور الإسلام، وفي الفصل الثاني عن الحكام الذين جاءوا بعد الإسلام، مرتبين بحسب القرون، وفي الفصل الثالث عن المتغلبة، والخوارج، وعمن ادعوا النبوة، ثم يردف ذلك بتتمة جمع فيها بعض المعلومات النافعة.
وفي القسم الأول من الأصل الثاني تحدث عن "الأمور الكلية لأحوال البشر"، فقسمه هو الآخر إلى ثلاثة فصول، تحدث في الفصل الأول عن هيئة الأرض والأقاليم، وفي الفصل الثاني عن الأقوام المختلفة وقبائل العرب، وفي الفصل الثالث عن الأسماء والألقاب والكنى والأنساب والوفيات وقواعد كل ذلك. وجعل القسم الثاني مخصصًا للمدن والرجال الذين تحدث عنهم في القسم الأول مرتبين بحسب الترتيب الألفبائي. أما الأصل الثالث والأخير فقد جعله للأحداث والوقائع التي مرت منذ الهجرة النبوية حتى حياة المؤلف، أي حتى عام 1000 هـ (1591 م) وذلك بترتيب السنوات. والملاحظ أنه استفاد من تاريخ الجنّابي المعروف بالعيلم الزاخر في الأول والآخر. وقد فرغ المؤلف من كتابته في آخر شهر ربيع الآخر عام 1052 هـ (يوليه 1642 م). والنسخة الوحيدة الموجودة منه هي نسخة المؤلف المحفوظة الآن في مكتبة بايزيد العمومية تحت رقم (10318).
2 - فذلكه (بالتركية):
وقد كتبه ذيلًا للكتاب الأول، فهو في التاريخ، ويبدأ من أول عصر المؤلف، أي قبل مولده (1017 هـ / 1609 م) من عام 1000 هـ (1591 م) إلى عام 1065 هـ (1654 م). وقد رتب الأحداث فيه على السنين، وجعل في نهاية كل سنة ذكر موجز لوفيات رجال الدولة وحياة المشاهير من العلماء والشعراء، كما تحدث عن مؤلفات مَنْ له مؤلفات منهم. واستفاد من الكتب الأخرى في الأحداث التي لم يشهدها، ولا سيما حسن بكزاده، كما نقل عن بجوي وجَرّاحْزَاده وبيري باشا زاده وفخري. وينتهي الكتاب بحادثة عصيان إبشير باشا عام 1065 هـ (1654 م). وقد طبع ذلك الكتاب في مجلدين في مطبعة جريدة الحوادث بإستانبول (المجلد الأول 412 هـ سنة 1286 م، والمجلد الثاني 398 هـ سنة 1287 م).
3 - تحفة الكبار في أسفار البحار (بالتركية):
كان كاتب جلبي قد حضر حرب كريت التي بدأت عام 1055 هـ (1645 م)، فشاء أن يروي الأحداث والوقائع التي مرت منذ العهد العثماني الأول حتى عام 1067 هـ (1656 م)، وهو العام الذي شرع فيه كتابة هذا الكتاب، سواء في البر أم البحر. فقد شهد المؤلف بعينيه الهزائم والانكسارات التي لحقت بالعثمانيين، ومدى طغيان الأعداء وغرورهم، وكل ذلك نتيجة للتدابير الناقصة والأخطاء التي ارتكبها المسئولون، فروى من خلال هذا الكتاب حياة قباطنة الماضي الشجعان وحروب قراصنة البحر والمجاهدين، ثم الآراء والتدابير التي كان يتخذها بعض المسئولين والعقلاء، مستهدفًا تنبيه العثمانيين وإنقاذهم من حالة الفتور التي وقعوا فيها. ولهذا السبب كان -وهو يتحدث بخاصةٍ عن الهزائم التي تعرض لها العثمانيون في بداية حملتهم على جزيرة كريت- يشير بإيجاز إلى أسباب كل هذه الهزائم، والسبل الكفيلة للحيلولة دون وقوعها، من خلال كشفه للأخطاء وسوء التدبير. وقد تم طبع ذلك الكتاب في غرة ذي القعدة 1141 هـ (1729 م) في مطبعة إبراهيم متفرقة، وكان ترتيبه الثاني بين الكتب المطبوعة آنذاك، كما زوّده إبراهيم متفرقة بسبع صفحات للمندرجات وصحيفتين لأخطاء الطباعة وعدة خرائط مهمة وأشياء أخرى. وكانت طبعته الثانية عام 1329 هـ (1919 م) في مطبعة البحرية (12+166+ 2 ص). وقد صدرت له مؤخرًا طبعة محققة نشرها الدكتور إدريس بستان.
