الشيخ القاضي أبو الحجاج يوسف بن موسى الجذامي المتشافري حسنة من حسنات الدهر، وتحفة من تحف السر والجهر، وجالب أبكار أفكار تجل عن المهر، شيخ دمث الخلائق، متمسك من الفضل بأقوى العلائق، كلف بالأدب الرائق، وشتى الفنون والطرائق، سبق بقطرة حلبة الرهان، وصان حشمته من الامتهان، وعني بالبيان، فجاء على خبرة بالعيان، وطارت منظومات في الأقطار كل مطار، مزرية بعرف الروضة المطار، وله تواليف حسنة الاغراض، وجواهر تلفى خلل تلك الأعراض، وولي القضاء فحمدت سيرت، وأثنت علية جيرتة. لقيتة في بعض الغزوات فاستظرفته، لما عرفته، وخاطبته بقولي:
حفظت على فرط المشقة رحلة ... أتاحت لعيني إجلاء محياكا
وقد كنت بالتذكار في البعد قانعا ... وبالريح ان هبت بعاطر رياكة
فجاءت لي النعمى بما أنعمت به ... علي فحياها الإله وحياكا واتصل بها نثر ثبت في غير هذا فأجابني بمنظوم ومنثور، افتتحه بهذه الأبيات:
حباك فؤاد نيل بشرى فأحياكا ... وحيد بآداب نفائس حياكا
بدائع أبداها بديع زمانه ... فطاب بها يا عاطر الروض رياكا
أمهد أودعت قلبي علاقة ... وان لم أزل مغرى قديما بعلياكا
إذا ما أشار العصر نحو فريدة ... فإياك يعني بالإشارة أياكا
لأتحفني لقياك أسنى مؤملي ... وهل تحفه في الدهر الا بلقياكا
وأعقبت إتحافي فرائدك التي ... وجوب ثنائي يا لساني أعياكا وأنشدني قصيدته المطولة في مدح مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لم تناهى الصب في تشويقه ... درر الدموع أعتاضها بعقيقه وقصيدته في الغرض المذكور وأولها:
إليك تحن النجب والنجباء ... فهم وهي في أشواقهم شركاء وأنشدني من شعره
هواكم بقلبي ما لنحكمه نسخ ... ومن اجله جفني بمدمعه يسخو
ومن نشأتي ما أن صحت منه نشوتي ... سواء به عصر الشباب أو الشرخ
عليه حياتي قد تمادت وميتتي ... وبعثي إذا بالصور يتفق النفخ
ولي جلد أضحى قنيص غرامه ... ولا شرك يدني إليه ولا فخ
قتلت سلوي حين أحييت لوعتي ... وما احتيج للإقرار في حالتي لطخ
وما صح جسمي إذ زكت بيناته ... يحول عليه من دموع الأسى نضخ
وأرجو بتحقيقي هواكم بان أفي ... بعهد ولا نقض وعقد ولا فسخ
وما الحب إلا ما استقل ثبوته ... لمبناه زص في الجوانب أو رسخ
إذا مسلك لم تستقم بطريقه ... سلكت اعتدالا مثلما يسلك الرخ
بدا لضميري من سناكم تلمح ... فبخ لعقل لم يطر عندها بخ
على عود ذاك العهد مازلت نادبا ... كما تندب الورقاء فارقها الفرخ
يدي بأياديكم وقلبي شاغل ... فمن فكرتي نسج ومن أناملي نسخ ومن مقطوعاته:
أدب الفتى في أن يرى متيقظا ... لأوامر من ربه ونواهي
وإذا تمسك بالهوى يهوي به ... فالحبل منه لمن يتقن واه ومنها:
ترى شعروا أني غبطت نسيمة ... ذكت بتلاقي الروض غب الغمائم
كما قابلت زهر الرياض وقبلت ... ثغور أقاحيه بلا لوم لائم ومنها:
لوعة الحب في فؤادي تعاصت ... أن تداوى ولو أتى ألف راق
كيف برئي من علة وعليها ... زائد علة النوى والفراق
فانسكاب الدموع جار مجار ... والتهاب الضلوع راق فراق ومنها:
يا من في دنياه ظل في لجج ... حقق بأن النجاة في الشاطئ
تطمع في إرثك الفلاح وقد ... أضعت ما قبله من اشراط
كن حذرا في الذي طمعت به ... من حجب نقص وحجب إسقاط
الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة - لسان الدين بن الخطيب، محمد بن عبد الله.