السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن علي بن المرتضى بن الْمفضل بن الْمَنْصُور
ابْن مُحَمَّد بن الْعَفِيف بن مفضل بن الْحجَّاج بن على بن يحيى بن الْقَاسِم ابْن الإِمَام الداعي يُوسُف ابْن الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه يحيى بن النَّاصِر احْمَد بن الهادي يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن اسمعيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الْحسن بن علي بن أَبى طَالب رضي الله عَنْهُم جَمِيعًا.
وَقد سردت نسبة هَهُنَا وإن كَانَ قد تقدم في تَرْجمهُ السَّيِّد عبد الله بن علي الْوَزير لكنني رَأَيْت السخاوي تَرْجَمَة فغلط في نسبة وَقَالَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن علي بن المرتضى بن الهادي بن يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم وَذكر النّسَب إِلَى علي كرم الله وَجهه فَجعل المرتضى بن الهادي وَجعل الهادي بن يحيى بن الْحُسَيْن وَهَذَا غلط بَين وَصَاحب التَّرْجَمَة هُوَ الإِمَام الْكَبِير الْمُجْتَهد الْمُطلق الْمَعْرُوف بِابْن الْوَزير ولد فِي شهر رَجَب سنة 775 خمس وَسبعين وَسَبْعمائة بهجر الظهراوين من شطب وَقَالَ السخاوي إنه ولد تَقْرِيبًا سنة 765 وَهَذَا التَّقْرِيب بعيد وَالصَّوَاب الأول قَرَأَ فِي الْعَرَبيَّة على أَخِيه الْعَلامَة الهادي ابْن إِبْرَاهِيم وعَلى القاضي الْعَلامَة مُحَمَّد بن حَمْزَة بن مظفر وَقَرَأَ علم الْكَلَام على القاضي الْعَلامَة علي بن عبد الله بن أَبى الْخَيْر كشرح الْأُصُول وَالْخُلَاصَة والغياصة وَتَذْكِرَة ابْن متويه وَقَرَأَ علم أصُول الْفِقْه على السَّيِّد الْعَلامَة علي بن مُحَمَّد بن أَبى الْقَاسِم وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَيْضا علم التَّفْسِير وَقَرَأَ الْفُرُوع على القاضي الْعَلامَة عبد الله بن الْحسن الدواري وَغَيره من مَشَايِخ صعدة وَمن مشايخه السَّيِّد الْعَلامَة النَّاصِر بن احْمَد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ المطهر وَقَرَأَ الحَدِيث بِمَكَّة على مُحَمَّد بن عبد الله بن ظهيرة وفي غَيرهَا على نَفِيس الدَّين العلوي وعَلى جمَاعَة عدَّة.
وَالْحَاصِل أَنه قَرَأَ على أكَابِر مَشَايِخ صنعاء وصعدة وَسَائِر المداين اليمنية وَمَكَّة وتبحر فِي جَمِيع الْعُلُوم وفَاق الأقران واشتهر صيته وَبعد ذكره وطار علمه فِي الأقطار.
قَالَ صَاحب مطلع البدور وَقد ترْجم لَهُ الطوائف وَأقر لَهُ المؤالف والمخالف ترْجم لَهُ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي الدُّرَر الكامنة وَترْجم لَهُ مُصَنف سيرة العراقي عَلامَة وقته بِمَكَّة انْتهى وَمَا ذكره من أَن ابْن حجر ترْجم لَهُ فى الدُّرَر فَلَا أصل لَهُ فَإِنَّهُ لم يترجم لَهُ فِيهَا أصلاً بل هي مُخْتَصَّة بِمن مَاتَ فِي الْقرن الثَّامِن وَلم يترجم لمن تَأَخّر مَوته إِلَى الْقرن التَّاسِع حَتَّى أكَابِر مشايخه كالعراقي والبلقيني وَابْن الملقن مَعَ أَنهم مَاتُوا فِي أول الْقرن التَّاسِع كَمَا تقدم ذَلِك وَأما صَاحب التَّرْجَمَة فَهُوَ تَأَخّر مَوته إِلَى سنة 840 أَرْبَعِينَ وثمان مائَة فَكيف يترجم لَهُ بل ترْجم لَهُ الْحَافِظ ابْن حجر العسقلاني فِي أنبائه وَترْجم لَهُ السخاوي كَمَا تقدمت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك وَترْجم لَهُ التقي ابْن فَهد فِي مُعْجَمه فَقَالَ السخاوي إنه تعاني النظم فبرع فِيهِ وصنف فِي الرَّد على الزيدية العواصم والقواصم فِي الذب عَن سنة أَبى الْقَاسِم وَاخْتَصَرَهُ فِي الرَّوْض الباسم وَرُوِيَ عَن التقي بن فَهد أَنه أنْشد لصَاحب التَّرْجَمَة فِي مُعْجَمه قَوْله
(الْعلم مِيرَاث النبي كَذَا أَتَى ... فِي النَّص وَالْعُلَمَاء هم ورَّاثه)
(فَإِذا أردْت حَقِيقَة تدري لمن ... وّراثه وَعرفت مَا مِيرَاثه)
(مَا ورث الْمُخْتَار غير حَدِيثه ... فِينَا فَذَاك مَتَاعه وأثاثه)
(فلنا الحَدِيث وراثة نبوية ... وَلكُل مُحدث بِدعَة أحداثه)
وَإِنَّمَا اقْتصر على رِوَايَة هَذَا الشّعْر مَعَ أَن فِي شعر صَاحب التَّرْجَمَة مَا هُوَ أرفع مِنْهُ بدرجات لِأَن لِقَائِه لَهُ كَانَ فِي سنة 816 وَقد نظم بعد ذَلِك نظما كثيرا جدا وَارْتَفَعت طبقته فِي الْعلم وَهَكَذَا ابْن حجر فَإِنَّهُ ذكره فِي أنبائه في تَرْجَمَة أَخِيه الهادي لِأَن صَاحب التَّرْجَمَة إذ ذَاك كَانَ صَغِيرا فَقَالَ وَله أَخ يُقَال لَهُ مُحَمَّد مقبل على الِاشْتِغَال بِالْحَدِيثِ شَدِيد الْميل إِلَى السنة بِخِلَاف أهل بَيته انْتهى.