4 - تقويم التواريخ (بالتركية):
وهو تاريخ إسلامي عام، يضم الوقائع والأحداث التي ذكرتها التواريخ المختلفة، منذ هبوط آدم -عليه السلام- إلى الأرض حتى عام 1058 هـ (1648 م)، وهو بمثابة جدول زمني أو ثبت بالأحداث التي مرت في الكتب التي كتبها قبل ذلك، وخاصة كتاب الفذلكة العربي، وفرغ من كتابته في شهرين عام 1058 هـ (1648 م). وهو الكتاب الذي أرسل إلى الصدر الأعظم قوجه محمد باشا في نفس سنة الفراغ منه بواسطة شيخ الإسلام عبد الرحيم أفندي، وتمت عندئذ ترقية كاتب جلبي إلى درجة الخليفة الثاني. وللكتاب عدة ذيول، أولها الذي كتبه محمد شيخي أفندي ووصل به حتى عام 1144 هـ (1731 م)، والذيل الثاني هو الذي كتبه إبراهيم متفرقة ووصل به حتى عام 1146 هـ (1733 م)، ثم قام إبراهيم متفرقة بطبع الكتاب الأصلي مع هذين الذيلين عام 1146 هـ (يونيه 1733 م).
5 - تاريخ فرنكى ترجمه سى (بالتركية):
وهو ترجمة تركية لكتاب يوهان كاريون Johann Carion بعنوان، chronik، وقام بهذه الترجمة كاتب جلبي مع الشيخ محمد إخلاصي في إستانبولى عام 1065 هـ (1154 م)، ثم أضيفت لتلك الترجمة بعض ذيول مختصرة أخرى. وقد فعل فيه مثلما فعل في كتاب "لوامع النور" تمامًا، ولأن قصد المترجم ليس هو الترجمة المباشرة، بل ليكون إضافة يضعها على الأعمال التاريخية الأخرى التي كتبها فلم ينظر لتحسين عباراته ولم يراع نظام الكلام وقواعده. وصرح بأنه سوف يقوم بتصحيح الأخطاء الواقعة وهو يضيف تلك الترجمة إلى التواريخ الأخرى. وبعد الترجمة التي تشغل 188 صحيفة من هذه الحولية تأتي عدة ذيول أضيفت إليها. ويضم الذيل الأول حديثًا عن السلطان سليمان القانوني وطرد المسلمين من إسبانيا وإرغام قسم منهم على تغيير دينه. وهذا الذيل تم نقله عن تاريخ الراهب الروماني هوراتيوس تورسللينو Horatius Torsellino. ثم يلي ذلك ذيلان آخران.
6 - تاريخ قسطنطينيه وقياصره (رونق السلطنة) (بالتركية):
وهو كتاب نقله كاتب جلبي ترجمة واختصارًا "من كتاب كبير" حسب قوله، ليضم حوادث وقعت في الشرق حتى سنة 1579 م، وأصل الكتاب وضعه عدة مؤلفين، ثم جرى تذييله بعد ذلك بملوك مدينة القسطنطينية، وهؤلاء المؤلفون هم: يوهانس زواراس نيستاس اكومينات
Johannes Zouaras Niccestas Acominate ونيسافوروس Nicephorus Gregoras والأثيني لايونيكوس شالكونديل Laonikos Chalcondyle. والكتاب الأصلي الذي وضعه هؤلاء المؤلفون تم طبعه في فرانكفورت عام 1587 م.
7 - إرشاد الحيارى إلى تاريخ اليونان والروم والنصارى (بالتركية):
وهو كتاب تاريخ الدول المجاورة لدول المسلمين، وفي تاريخ حكامها ونظم الحكم فيها. جمعه كاتب جلبي من الكتب الأجنبية التي حاول ترجمتها، مثل أطلس مينور وغيره، بقصد تعريف المسلمين بأحوال وأوضاع تلك الدول. وهو عبارة عن رسالة تقع في 58 ورقة، وتضم مقدمة وعدة فصول. وكان قد بدأ كتابتها في الرابع عشر من كانون الثاني عام 1654 م، وجعلها على قسمين، تحدث في الأول عن الأديان في أوربا، بينما خصص الثاني لعادات وقوانين الحكام فيها، كما تحدث عن نظم الإدارة والديمقراطية والجمهورية وأصول الانتخاب، وغير ذلك مما تقدم الغرب فيه وعلاقاتهم بالعثمانيين.