وَلَو لقِيه الْحَافِظ ابْن حجر بعد أَن تبحر فِي الْعُلُوم لأطال عنان قلمه فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يثني على من هُوَ دونه بمراحل ولعلها لم تبلغ أخباره إِلَيْهِ وَإِلَّا فَابْن حجر قد عَاشَ بعد صَاحب التَّرْجَمَة زِيَادَة على اثني عشر سنة كَمَا تقدم فِي تَرْجَمته
وَكَذَلِكَ السخاوي لَو وقف على العواصم والقواصم لرَأى فِيهَا مَا يمْلَأ عَيْنَيْهِ وَقَلبه ولطال عنان قلمه فِي تَرْجَمته وَلَكِن لَعَلَّه بلغه الاسم دون الْمُسَمّى وَلَا ريب أن عُلَمَاء الطوائف لَا يكثرون الْعِنَايَة بِأَهْل هَذِه الديار لاعتقادهم فِي الزيدية مَالا مُقْتَضى لَهُ إلا مُجَرّد التَّقْلِيد لمن لم يطلع على الْأَحْوَال فَإِن فِي ديار الزيدية من أَئِمَّة الْكتاب وَالسّنة عددا يُجَاوز الْوَصْف يتقيدون بِالْعَمَلِ بنصوص الْأَدِلَّة ويعتمدون على مَا صَحَّ فِي الْأُمَّهَات الحديثية وَمَا يلْتَحق بهَا من دواوين الْإِسْلَام الْمُشْتَملَة على سنة سيد الْأَنَام وَلَا يرفعون إِلَى التَّقْلِيد رَأْسا لَا يشوبون دينهم بشئ من الْبدع الَّتِى لَا يَخْلُو أهل مَذْهَب من الْمذَاهب من شَيْء مِنْهَا بل هم على نمط السلف الصَّالح فِي الْعَمَل بِمَا يدل عَلَيْهِ كتاب الله وَمَا صَحَّ من سنة رَسُول الله مَعَ كَثْرَة اشتغالهم بالعلوم الَّتِى هِيَ آلَات علم الْكتاب وَالسّنة من نَحْو وَصرف وَبَيَان وأصول ولغة وَعدم إخلالهم بِمَا عدا ذَلِك من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَلَو لم يكن لَهُم من المزية إلا التقيد بنصوص الْكتاب وَالسّنة وَطرح التَّقْلِيد فَإِن هَذِه خصيصة خص الله بهَا أهل هَذِه الديار فِي هَذِه الْأَزْمِنَة الْأَخِيرَة وَلَا تُوجد فِي غَيرهم إلا نَادرا.
وَلَا ريب أَن فِي سَائِر الديار المصرية والشامية من الْعلمَاء الْكِبَار من لَا يبلغ غَالب أهل دِيَارنَا هَذِه إِلَى رتبته وَلَكنهُمْ لَا يفارقون التَّقْلِيد الذي هُوَ دأب من لَا يعقل حجج الله وَرَسُوله وَمن لم يُفَارق التَّقْلِيد لم يكن لعلمه كثير فَائِدَة وَإِن وجد مِنْهُم من يعْمل بالأدلة ويدع التعويل على التَّقْلِيد فَهُوَ الْقَلِيل النَّادِر كَابْن تَيْمِية وَأَمْثَاله وإني لأكْثر التَّعَجُّب من جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين الْمَوْجُودين فِي الْقرن الرَّابِع وَمَا بعده كَيفَ يقفون على تَقْلِيد عَالم من الْعلمَاء ويقدمونه على كتاب الله وَسنة رَسُوله مَعَ كَونهم قد عرفُوا من علم اللِّسَان مَا يكفي فِي فهم الْكتاب وَالسّنة بعضه فَإِن الرجل إِذا عرف من لُغَة الْعَرَب مَا يكون بِهِ فاهما لما يسمعهُ مِنْهَا صَار كَأحد الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم وَمن صَار كَذَلِك وَجب عَلَيْهِ التَّمَسُّك بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم وَترك التعويل على مَحْض الآراء فَكيف بِمن وقف على دقائق اللُّغَة وجلايلها إفرادا وتركيبا وإعرابا وَبِنَاء وَصَارَ فِي الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية والحقائق الْأُصُولِيَّة بمقام لَا يخفى عَلَيْهِ من لِسَان الْعَرَب خافية وَلَا يشذ عَنهُ مِنْهَا شَاذَّة وَلَا فاذة وَصَارَ عَارِفًا بِمَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم فِي تَفْسِير كتاب الله وَمَا صَحَّ عَن عُلَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ إِلَى زَمَنه وأتعب نَفسه فِي سَماع دوادين السنة الَّتِى صنفتها أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن فِي قديم الْأَزْمَان وَفِيمَا بعده فَمن كَانَ بِهَذِهِ المثابة كَيفَ يسوغ لَهُ أَن يعدل عَن آيَة صَرِيحَة أَو حَدِيث صَحِيح إِلَى رأي رَآهُ اُحْدُ الْمُجْتَهدين حَتَّى كَأَنَّهُ أحد الْعَوام الأعتام الَّذين لَا يعْرفُونَ من رسوم الشَّرِيعَة رسما فيالله الْعجب إِذا كَانَت نِهَايَة الْعَالم كبدايته وَآخر أمره كأوله فَقل لي أَي فَائِدَة لتضييع الْأَوْقَات فِي المعارف العلمية فَإِن قَول امامه الذي يقلده هُوَ كَانَ يفهمهُ قبل أَن يشْتَغل بشئ من الْعُلُوم سواهُ كَمَا نشاهده فِي المقتصرين على علم الْفِقْه فَإِنَّهُم يفهمونه بل يصيرون فِيهِ من التَّحْقِيق إِلَى غَايَة لَا يخفي عَلَيْهِم مِنْهُ شئ ويدرسون فِيهِ ويفتون بِهِ وهم لَا يعْرفُونَ سواهُ بل لَا يميزون بَين الْفَاعِل وَالْمَفْعُول.