8 - جهاننما (ومعناه: مرآة العالم) (بالتركية):
وهو كتاب يحوز أهمية تتجاوز تصور العثمانيين للجغرافيا، ونقطة تحول عظيمة من نظرة الشرقيين إلى نظرة الغربيين في علم الجغرافيا. وقد جرت ترجمته عدة مرات إلى اللغات الأوربية، وكان عونًا كبيرًا للرحالة الذين زاروا القسم الآسيوي من تركيا، لا سيما في القرن التاسع عشر. وقد جعله صاحبه على قسمين، تحدث في الأول عن البحار والأنهار والجزر، بينما تحدث في الثاني عن اليابسة، فذكر المدن مرتبة ترتيبًا ألفبائيًا، وعن الممالك التي تم اكتشافها بعد القرن السابع للهجرة (الثالث عشر الميلادي). وتم طبع هذا الكتاب في مطبعة ابراهيم متفرقة في 10 محرم 1145 هـ (3 يوليه 1732 م). فكان ترتيبه الحادي عشر في الكتب التي تم طبعها في تلك المطبعة.
9 - لوامع النور في ظلمات أطلس مينور (بالتركية):
وهو الكتاب الثاني في الجغرافيا لكاتب جلبي، وهو ترجمة لكتاب أطلس مينور الذي وضعه جيرهارد ميركاتور (G.Mercator) ول. هونديوس (Lud. Hundius). وبدأ كاتب جلبي في ترجمته عن اللاتينية بمساعدة الشيخ محمد إخلاصي في أواسط المحرم 1064 هـ (أوائل ديسمبر 1653 م). وهو يتحدث فيه عن جغرافية الدول الأوربية واحدة واحدة، ابتداءً من القطب الشمالي وجزيرة ايسلاندا، فيذكر الأنهار والجبال والمدن في خليط من المعلومات الجغرافية والتاريخية ونظم الحكم. أما الأقسام المخصصة في الكتاب لآسيا وإفريقيا وأمريكا فهي ليست بهذا التفصيل. وتوجد مخطوطات ذلك الكتاب محفوظة في أغلب مكتبات إستانبول، أما نسخة المؤلف فهي في مكتبة نورعثمانيه تحت رقم (2998) وتضم 429 ورقة.
10 - إلهام المُقَدَّس في فيض الأقدس (بالتركية):
وهي رسالة كتبها كاتب جلبي عندما كان منشغلًا بعلم الهيئة، وسيطرت على ذهنه ثلاث مسائل، فأرجعها إلى مسائل فقهية وطلب الجواب عنها من علماء عصره. الأولى هي تحديد أوقات الصلاة والصوم في البلدان الشمالية، والثانية هي إمكانية طلوع وغروب الشمس من جهة واحدة في نقطة من العالم، والثالثة هي وجود أو عدم وجود بلد غير مكة يمكن أن تكون قبلةً، مهما توجه الإنسان بوجهه. ونقل الإجابة على ذلك في المسألة الأولى من آراء فقهاء الحنفية، بينما استشهد في المسألة الثانية برأي "سدرة المنتهى" لتقي الدين أبي بكر محمد، وشرح المسألة الثالثة مستعينًا برأي مولانا خسرو حول تعريفه للقبلة.
وتوجد مخطوطات تلك الرسالة في مكتبات إستانبول.
11 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (بالعربية):
وهو المعجم الببليوغرافي الضخم الذي استغرق كاتب جلبي عشرين سنة في كتابته بالعربية، وعرف به بين العلماء والباحثين. وقد رتّبه ترتيبًا ألفبائيًا. فهو يذكر اسم الكتاب في موضعه ثم يتبعه باسم مؤلفه وتاريخ التأليف، ويذكر الكتب الأخرى المتعلقة بموضوعه، ثم شروح الكتاب ومختصراته وحواشيه، والموضع الذي مر فيه قبل ذلك أو سيمر فيه. أما الكتب التي لا تحمل عناوين فقد وضعها إما في العلم الذي ترجع إليه، وإما بعد المؤلف الذي تنسب إليه. كما تحدث ضمن تواريخ تأليف الكتب عن أبوابها والفصول التي تحتويها، وأورد فقرات من أولها لدفع الالتباس. وقد وقف في مقدمة كتابه التي قَسَّمَهَا إلى أقسام مختلفة عند ماهية العلم وقيمته وتقسيمه وتاريخه، وذكر كافة العلوم وتعريفاتها وموضوعاتها. واستفاد في تلك المقدمة من كتاب "مفتاح السعادة" لطاشكوبري زاده، كما استعان بمقدمة ابن خلدون، وغيرهما كالسبكي صاحب "الطبقات".
وقد قام المستشرق الألماني فلوجل بطبع المجلدين الأولين خلال سنوات 1835 - 1858 م في ليبزغ وفيهما النص العربي مع الترجمة اللاتينية، بينما طبعت المجلدات الخمسة الأخرى في لندن مع الكشافات. ثم ظهرت في إستانبول طبعة شرف الدين يالتقايا وكليسلي رفعت عام 1941 - 1943 م في مجلدين كبيرين بالعربية مع مقدمة بالتركية، وهي الطبعة الأكثر انتشارًا بين أيدي الباحثين. ولا زال الكتاب بحاجة إلى الإخراج في طبعة جديدة محققة مفهرسة.
وقام إسماعيل باشا البغدادي بإعداد ذيل عليه سماه "إيضاح المكنون".
12 - تحفة الأخيار في الحكم والأمثال والأشعار (باللغات الثلاث):
وهو كتاب في المحاضرات، رتبه على حروف المعجم، فهو نوع من الموسوعات، أو هو بتعريف المؤلف "سمير الخلوة". وقد جمعه من الكتب المختلفة، بثلاث لغات هي العربية والتركية والفارسية في الفلسفة والأدب، وفي الأمور المتعلقة بالعائلة وإدارة البلاد، وفي الطيور والحيوان والأعشاب، وفي المِلَحِ واللطائف والحكايات، وفي بعض النقاط المتعلقة بالنحو والصرف، وفي الأشعار والأمثال وغير ذلك.
وتوجد نسخة منه في مكتبة السليمانية (اسعد أفندي 2539/ 565 ورق).
13 - دُرر منتثرة وغرر منتشرة (بالعربية):
وهو مجموع جمعه كاتب جلبي عندما كان يقرأ ويدرس كتب الوفيات والطبقات من أجل إعداد كتابه في التراجم، فهو مختارات من نكات مفيدة ومسائل وبحوث مختلفة. ولم يطلق عليه اسمًا خاصًا في المقدمة، وإنما قال: "هو درر منتثرة وغرر منتشرة وزواهر مختلفة وجواهر غير مؤتلفة مشتملة على فوائد وافية ... الخ". فهو جمع لأمور مختلفة قد لا يربط فيما بينها رابط، مثال ذلك: النِّية، والحُلَّة، واستقبال القِبْلة، وآداب الأكل، والافتقار، والذل، والجنين في بطن أمه، واليقين، والطمأنينة، وشرط صحة الملوك، والصلاة في جوف الكعبة، وعلم الكلام، وعقوق الأستاذ، وموضوع العبادة، والسرّ المكتوم، وعيادة المريض، وذم الشعر، وتوجد النسخة الوحيدة التي هي بخط المؤلف في مكتبة نور عثمانية بإستانبول تحت رقم (4949)، وتقع في 243 ورقة.
14 - دستور العمل في إصلاح الخلل (بالتركية):
كان كاتب جلبي قد شارك هو الآخر في اجتماع الديوان الهمايوني [لسلطاني] الذي انعقد عام 1063 هـ (1653 م) بقصد بحث الأسباب التي أدت إلى تناقص الإيرادات وزيادة النفقات في ميزانية الدولة، وإيجاد حلول لعجز الميزانية الذي يقتضي جباية ضرائب العام التالي مقدمًا. وباعتباره رجلًا له تجاربه في الحرب والسلم وعِلْمه بتاريخ السلف فقد قام بوضع رسالة في هذا الصدد من مقدمة وثلاثة فصول ونتيجة، ثم جعل لها ذلك العنوان. فذكر في المقدمة أن حياة المجتمعات تشبه حياة الأفراد من حيث انقسامها إلى مراحل مختلفة، وأن لكل مرحلة خصائصها التي تتميز بها، وأن الدولة العثمانية قد ولجت مرحلة الركود، وأن على المسئولين الذين بيدهم زمام الأمور أن يروا ذلك ويتخذوا له التدابير اللازمة، وأن القاعدة العامة في علاج الخلل أن تتضمن الجانب العضوي والجانب النفسي معًا، وأن لكل مرحلة علاج خاص بها.
أما في الفصل الأول فهو يتحدث عن أحوال الرعية، فيقول إن العلماء والعسكر وأصحاب التيمار [أي الاقطاعات] والرعايا يشكلون الأركان الأربعة الأساسية في المجتمع الذي يحكمه السلطان بواسطة رجال الدولة.