والذى أدين الله بِهِ أَنه لَا رخصَة لمن علم من لُغَة الْعَرَب مَا يفهم بِهِ كتاب الله بعد أَن يُقيم لِسَانه بشئ من علم النَّحْو وَالصرْف وَشطر من مهمات كليات أصُول الْفِقْه فِي ترك الْعَمَل بِمَا يفهمهُ من آيَات الْكتاب الْعَزِيز ثمَّ إِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك الِاطِّلَاع على كتب السنة المطهرة الَّتِى جمعهَا الْأَئِمَّة المعتبرون وَعمل بهَا المتقدمون والمتأخرون كالصحيحين وَمَا يلْتَحق بهما مِمَّا الْتزم فِيهِ مصنفوه الصِّحَّة أَو جمعُوا فِيهِ بَين الصَّحِيح وَغَيره مَعَ الْبَيَان لما هُوَ صَحِيح وَلما هُوَ حسن وَلما هُوَ ضَعِيف وَجب الْعَمَل بِمَا كَانَ كَذَلِك من السنة وَلَا يحل التَّمَسُّك بِمَا يُخَالِفهُ من الرأي سَوَاء كَانَ قايله وَاحِدًا أَو جمَاعَة أَو الْجُمْهُور فَلم يَأْتِ فِي هَذِه الشَّرِيعَة الغراء مَا يدل على وجوب التَّمَسُّك بالآراء المتجردة عَن مُعَارضَة الْكتاب أَو السنة فَكيف بِمَا كَانَ مِنْهَا كَذَلِك بل الذي جَاءَنَا فِي كتاب الله على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا قل إن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إلى غير ذَلِك وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كل أَمر لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد فَالْحَاصِل أَن من بلغ فِي الْعلم إِلَى رُتْبَة يفهم بهَا تراكيب كتاب الله ويرجح بهَا بَين مَا ورد مُخْتَلفا من تَفْسِير السّلف الصَّالح ويهتدى بِهِ إِلَى كتب السّنة الَّتِى يعرف بهَا مَا هُوَ صَحِيح وَمَا لَيْسَ بِصَحِيح فَهُوَ مُجْتَهد لَا يحل لَهُ أَن يُقَلّد غَيره كَائِنا من كَانَ فِي مسئلة من مسَائِل الدَّين بل يستروي النُّصُوص من أهل الرِّوَايَة ويتمرن فِي علم الدِّرَايَة بِأَهْل الدِّرَايَة ويقتصر من كل فن على مِقْدَار الْحَاجة، والمقدار الْكَافِي من تِلْكَ الْفُنُون هُوَ مَا يتَّصل بِهِ إِلَى الْفَهم والتمييز وَلَا شك أَن التبحر فِي المعارف وَتَطْوِيل الباع فِي أَنْوَاعهَا هُوَ خير كُله لَا سِيمَا الاستكثار من علم السنة وَحفظ الْمُتُون وَمَعْرِفَة أَحْوَال رجال الْإِسْنَاد والكشف عَن كَلَام الْأَئِمَّة فِي هَذَا الشَّأْن فَإِن ذَلِك مِمَّا يُوجب تفَاوت الْمَرَاتِب بَين الْمُجْتَهدين لَا أنه يتَوَقَّف الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ فَإِن قلت رُبمَا يقف على هَذَا الْكَلَام من هومتهئ لطلب الْعلم فَلَا يدري بِمَا ذَاك يشْتَغل وَلَا يعرف مَا هُوَ الَّذِي إِذا اقْتصر عَلَيْهِ فِي كل فن بلغ إِلَى رُتْبَة الِاجْتِهَاد وَالَّذِي يجب عَلَيْهِ عِنْده الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة قلت لَا يخفي عَلَيْك أن القرايح مُخْتَلفَة والفطن متفاوتة والأفهام متباينة فَمن النَّاس من يرْتَفع بِالْقَلِيلِ إِلَى رُتْبَة علية وَمن النَّاس من لَا يرْتَفع من حضيض التَّقْصِير بالكثير وَهَذَا مَعْلُوم بالوجدان ولكني هَهُنَا أذكر مَا يكفي بِهِ من كَانَ متوسطاً بَين الغايتين.
فَأَقُول يَكْفِيهِ من علم مُفْرَدَات اللُّغَة مثل الْقَامُوس وَلَيْسَ المُرَاد إحاطته بِهِ حفظاً بل المُرَاد الممارسة لمثل هَذَا الْكتاب أَو مَا يشابهه على وَجه يَهْتَدِي بِهِ إِلَى وجدان مَا يَطْلُبهُ مِنْهُ عِنْد الْحَاجة ويكفيه فِي النَّحْو مثل الكافية لِابْنِ الْحَاجِب والألفية وَشرح مُخْتَصر من شروحها وَفِي الصّرْف مثل الشافية وَشرح من شروحها المختصرة مَعَ ان فِيهَا مَالا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَة وَفِي أصُول الْفِقْه مثل جمع الْجَوَامِع والتنقيح لِابْنِ صدر الشَّرِيعَة والمنار للنسفي أَو مُخْتَصر الْمُنْتَهى لِابْنِ الْحَاجِب أَو غَايَة السول لِابْنِ الإِمَام وَشرح من شُرُوح هَذِه المختصرات الْمَذْكُورَة مَعَ أَن فِيهَا جميعهامالا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَة بل غالبها كَذَلِك وَلَا سِيمَا تِلْكَ التدقيقات الَّتِى فِي شروحها وحواشيها فَإِنَّهَا عَن علم الْكتاب وَالسّنة بمعزل وَلكنه جَاءَ فِي الْمُتَأَخِّرين من اشْتغل بعلوم أُخْرَى خَارِجَة عَن الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة ثمَّ استعملها فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فجَاء من بعده فَظن أنها من عُلُوم الشَّرِيعَة فبعدت عَلَيْهِ الْمسَافَة وطالت عَلَيْهِ الطرق فَرُبمَا بَات دون الْمنزل وَلم يبلغ إِلَى مقْصده فَإِن وصل بذهن كليل وَفهم عليل لِأَنَّهُ قد استفرغ قوته فِي مقدماته وَهَذَا مشَاهد مَعْلُوم فَإِن غَالب طلبة عُلُوم الِاجْتِهَاد تنقضي أعمارهم فِي تَحْقِيق الْآلَات وتدقيقها وَمِنْهُم من لَا يفتح كتابا من كتب السنة وَلَا سفرا من أسفار التَّفْسِير فحال هَذَا كَحال من حصل الكاغد والحبر وبرى أقلامه ولاك دواته وَلم يكْتب حرفا فَلم يفعل الْمَقْصُود
إِذْ لَا ريب أَن الْمَقْصُود من هَذِه الْآلَات هُوَ الْكِتَابَة.