ويقول إن هذه الأركان تشبه الأخلاط الأربعة في البدن، فإذا استفادت من بعضها البعض واتسق عملها صلح البدن، وصلح نظام المجتمع. ثم يشير إلى أنه رأى بعينيه حالة الخراب التي وصلت إليها كافة القرى أثناء سفره على مدى اثنتي عشرة سنة، ويعدد أسباب ذلك في فداحة الضرائب وانتشار الرشوة ومخالفة القانون، ثم يقول محذرًا: إنه في حالة الاستمرار في ذلك فلا مفر من خراب البلاد مع انتشار الثورات والمظالم.
وفي الفصل الثاني يتعرض لأحوال العسكر، فيقول إن النفقات زادت نتيجة للازدياد المستمر في أعداد العسكر، ثم جرى تخفيض عددهم إلى النصف، وكان هناك تدابير أخرى عديدة يمكن اللجوء إليها دون تخفيض عدد الجند.
أما في الفصل الثالث فهو يتحدث عن أوضاع خزانة الدولة، بينما يسرد في الخاتمة السبل والوسائل التي يراها مناسبة لدفع الخلل.
وقد طبعت هذه الرسالة في إستانبول عام 1280 مع رسالة (عين علي) المعروفة باسم "قوانين آل عثمان".
15 - رجم الرجيم بالسين والجيم:
وهو كتاب وضعه عام (1064 - 1065 م)، وجمع فيه المسائل الفقهية الغريبة والفتاوى المعضلة العجيبة من خطوط مشايخ الإسلام. وهو كتاب مفقود لم يعثر عليه حتى الآن.
16 - بيضاوي تفسيرينك شرحي (شرح تفسير البيضاوي) (بالتركية):
كان كاتب جلبي قد قرأ تفسير البيضاوي من أوله على يدي أستاذه الشيخ مصطفى الأعرج، فبدأ في غضون عام 1052 هـ (1643 م) يكتب شرحًا له، ولكن يبدو أن المؤلف لم يستمر في هذا العمل، أو أن هذا الشرح مفقود.
17 - شرح المحمدية (بالتركية):
وهو شرح كتبه كاتب جلبي على محمدية علي قوشجي في علم الحساب في غضون عام 1057 هـ (1647 م) برجاء من تلميذه مولانا محمود ابن العالم الآقحصاري أحمد الرومي، ثم سماه "حسن الهدية". فقد كانت تجمعه بذلك التلميذ ألفه وصحبة علمية دون سائر التلاميذ. ولما وصل الشرح إلى باب الجبر والمقابلة في غضون العام التالي توفي ذلك التلميذ، فَتَرك صاحبنا الشرح على حاله دون تبييض. ويبدو أن مخطوطته ضاعت.
18 - جامع المتون من جل الفنون:
وهو مجموع لمتون من الخلاصات والشروح التي قرأها كاتب جلبي أو دَرَّسَها لتلامذته في موضوعات مختلفة، ثم أضاف إليها فيما بعد مقدمات نافعة تحت عنوان تتمة وتذييل. وتلك المقدمات هي: مقدمة في علم التفسير من إتمام الدراية، وتعليم المتعلم، وبداية الهداية في التذكير، ومقامات الحريري في الأدب، وجهينة الأخبار في التاريخ. أما المتون التي جمعها هذا الكتاب فهي: الشافية، والكافية، والوضعية العضدية، وتلخيص المفتاح، والأندلسية، والموجز، واللمعة في الصناعة الشعرية، ومنار الأنوار، والنقاية مختصر الوقاية، والسراجية، ونخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، والأربعين النووية، ومقدمة الجزرية، والشاطبية، والعقيلة الرائية للشاطبي، والتعرف، والتهذيب، والشمسية في المنطق، ومتن السمرقندي، وهداية الحكمة، والرسالة العضدية، وقانونجه، والملخص في الهيئة، وسي فصل، وأشكال التأسيس، والشمسية في الحكمة العملية.
والنسخة الوحيدة الموجودة من هذا المجموع محفوظة في مكتبة سراي طوب قابي (امانت خزينه سى، 1763)، وهي تقع في 666 ورقة.
19 - ميزان الحق في اختيار الأحق (بالتركية):
وهو آخر كتابٍ وضعه كاتب جلبي، إذ انتهى من تأليفه في شهر صفر عام 1067 هـ (نوفمبر 1656 م). وقد كتبه حول عدة مسائل كانت مثارًا للجدل في أيامه، مثل الخلاف حول حياة الخضر (-عليه السلام-) أو مماته، والتغني، والرقص والدوران، والتصلية والترضية، والتبغ أو الدخان، وشرب القهوة، وتعاطي الأفيون والمكيفات، وفقر أو غنى أبوي النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإيمان فرعون، والاختلاف في الرأي حول مكانة الشيخ محي الدين ابن عربي، وسبّ يزيد، والبدعة، وزيارة القبور، والصلاة في ليالي القدر والجمعة الأولى من رجب والنصف من شعبان، والمصافحة، والانحناء، والأمر بالمعروف، والأمة، والرشوة، والحديث حول أبي السعود أفندي والشيخ محمد البركوي، والحديث عن السيواسي وقاضي زاده. وقد طبع ذلك الكتاب الصغير عدة مرات في أعوام (1281 هـ) (1864 م) و (1286 هـ) (1869 م) و (1306 هـ) (1888 م).
كاتب جلبي وكتابه سلم الوصول
أكمل الدين إحسان أوغلي
قررت منظمة اليونسكو الاحتفال هذا العام (2009 م) مع العالم كله بالذكرى الأربعمائة على مولد العالم العثماني الكبير كاتب جلبي، ويسعدنا اليوم بهذه المناسبة أن نقدم إلى دنيا العلم عَمَلَة الثاني الأهم في اعتقادنا وهو كتاب "سلم الوصول إلى طبقات الفحول"، هذا المعجم البيوغرافي الأشمل في الأدبيات الإسلامية، وذلك بعد عمله الخالد الأول، ألا وهو المعجم الببليوغرافي الأشمل أيضًا "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون". وقد كنا قبل نحو عشر سنوات ونحن ندير فعاليات إرسيكا قد عقدنا العزم على القيام بتحقيق كتاب أساسي من الكتب المخطوطة في الثقافة الإسلامية ليكون خدمة ثقافية مهمة في ساحة جديدة. وكانت الرغبة أن يكون العمل الذي ننشره في التراث الثقافي خلال العصر العثماني الذي يشكل واحدًا من العناوين الهامة في فعاليات إرسيكا، فوقع الإختيار على كتاب "سلم الوصول" الذي وَضَعَهُ كاتب جلبي ولم يكن منشورًا حتى ذلك اليوم.
ولا شك أن كاتب جلبي واحد من أهم الوجوه التي عرفها القرن السابع عشر الميلادي، ذلك العصر الذي لم يلق اهتمامًا كبيرًا من الباحثين وكان يوصف حتى زمن قريب بأنه بداية عهد "الانحطاط" في الحضارة الإسلامية. وكاتب جلبي ذلك المثقف العثماني كان واحدًا من أبرز الشخصيات التي عرفتها الأمة التركية وعرفتها الدولة العثمانية والعالم الإسلامي كله على الإطلاق. فإن انفتاحه في ذلك العهد المبكر على ثقافات مختلفة، ولا سيما على ثقافات وعلوم الغرب قد جعله يتبوأ مكانةً تليق به بين الرواد الذين أقاموا أولى الاتصالات فيما بين الشرق والغرب. ولا شك أن ظهور شخصية بارزة أخرى مثل أوليا جلبي في نفس القرن ثم قيامه في رحلاته التي سجلها في كتابه (سياحتنامه) بالكشف عن الحياة الاجتماعية فوق الرقعة الجغرافية الواسعة التي يضمها العالم العثماني بكل ثرائها وتنوعها، ثم قيام كاتب جلبي بوضع
معجم بيوغرافي واسع يشمل الساحة الثقافية للعالم الإسلامي والعثماني لهو دليل مهم على أن الثقافة العثمانية حافظت على حيويتها في ذلك العصر.
وقد توفي كاتب جلبي في سن التاسعة والأربعين، ومع ذلك فقد استطاع بكتبه التي أنجزها خلال تلك الحياة القصيرة مع كثرة عددها وتنوع موضوعاتها فضلًا عن محتواها وأصالتها أن يحتل مكانة متميزة في الأدبيات العثمانية والإسلامية. واستطاع كاتب جلبي بذهنه الوقاد وفكره النقاد وإحاطته الموسوعية وأعماله المنظمة التي تركها لنا أن يُتْحِفَ دنيا العلم ومن خلال منهج علمي لم يُدركه أحد في عصره بتراجم رجال برزوا في تاريخ الحضارة الإسلامية وأدبياتها. وقد حظيت تلك الأعمال باهتمام رجال العلم في الغرب منذ عهد مبكر، ولا يزال كل كتاب منها يحافظ على قيمته كمرجع لا يمكن الاستغناء عنه في بابه حتى اليوم.