كَذَلِك حَال من قبله وَمن عرف مَا ذَكرْنَاهُ سَابِقًا لم يحْتَج إِلَى قِرَاءَة كتب التَّفْسِير على الشُّيُوخ لِأَنَّهُ قد حصل مَا يفهم بِهِ الْكتاب الْعَزِيز وَإِذا أشكل عَلَيْهِ شئ من مُفْرَدَات الْقُرْآن رَجَعَ إِلَى مَا قدمنَا من أَنه يَكْفِيهِ من علم اللُّغَة وَإِذا أشكل عَلَيْهِ إعراب فَعنده من علم النَّحْو مايكفيه وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْإِشْكَال يرجع إِلَى علم الصّرْف وَإِذا وجد اخْتِلَافا فِي تفاسير السلف الَّتِى يقف عَلَيْهَا مطالعة فالقرآن عربي والمرجع لُغَة الْعَرَب فَمَا كَانَ أقرب إِلَيْهَا فَهُوَ أَحَق مِمَّا كَانَ أبعد وَمَا كَانَ من تفاسير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مَعَ كَونه شَيْئا يَسِيرا مَوْجُود فِي كتب السنة ثمَّ هَذَا الْمِقْدَار الذي قدمنَا يكفي فِي معرفَة معاني متون الحَدِيث
وَأما مَا يَكْفِيهِ فِي معرفَة كَون الحَدِيث صَحِيحا أَو غير صَحِيح فقد قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك ونزيده ايضاحا فَنَقُول إِذا قَالَ امام من أَئِمَّة الحَدِيث الْمَشْهُورين بِالْحِفْظِ وَالْعَدَالَة وَحسن الْمعرفَة أَنه لم يذكر فِي كِتَابه الاما كَانَ صَحِيحا وَكَانَ مِمَّن مارس هَذَا الشَّأْن ممارسة كُلية كصاحبى الصَّحِيحَيْنِ وبعدهما صَحِيح ابْن حبَان وصحيح ابْن خُزَيْمَة وَنَحْوهمَا فَهَذَا القَوْل مسوغ للْعَمَل بِمَا وجد فِي تِلْكَ الْكتب وَمُوجب لتقديمه على التَّقْلِيد وَلَيْسَ هَذَا من التَّقْلِيد لِأَنَّهُ عمل بِرِوَايَة الثِّقَة والتقليد عمل بِرَأْيهِ وَهَذَا الْفرق أوضح من الشَّمْس وَإِن الْتبس على كثير من النَّاس
وَأما مَا يدندن حوله أَرْبَاب علم الْمعَانى وَالْبَيَان من اشْتِرَاط ذَلِك وَعدم الْوُقُوف على حَقِيقَة مَعَاني الْكتاب وَالسّنة بِدُونِهِ فَأَقُول لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا لِأَن مَا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ فِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة قد أغْنى عَنهُ مَا قدمنَا ذكره من اللُّغَة والنحو الصّرْف وَالْأُصُول والزايد عَلَيْهِ وَإِن كَانَ من دقايق الْعَرَبيَّة وأسرارها ومماله مزِيد تَأْثِير فِي معرفَة بلاغة الْكتاب الْعَزِيز لَكِن ذَلِك أَمر وَرَاء مانحن بصدده وَرُبمَا يَقُول قايل بِأَن هَذِه الْمقَالة مقَالَة من لم يعرف ذَلِك الْفَنّ حق مَعْرفَته وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا يَقُول فإنى قد شغلت بُرْهَة من الْعُمر فِي هَذَا الْفَنّ فَمِنْهُ مَا قعدت فِيهِ بَين أيدي الشُّيُوخ كشرح التَّلْخِيص الْمُخْتَصر وحواشيه وَشَرحه المطول وحواشيه وَشَرحه الأطول وَمِنْه مَا طالعته مطالعة متعقب وَهُوَ ماعدا مَا قَدمته وَقد كنت أَظن فِي مبادئ طلب هَذَا الْفَنّ مَا يَظُنّهُ هَذَا الْقَائِل ثمَّ قلت مَا قلت عَن خبْرَة وممارسة وتجريب والزمخشري وَأَمْثَاله وَإِن رَغِبُوا فِي هَذَا الْفَنّ فَذَلِك من حَيْثُ كَون لَهُ مدخلاً فِي معرفَة البلاغة كَمَا قدمنَا وَهَذَا الْجَواب الذي ذكرته هَهُنَا هُوَ الْجَواب عَن الْمُعْتَرض فِي سَائِر مَا أهملته مِمَّا يظن أَنه مُعْتَبر فِي الِاجْتِهَاد وَمَعَ ذَلِك كُله فلسنا إلا بصدد بَيَان الْقدر الذي يجب عِنْده الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة وَإِلَّا فَنحْن مِمَّن يرغب الطّلبَة فِي الأستكثار من المعارف العلمية على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا كَمَا تقدمت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك وَمن رام الْوُقُوف على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ طَالب الْعلم من الْعُلُوم على التَّفْصِيل وَالتَّحْقِيق فَليرْجع إِلَى الْكتاب الذي جمعته فِي هَذَا وسميته أدب الطلب ومنتهى الأرب فَهُوَ كتاب لَا يسْتَغْنى عَنهُ طَالب الْحق.
على أَنِّي أَقُول بعد هَذَا أَن من كَانَ عاطلا عَن الْعُلُوم الْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يسْأَل من يَثِق بِدِينِهِ وَعلمه عَن نُصُوص الْكتاب وَالسّنة فِي الْأُمُور الَّتِى تجب عَلَيْهِ من عبَادَة أَو مُعَاملَة وَسَائِر مَا يحدث لَهُ فَيَقُول لمن يسْأَله علمني أصح مَا ثَبت فِي ذَلِك من الْأَدِلَّة حَتَّى أعمل بِهِ وَلَيْسَ هَذَا من التَّقْلِيد فِي شئ لِأَنَّهُ لم يسْأَله عَن رَأْيه بل عَن رِوَايَته وَلكنه لما كَانَ لجهله لَا يفْطن ألفاظ الْكتاب وَالسّنة وَجب عَلَيْهِ أَن يسْأَل من يفْطن ذَلِك فَهُوَ عَامل بِالْكتاب وَالسّنة بِوَاسِطَة المسؤل وَمن أحرز مَا قدمنَا من الْعُلُوم عمل بهَا بِلَا وَاسِطَة فِي التفهيم وَهَذَا يُقَال لَهُ مُجْتَهد والعامي الْمُعْتَمد على السُّؤَال لَيْسَ بمقلد وَلَا مُجْتَهد بل عَامل بِدَلِيل بِوَاسِطَة مُجْتَهد يفهمهُ مَعَانِيه وَقد كَانَ غَالب السلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم الَّذين هم خير الْقُرُون من هَذِه الطَّبَقَة وَلَا ريب أَن الْعلمَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الْعلمَاء أقل قَلِيل
فَمن قَالَ أنه لَا وَاسِطَة بَين الْمُقَلّد والمجتهد قُلْنَا لَهُ قد كَانَ غَالب السلف الصَّالح لَيْسُوا بمقلدين وَلَا مجتهدين أما كَونهم لَيْسُوا بمقلدين فَلِأَنَّهُ لم يسمع عَن أحد من مقصري الصَّحَابَة أَنه قلد عَالما من عُلَمَاء الصَّحَابَة الْمَشَاهِير بل كَانَ جَمِيع الْمُقَصِّرِينَ مِنْهُم يستروون عُلَمَائهمْ نُصُوص الْأَدِلَّة ويعملون بهَا وَكَذَلِكَ من بعدهمْ من التَّابِعين وتابعيهم وَمن قَالَ إن جَمِيع الصَّحَابَة مجتهدون وَجَمِيع التَّابِعين وتابعيهم فقد أعظم الْفِرْيَة وَجَاء بِمَا لَا يقبله عَارِف وَهَذِه الْمذَاهب والتقليدات الَّتِى مَعْنَاهَا قبُول قَول الْغَيْر دون حجَّة لم تحدث إلا بعد انْقِرَاض خير الْقُرُون ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ (وَخير الْأُمُور السالفات على الْهدى ... وَشر الْأُمُور المحدثات الْبَدَائِع) وَإِذا لم يسع غير الْعَالم فِي عصور الْخلف مَا وَسعه فِي عصور السلف فَلَا وسع الله عَلَيْهِ.