كان كاتب جلبي يجيد التركية والعربية والفارسية، أي (الألسنة الثلاثة) بالمصطلح العثماني، ولهذا فقد استطاع بخبرته وبراعته العاليتين الاستفادة في تأليف أعماله من المصادر والمراجع المدونة بتلك اللغات الثلاث. فإلى جانب استخدامه الأوسع للغة التركية التي هي لغته الأم قد استفاد بكل يسر من اللغتين الأخريين عند الحاجة. ويدلنا اختياره للغة معينةٍ منها في تأليفه أو ترجمته لأحد الكتب على ماهية الهدف الذي قصده من ذلك الكتاب وعلى كتلة القراء التي أرادها له. ولسوف يبدو لنا عند الاطلاع على قائمة أعماله ماهية المسوغات في اختيار لغة معينة لتأليف كتابٍ معين.
ففي الأحوال التي رأى فيها ضرورة مخاطبة النخبة العثمانية وزمرة رجال الحكم في عاصمة الدولة استخدم اللغة التركية لكتابه، أي أنه استخدم اللغة التركية دائمًا وهو يضع أعماله الهامة في الجغرافيا، وأيضًا وهو يعبر عن آرائه في شئون الدولة والمجتمع، وكذلك وهو يضع كتبه المتعلقة بالتاريخ، سواء كان في تاريخ أوروبا أم كان في تاريخ الدولة العثمانية. وكان عند إعداده لأعماله يسعى للاستفادة من المصادر المعاصرة التي جاءت بالمعلومات والمعارف الحديثة التي تنير عقول الفئات التي يخاطبها وتتيح لها التعرف على تاريخها وتاريخ الأمم الأخرى المناهضة لها والتعرف من ثم على تاريخ وجغرافيا العالم، فوضع نصب عينيه أن يكون خطابه لهم بلغتهم التي يفهمونها بسهولة، أي باللغة التركية التي هي اللغة الرسمية للدولة. وقد استفاد كثيرًا من الأدبيات الفارسية لكنه لم يكتب بالفارسية. وكان كاتب جلبي عندما يرى مخاطبة العلماء والمثقفين الموجودين داخل وخارج رقعة الأراضي العثمانية المنسوبين إلى أقوام ومجموعات عرقية متباينة فإنه يختار لهم اللغة العربية، اللغة العلمية المشتركة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك -إلى جانب كتابيه- كشف الظنون، وسلم الوصول - كتابه المعروف اختصارًا باسم فذلكة، والموسوم بعنوان: "فذلكة أقوال الأخيار بعلم التاريخ والأخبار"، والموصوف بالتاريخ الكبير الذي هو تاريخ عام بالعربية يبدأ من بدء الخليقة حتى سنة 1051 هـ / 1641 م. ولا شك أن قيام كاتب جلبي بجعل اللغة العربية لغةً لهذه الأعمال الموسوعية الثلاثة إنما يكون قد قدم خدمة جليلة في المجال العلمي، كما يصبح جديرًا بأن يكون عَلَمًا من أعلام تاريخ الثقافة الإسلامية بعد هذه المؤلفات التي لا يمكن الاستغناء عنها في الأدبيات الإسلامية (من المعروف أن العلماء العثمانيين كانوا بوجه عام يعرفون تلك اللغات الثلاث (أو بحسب تعبيرهم الألسنة الثلاثة)، وكانوا يكتبون أعمالهم بالعربية والفارسية إلى جانب لغتهم الأم (اللغة التركية)، وكان الأدب التركي واقعًا تحت تأثير الأدب الفارسي. ولأجل هذا كان على العالم العثماني الذي يود التقدم في مجال العلوم والآداب ويفهم جيدًا ما كتب فيها أن يقدم على تعلم تلك اللغات الثلاث وإتقانها. بل إن السلاطين الكبار مثل السلطان الفاتح والسلطان سليم الأول والسلطان سليمان القانوني كانوا يتقنونها، وكان منهم من قرض الشعر بالفارسية، ويوجد للسلطان سليم ديوان شعر فارلسي. وهناك كثير من العلماء العثمانيين ممن كانوا يستخدمون لغتين منها أو الثلاثة معًا في مؤلفاتهم، وعلى سبيل المثال فإن قاضي زاده وعلي قوشجي وضعا مؤلفاتهما بالفارسية أو العربية، بينما استخدم التركية والعربية في الكتابة كل من محمد بن الكاتب سنان ومصطفى بن علي الموقت وقنالى زاده والبركوي وأبي السعود أفندي، أما ميرم جلبي وابن كمال باشا وفضولي فقد استخدموا اللغات الثلاث).