وَهَذَا عَارض من القَوْل اقْتَضَاهُ مَا قدمْنَاهُ فلنرجع إِلَى مَا نَحن بصدده من تَرْجَمَة هَذَا السَّيِّد الإِمَام فَنَقُول وَهُوَ شَاهد على مَا قدمنَا ذكره إن صَاحب التَّرْجَمَة لما ارتحل إِلَى مَكَّة وَقَرَأَ علم الحَدِيث على شَيْخه ابْن ظهيرة قَالَ للسَّيِّد مَا أحسن يَا مَوْلَانَا لَو انتسبت إِلَى إمام الشافعي أَو أَبى حنيفَة فَغَضب وَقَالَ لَو احتجت إِلَى هَذَا النّسَب والتقليدات مَا اخْتَرْت غير الإِمَام الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم أَو حفيده الهادي
وَبِالْجُمْلَةِ فَصَاحب التَّرْجَمَة مِمَّن يقصر الْقَلَم عَن التَّعْرِيف بِحَالهِ وَكَيف يُمكن شرح حَال من يزاحم أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فَمن بعدهمْ من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين فِي اجتهاداتهم ويضايق أَئِمَّة الأشعرية والمعتزلة فِي مقالاتهم وَيتَكَلَّم فِي الحَدِيث بِكَلَام أئمته المعتبرين مَعَ إحاطته بِحِفْظ غَالب الْمُتُون وَمَعْرِفَة رجال الْأَسَانِيد شخصا وَحَالا وزمانا ومكانا وتبحره فِي جَمِيع الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية على حد يقصر عَنهُ الْوَصْف
وَمن رام أن يعرف حَاله وَمِقْدَار علمه فَعَلَيهِ بمطالعة مصنفاته فَإِنَّهَا شَاهد عدل على علو طبقته فَإِنَّهُ يسْرد فِي المسئلة الْوَاحِدَة من الْوُجُوه مَا يبهر لب مطالعه ويعرفه بقصر بَاعه بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم هَذَا الإِمَام كَمَا يَفْعَله فِي العواصم والقواصم فَإِنَّهُ يُورد كَلَام شَيْخه السَّيِّد الْعَلامَة علي بن مُحَمَّد بن أَبى الْقَاسِم فِي رسَالَته الَّتِى اعْترض بهَا عَلَيْهِ ثمَّ ينسفه نسفا بإيراد مَا يزيفه بِهِ من الْحجَج الْكَثِيرَة الَّتِى لَا يجد الْعَالم الْكَبِير فِي قوته اسْتِخْرَاج الْبَعْض مِنْهَا وَهُوَ فِي أَرْبَعَة مجلدات يشْتَمل على فَوَائِد فِي أَنْوَاع من الْعُلُوم لَا تُوجد فِي شَيْء من الْكتب وَلَو خرج هَذَا الْكتاب إِلَى غير الديار اليمنية لَكَانَ من مفاخر الْيمن وَأَهله وَلَكِن أَبى ذَلِك لَهُم مَا جبلوا عَلَيْهِ من غمط محَاسِن بَعضهم لبَعض وَدفن مَنَاقِب أفاضلهم
وَمن مصنفاته تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن على أساليب اليونان وَهُوَ كتاب فِي غَايَة الإفادة والإجادة على أسلوب مخترع لَا يقدر على مثله إلا مثله وَمِنْهَا كتاب الرَّوْض الباسم فِي مُجَلد اخْتَصَرَهُ من العواصم وَكتاب إيثار الْحق على الْخلق وَهُوَ غَرِيب الأسلوب مُفِيد فِي بَابه وَله كتاب جمعه فِي التَّفْسِير النبوي وَمِنْهَا مؤلف فِي مدح الْعزبَة وَالْعُزْلَة.
ومؤلف فِي الرَّد على المعري سَمَّاهُ نصر الْأَعْيَان على شَرّ العميان وَله كتاب الْبُرْهَان الْقَاطِع فِي معرفَة الصَّانِع وَله كتاب التَّنْقِيح فِي عُلُوم الحَدِيث وَله مؤلفات غير هَذِه ومسائل أفردها بالتصنيف وَهُوَ إِذا تكلم فِي مسئلة لَا يحْتَاج النَّاظر بعده إِلَى النظر فِي غَيره من أي علم كَانَت وَقد وقفت من مسَائِله الَّتِى أفردها بالتصنيف على عدد كثير تكون فِي مُجَلد وَمَا لم أَقف عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا وقفت عَلَيْهِ وَكَلَامه لَا يشبه كَلَام أهل عصره وَلَا كَلَام من بعده بل هُوَ من نمط كَلَام ابْن حزم وَابْن تَيْمِية وَقد يأتي فِي كثير من المباحث بفوائد لم يَأْتِ بهَا غَيره كايناً من كَانَ وديوان شعره مُجَلد وشعره غالبه فِي التوسلات وَالرَّقَائِق وَتَقْيِيد الشوارد العلمية والمجاوبة لمن امتحن بِهِ من أهل عصره فإن لَهُ مَعَهم قلاقل وزلازل وَكَانُوا يثورون عَلَيْهِ ثورة بعد ثورة وينظمون فِي الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ القصائد وأفضى ذَلِك إِلَى أَن اعْترض عَلَيْهِ شَيْخه
الْمُتَقَدّم ذكره برسالة مستلقة فأجابها بِمَا تقدم وَكَانَ يجاوبهم ويصاولهم ويجاولهم فيقهرهم بِالْحجَّةِ وَلم يكن فِي زَمَنه من يقوم لَهُ لكَونه فِي طبقَة لَيْسَ فِيهَا أحد من شُيُوخه فضلا عَن معارضيه والذي يغلب على الظَّن أَن شُيُوخه لَو جمعُوا جَمِيعًا فِي ذَات وَاحِدَة لم يبلغ علمهمْ إِلَى مِقْدَار علمه وناهيك بِهَذَا.
ثمَّ بعد هَذَا انجمع وَأَقْبل على الْعِبَادَة وتمشيخ وتوحش فِي الفلوات وَانْقطع عَن النَّاس وَلم يبْق لَهُ شغله بِغَيْر ذَلِك وتأسف على مَا مضى من عمره فِي تِلْكَ المعارك الَّتِى جرت بَينه وَبَين معاصريه مَعَ أَنه فِي جَمِيعهَا مَشْغُول بالتصنيف والتدريس والذب عَن السنة وَالرَّفْع عَن إعراض أكَابِر الْعلمَاء وأفاضل الْأمة والمناضلة لأهل الْبدع وَنشر علم الحَدِيث وَسَائِر الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فِي أَرض لم يألف أَهلهَا ذَلِك لَا سِيمَا فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَلهُ أجر الْعلمَاء العاملين وَأجر الْمُجَاهدين الْمُجْتَهدين وَلكنه ذاق حلاوة الْعِبَادَة وَطعم لَذَّة الِانْقِطَاع إِلَى جناب الْحق فصغر فِي عَيْنَيْهِ مَا سوى ذَلِك
وَقد تَرْجمهُ بعض بني الْوَزير فِي كراريس وَاسْتوْفى أَحْوَاله وَلَو تَرْجمهُ فِي مُجَلد لم يكن وافيا بِحقِّهِ وترجمه أَيْضا جمَاعَة من عُلَمَاء الزيدية وَمن غَيرهم من قدمنَا ذكره كالوجيه العطاب اليمني والشريف الفاسي المالكي فِي كِتَابه العقد الثمين الذي جعله تَارِيخا لمَكَّة والبريهي ومدحه غير وَاحِد من أَعْيَان الْعلمَاء وَالْحَاصِل أَنه رجل عرفه الأكابر وجهله الأصاغر وَلَيْسَ ذَلِك مُخْتَصًّا بعصره بل هُوَ كاين فِيمَا بعده من العصور إِلَى عصرنا هَذَا
وَلَو قلت أن الْيمن لم ينجب مثله لم أبعد عَن الصَّوَاب وَفِي هَذَا الْوَصْف مَالا يحْتَاج مَعَه إِلَى غَيره وَمَا أحسن قَوْله فِي معاتبة شَيْخه الْمُتَقَدّم ذكره
(عرفت قدري ثمَّ أنكرته ... فَمَا عدا بِاللَّه ممابدا)
(وكل يَوْم لَك بي موقف ... أسرفت فِي القَوْل بِسوء البدا)
(أمس الثنا وَالْيَوْم سوء الْأَذَى ... ياليت شعري كَيفَ نضحي غَدا)
(يَا شيبَة العترة فِي وقته ... ومنصب التَّعْلِيم والاهتدا)
(قد خلع الْعلم رِدَاء الْهدى ... عَلَيْك والشيب رِدَاء الردى)
(فصن ردائيك وطهرهما ... عَن دنس الْإِسْرَاف والاعتدا)
وَكَانَت وَفَاته تغمده الله بغفرانه فِي سَابِع وَعشْرين شهر محرم سنة 840 أَرْبَعِينَ وثمان مائَة.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني.
مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن المرتضى بن الْهَادِي بن يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقسم ابْن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب الْعِزّ أَبُو عبد الله الحسني الْيَمَانِيّ الصَّنْعَانِيّ أَخُو الْهَادِي الْآتِي. ولد تَقْرِيبًا سنة خمس وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وتعانى النّظم فبرع فِيهِ وصنف فِي الرَّد على الزيدية العواصم والقواصم فِي الذب عَن سنة أبي الْقسم وَاخْتَصَرَهُ فِي الرَّوْض الباسم عَن سنة أبي الْقسم وَغَيره ذكره التقي بن فَهد فِي مُعْجَمه وَأنْشد عَنهُ قَوْله:
(الْعلم مِيرَاث النَّبِي كَذَا أَتَى ... فِي النَّص وَالْعُلَمَاء هم وراثه)
(فَإِذا أَرَادَ حَقِيقَة تدرى لمن ... وراثه فَكيف مَا مِيرَاثه)
(مَا ورث الْمُخْتَار غير حَدِيثه ... فِينَا وَذَاكَ مَتَاعه وأثاثه)
(قُلْنَا الحَدِيث وراثة نبوية ... وَلكُل مُحدث بِدعَة إحداثه)
وَكَانَ لقِيه لَهُ بمنزله من صنعاء سنة عشر. وَمَات فِي الْمحرم سنة أَرْبَعِينَ وأرخه بَعضهم فِي الَّتِي قبلهَا بِصَنْعَاء الْيمن وَله ذكر فِي أَخِيه الْهَادِي من أنباء شَيخنَا فَإِنَّهُ قَالَ: وَله أَخ يُقَال لَهُ مُحَمَّد مقبل على الِاشْتِغَال بِالْحَدِيثِ شَدِيد الْميل إِلَى السّنة بِخِلَاف أهل بَيته رَحمَه الله.
ـ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي.
محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي، أبو عبد الله، عز الدين، من آل الوزير:
مجتهد باحث، من أعيان اليمن. وهو أخو الهادي بن إبراهيم. ولد في هجرة الظهران (من شطب: أحد جبال اليمن) وتعلم بصنعاء وصعدة ومكة. وأقبل في أواخر أيامه على العبادة.
قال الشوكاني: " تمشيخ وتوحش في الفلوات وانقطع عن الناس " وما بصنعاء،
له كتب نفائس، منها " إيثار الحق على الخلق - ط " و " تنقيح الانطار في علوم الآثار - ط " في مصطلح الحديث، و " قبول البشرى بالتيسير لليسرى - ط " و " العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - خ " ثلاثة مجلدات، طبعت قطعة منه، ومختصره " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - ط " مجلدان، و " نصر الأعيان " في التنفير من شعر أبي العلاء المعري، و " البرهان القاطع في إثبات الصانع - ط " رسالة، و " حصر آيات الاحكام الشرعية " و" التأديب الملكوتي " و " الحسام المشهور في الذب عن الإمام المنصور " و " تريجح أساليب القرآن على قوانين المبتدعة واليونان - ط " و " قواعد التفسير - خ " و " ديوان شعر " و " مجموع - خ " من رسائل مختلفة له، في مكتبة الشيخ زهير الشاويش ببيروت .
-الاعلام للزركلي-
السيد محمدُ بنُ إبراهيم بنِ عليِّ بنِ المرتَضَى بنِ المفضَّل بنِ المنصور، صاحب "العواصم والقواصم".