والناظر في "كشف الظنون" -الذي هو قمة من قمم تاريخ الأدبيات الإسلامية- يدرك أن كاتب جلبي قد أتحفنا بمعجم ببليوغرافي لا نظير له بما قدم من معلومات حول ما يقرب من خمسة عشر ألف كتاب؛ كما أنه أعد في مجال التراجم كتابًا آخر يعدله في القيمة سَمّاه: "سلم الوصول إلى طبقات الفحول". وكان هناك عدد محدود من الناس حاولوا الاستفادة من هذا الكتاب الذي ظل في حالة مخطوط حتى اليوم. وها نحن بعد جهود مستمرة منذ عام 1998 م نقدم هذا العمل الهام لخدمة الباحثين نصًا محققًا تحقيقًا علميًا جادًّا.
ويضم هذا المعجم البيوغرافي في مجمله نحو 8561 ترجمة. وقد جرى ترتيب التراجم في قسمه الأول بحسب أسماء الأشخاص، أما في القسم الثاني فإنه يتحدث عن كنى وأنساب وألقاب هؤلاء الأعلام وغيرهم بطريقة منهجية معينة.
وكان الذين تعرضوا لحياة وأعمال كاتب جلبي وخاصة المرحوم أورخان شائق كَوكياي قد تحدثوا بشكل عام قبل ذلك عن هذا الكتاب. كما لم نشهد أحدًا تناول "سلم الوصول" بدراسة علمية جادة غير باحث أو اثنين، ورأى البعض أن ينشروه ولو في شكل صورة طبق الأصل (Facsimile) في عام 1957 م وعام 1994 م، لكن ذلك الأمر لم يتحقق. ولم يُقْدِم أحد حتى اليوم على نشر نص محقق للكتاب بشكل من الأشكال، لا في تركيا ولا في خارجها. ومن ثم فإن نشر الكتاب من طرف إرسيكا يُعد خطوة هامة تصدرت جهودنا المتواضعة التي نبذلها لإلقاء الضوء على تاريخ العلم والثقافة في العهد العثماني. ولا شك أن إخراج الكتاب على هذا النحو من مسودة المؤلف قد اقتضى جهودًا طويلة متعددة الجوانب والاتجاهات، وأمكن بفضل مشاركة العديد من الزملاء أن يخرج على هذه الصورة.
ويتحدث كاتب جلبي عن "سلم الوصول" وهو يسرد سيرته الذاتية في كتابه "ميزان الحق"، فيقول: "لقد تم تبييض المجلد الأول من كتابنا في الطبقات الموسوم بسلم الوصول إلى طبقات الفحول خلال سنتي إحدى وستين واثنتين وستين (1061 - 1062 هـ) (1651 - 1652 م)، فكتبنا فيه تواريخ الكبار من الأولين والآخرين". وسوف نشير إلى هذا الكتاب اختصارًا باسم "سلم الوصول"، وهو يتضمن بوجه عام مقدمة وقسمين ثم خاتمة. وجرى ترتيب القسمين الأساسيين على الحروف الألفبائية، وجاء كل حرف في باب. ويذكر كاتب جلبي في نهاية القسم الثاني أنه انتهى منه في سنة 1053 هـ / 1643 م، ثم يعود المؤلف فيضيف إلى هذا القسم عددًا من الصفحات تتضمن "فوائد" في موضوعات مختلفة، ثم يذكر تاريخ الانتهاء منها بسنة 1058 هـ / 1649 م.
مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي، المعروف بالحاج خليفة:
مؤرخ بحاثة. تركي الأصل، مستعرب. مولده ووفاته في القسطنطينية. تولى أعمالا كتابية في الجيش العثماني، وذهب مع أبيه (وكان من رجال الجند) إلى بغداد (سنة 1033 هـ فمات أبوه بالموصل (سنة 1035) فرحل إلى ديار بكر ثم عاد إلى الآستانة (1038) ورحل إلى الشام (1043) وصحب والي حلب (محمد باشا) إلى مكة، فحج، وزار خزائن الكتب الكبرى، وعاد إلى الآستانة. وشهد حرب كريت (سنة 1055) وانقطع في السنوات الأخيرة من حياته إلى تدريس العلوم، على طريقة الشيوخ في ذلك العهد.
من كتبه (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - ط) مجلدان، وهو أنفع وأجمع ما كتب في موضوعة بالعربية، و (تحفة الكبار في أسفار البحار - ط) و (تقويم التواريخ - ط) وهو جداول تاريخية بلغ بها سنة 1058 هـ ألفه بالتركية والفارسية، وترجم إلى العربية، و (ميزان الحق - خ) في التصوف، و (سلم الوصول إلى طبقات الفحول - خ) في التراجم، و (تحفة الأخيار في الحكم والأمثال والأشعار - خ) و (مجموعة - خ) بخطه، فيها فوائد فقية وتاريخية وتراجم. وللمؤرخ التركي طاهر بك، جزء في (ترجمته) .
-الاعلام للزركلي-