كان من كبار حفاظ الحديث، وعلماء المجتهدين اليمانيين، غلط السخاوي في ترجمة نسبه كما يلوح من كتاب "البدر الطالع". قال الشوكاني: هو الإمام الكبير، المجتهدُ المطلَقُ المعروف بابن الوزير، ولد في شهر رجب سنة 775. وقال السخاوي: إنه ولد تقريبًا سنة 765، وهذا التقريب بعيد، والصواب الأول. تبحَّر في جميع العلوم، وفاقَ الأقران، واشتُهر صيتُه، وبَعُدَ ذكرُه، وطار علمُه في الأقطار. قال صاحب "مطالع البدور": ترجم له ابن حجر العسقلاني في "الدرر الكامنة"، انتهى. وهذا لا أصل له؛ فإنه لم يترجم له فيها أصلاً، بل ترجم له في "أنباء الغمر"، وترجم له التقي بن فهد في "معجمه"، وصنف في الردِّ على الزيدية: "العواصم والقواصم"، واختصره في "الروض الباسم"، وأنشد له في معجمه:
العلمُ ميراثُ النبيِّ كذا أَتَى ... في النَّصَّ، والعلماء هم وُرَّاثُهُ
فإذا أردتَ حقيقةً تدري بها ... وُرَّاثَه وعرفْتَ ما ميراثُهُ
ما وَرَّثَ المختارُ غيرَ حديثِهِ ... فينا وذاكَ متاعُهُ وأَثاثُهُ
قلنا: الحديثُ وراثةٌ نبويَّةٌ ... ولِكُلِّ مُحْدِثِ بدعةٍ إحداثُهُ
وذكره ابن حجر في "أنباء الغمر" في ترجمة أخيه الهادي، فقال: وله أخ يقال له: محمد، مقبلٌ على الاشتغال بالحديث، شديدُ الميل إلى السنة، بخلاف أهل بيته، انتهى. ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم، لأطال عنانَ قلمه في الثناء عليه، وكذلك السخاويُّ لو وقف على "العواصم والقواصم"، لرأى فيها ما يملأ عينه وقلبه، ولكن لعله بلغه الاسمُ دون المسمى. ولا ريب أن علماء الطوائف لا يُكثرون العناية بأهل هذه الديار؛ لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال؛ فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددًا يجاوز الوصف، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الستة الحديثية، وما يلتحق بها من دواوين الإسلام، المشتملةِ على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأسًا، ولا يشوبون دينَهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهلُ مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله، وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلاتُ عِلم الكتاب والسنة؛ من نحو وصرف، ومعان وبيان، وأصول ولغة، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية، ولو لم يكن من المزية إلاّ التقييد بنصوص الكتاب والسنة، وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خصَّ الله بها أهلَ الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادرًا، ولا ريبَ أن في سائر الديار - لا سيما المصرية والشامية - من العلماء الكبار من لا يبلغ غالبُ أهل ديارنا هذه إلى رتبته، ولكنهم لا يفارقون التقليد الذي هو دأبُ من لا يعقِلُ حججَ الله ورسوله، ومن لم يفارق التقليد، لم يكن لعلمه كثير فائدة، وإن وجد منهم من يعمل بالأدلة، ويدع التعويل على التقليد، فهو القليل النادر؛ كابن تيمية، وأمثاله.
وإني لأُكثر التعجبَ من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بعده، كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء، ويقدمونه على كتاب الله، وسنة رسوله، مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي في فهم الكتاب والسنة بعضُه؛ فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهمًا لما يسمعه منها، صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ومن صار كذلك، وجب عليه التمسكُ بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك التعويل على محض الآراء.
فكيف بمن وقف على دقائق اللغة وجلائلها إفرادًا وتركيبًا وإعرابًا وبناء، وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه من لسان العرب خافية، ولا يشذ عنه منها شاذَّةٌ ولا فاذَّة، وصار عارفًا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير كتاب الله، وما صح عن علماء الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم إلى زمنه، وأتعبَ نفسه في سماع دواوين السنة التي صنفها أئمةُ هذه الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده، فمن كان بهذه المثابة، فكيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحة، أو حديث صحيح إلى رأي رآه بعضُ المجتهدين حتى كأنه بعضُ العوام الأغتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة إلا اسمًا.
فيا لله العجب! إذا كانت نهايةُ العالم كبدايته، وآخرُ أمره كأوله، فقل لي: أَيّ فائدة لتضييع الأوقات في المعارف العلمية؟ فإن قول إمامه - الذي يقلد هو - كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه، كما نشاهده في المقتصرين على علم الفقه، فإنهم يفهمونه، بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليهم منه شيء، ويدرسون فيه، ويفتون به، وهم لا يعرفون سواه، بل لا يميزون بين الفاعل والمفعول، والذي أدين الله به: أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله - بعدَ أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه - في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعملَ بها المتقدمون والمتأخرون، كـ"ـالصحيحين" وما يلتحق بهما مما التزم فيه مؤلفوه الصحة، أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره، مع البيان لما هو صحيح، ولِما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العمل بما هو كذلك، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحدًا، أو جماعة، أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب والسنة، فكيف بما كان منها كذلك؟ بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، إلى غير ذلك، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل أمر ليس عليه أمرنا، فهو رَدّ".
فالحاصل: أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله، ويرجح بها ما ورد مختلفًا من تفسير السلف الصالح، ويهتدي بها إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح، فهو مجتهد، لا يحل له أن يقلد غيره - كائنًا مَنْ كان - في مسألة من مسائل الدين، بل يستروي النصوص من أهل الرواية، ويتمرن في علم الدراية، ويقتصر من كل فن على مقدار الحاجة، والمقدارُ الكافي من تلك الفنون هو ما يُتوصل به إلى الفهم والتمييز، ولا شك أن التبحر في المعارف، وتطويلَ الباع في أنواعها، هو خير كله، لا سيما الاستكثار من علم السنة، وحفظ المتون، ومعرفة أحوال رجال الأسانيد، والكشف عن كلام الأئمة في هذا الشأن؛ فإن ذلك مما يوجب تفاوتَ المراتب بين المجتهدين، لا أنه يتوقف الاجتهادُ عليه.
فإن قلت: ربما يقف على هذا الكلام من هو متهيئٌ لطلب العلم، فلا يدري بما ذاك يشتغل، ولا يعرف ما هو الذي إذا اقتصر عليه في كل فن بلغَ إلى رتبة الاجتهاد الذي يجب عليه عنده العملُ بالكتاب والسنة.
قلت: لا يخفى عليك أن القرائح مختلفة، والفطن متفاوتة، والأفهام متباينة، فمن الناس من يرتفع بالقليل إلى رتبة علية، ومن الناس من لا يرتفع من حضيض التقصير بالكثير، وهذا معلوم بالوجدان، ولكني أذكر ها هنا ما يكتفي به مَنْ كان متوسطًا بين الغايتين، فأقول: يكفيه من علم مفردات اللغة مثل "القاموس"، وليس المراد: إحاطتُه به حفظًا، بل المراد: الممارسةُ لمثل هذا الكتاب، أو ما يشابهه على وجه يهتدي به إلى وجدان ما يطلبه منه عند الحاجة، ويكفيه في النحو مثل "الكافية" لابن الحاجب، أو "الألفية"، وشرح مختصر من شروحهما، وفي الصرف مثل "الشافية"، وشرح من شروحها المختصرة، مع أن فيها ما لا تدعو إليه حاجة، وفي أصول الفقه مثل "جمع الجوامع"، أو "التنقيح" لابن صدر الشريعة، أو "المنار" للنسفي، أو "مختصر المنتهى" لابن الحاجب، أو "غاية السول" لابن الإمام، وشرح من شروح هذه المختصرات المذكورة، مع أن فيها جميعِها ما لا تدعو إليه الحاجة، بل غالبها كذلك، ولا سيما تلك التدقيقات التي في شروحها وحواشيها؛ فإنها من علم الكتاب والسنة بمَعْزِل، ولكنه جاء في المتأخرين مَن اشتغل بعلوم أخرى خارجة عن العلوم الشرعية، ثم استعملها في العلوم الشرعية، فجاء من بعده فظنَّ أنها من علوم الشريعة، فبعدت عليه المسافة، وطالت عليه الطريق، فربما بات دون المنزل، ولم يبلغ إلى مقصده، فإن وصل إليه، وصل بذهن كليل، وفهم عليل؛ لأنه قد استفرغ قوته في مقدماته، وهذا مشاهد معلوم؛ فإن غالب طلحة علوم الاجتهاد تنقضي أعمارهم في تحقيق الآلات وتدقيقها، ومنهم من لا يفتح كتابًا من كتب السنة، ولا سفرًا من أسفار التفسير، فحالُ هذا كحال من حصل الكاغد والحبر، وبرى أقلامه، ولاك دواته، ولم يكتب حرفًا، فلم يفعل المقصود؛ إذ لا ريب أن المقصود من هذه الآلات هو الكتابة. كذلك حالُ من قبله، ومن عرف ما ذكرناه سابقًا، لم يحتج إلى قراءة كتب التفسير على الشيوخ؛ لأنه قد حصل ما يفهم به الكتاب العزيز، وإذا أشكل عليه شيء من مفردات القرآن، رجع إلى ما قدمنا أنه يكفيه من علم اللغة، وإذا أشكل عليه إعراب، فعنده من علم النحو ما يكفيه، وكذلك إذا كان الإشكال يرجع إلى علم الصرف، وإذا وجد اختلافًا في تفاسير السلف التي يقف عليها مطالعته، فالقرآن عربي والمرجع لغة العرب، فما كان أقرب إليها، فهو أحقُّ مما كان أبعدَ، وما كان من تفاسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو - مع كونه شيئًا يسيرًا - موجود في كتب السنة.
ثم هذا المقدار الذي قدمنا يكفي في معرفة معاني متون الحديث، وأما ما يكفيه في معرفة كون الحديث صحيحًا أو غير صحيح، فقد قدمنا الإشارة إلى ذلك، ونزيده إيضاحًا، فنقول: إذا قال إمامٌ من أئمة الحديث المشهورين بالحفظ، والعدالة، وحسن المعرفة، والضبط: إنه لم يذكر في كتابه إلا ما كان صحيحًا، وكان ممن مارس هذا الشأن ممارسة كلية؛ كصاحبي "الصحيحين"، وبعدهما "صحيح ابن حبان"، و"صحيح ابن خزيمة"، ونحوهما، فهذا القول مسوغ للعمل بما وجد في تلك الكتب، وموجب لتقديمه على التقليد، وليس هذا من التقليد؛ لأنه عملٌ برواية الثقة، والتقليد: عملٌ برأيه، وهذا الفرق أوضحُ من الشمس، وإن التبس على كثير من الناس، وأما ما يدندن حوله أربابُ علم المعاني والبيان من اشتراط ذلك، وعدم الوقوف على حقيقة معاني الكتاب والسنة بدونه.
فأقول: ليس الأمر كما قالوا؛ لأن ما تمس الحاجة إليه في معرفة الأحكام الشرعية قد أغنى عنه ما قدمنا ذكرَه من اللغة والنحو والصرف والأصول، والزائدُ عليه - وإن كان من دقائق العربية وأسرارها، ومما له مزيد التأثير في معرفة بلاغة الكتاب العزيز - لكن ذلك أمرٌ وراءَ ما نحن بصدده، وربما يقول قائل: بأن هذه المقالة مقالةُ من لم يعرف ذلك الفن حقَّ معرفته، وليس الأمرُ كما يقول؛ فإني قد شُغلت برهةً من العمر في هذا الفن، فمنه: ما قعدت فيه بين أيدي الشيوخ؛ كشرح التلخيص المختصر وحواشيه، وشرحه المطول وحواشيه، وشرحه الأطول، ومنه: ما طالعته مطالعة متعقب، وهو ما عدا ما قدمته، وقد كنت أظن في مبادىء طلب هذا الفن ما يظنه هذا القائل، ثم قلتُ ما قلتُ عن خبرة وممارسة وتجريب، والزمخشري وأمثاله - وإن رغبوا في هذا الفن - فذلك من حيث كونه مدخلاً في معرفة البلاغة؛ كما قدمنا، وهذا الجواب الذي ذكرته ها هنا هو الجواب على المعترض في سائر ما أهملته ما يظن أنه معتبر في الاجتهاد، ومع هذا كله، فلسنا بصدد بيان القدر الذي يجب عنده العمل بالكتاب والسنة، وإلا، فنحن ممن يرغِّب الطلبةَ في الاستكثار من المعارف العلمية، على اختلاف أنواعها؛ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ومن رام الوقوف على ما يحتاج إليه طالبُ العلم من العلوم على التفصيل والتحقيق، فليرجع إلى الكتاب الذي جمعتُه في هذا الشأن، وسميته: "أدب الطلب ومنتهى الأرب"، وهو كتاب [لا] يستغني عنه طالب الحق، على أني أقول بعد هذا: إن من كان عاطلاً عن العلوم، الواجبُ عليه أن يسأل مَنْ يثق بدينه وعلمه عن نصوص الكتاب والسنة في الأمور التي تجب عليه؛ من عبادة، أو معاملة، وسائر ما يحدث له، فيقول لمن يسأله: عَلِّمني أصحَّ ما ثبتَ في ذلك من الأدلة حتى أعملَ به، وليس هذا من التقليد في شيء؛ لأنه لم يسأله عن رأيه، بل عن روايته، ولكنه لما كان - لجهله - لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة، وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك، فهو عاملٌ بالكتاب والسنة بواسطة المسؤول، ومن أحرز ما قدمنا من العلوم عامل بهما بلا واسطة في التفهم، وهذا يقال له: مجتهد، والعامي المعتمد على السؤال ليس بمقلد، ولا مجتهد، بل عامل بالدليل بواسطة مجتهد يُفهمه معانيه، وقد كان غالب السلف - من الصحابة والتابعين، وتابعيهم الذين هم خيرُ القرون من هذه الطبقة - كذلك، ولا ريب أن العلماء بالنسبة إلى غير العلماء أقلُّ قليل. فمن قال: إنه لا واسطة بين المقلد والمجتهد.
قلنا له: قد كان غالب السلف الصالح ليسوا بمقلدين ولا مجتهدين، أما كونهم ليسوا بمقلدين، فلأنه لم يُسمع عن أحد من مقصري الصحابة أنه قلد عالمًا من علماء الصحابة المشاهير، بل كان جميع المقصرين منهم يستروون علماؤهم نصوصَ الأدلة، ويعملون بها، وكذلك مَنْ بعدهم من التابعين وتابعيهم، من قال: إن جميع الصحابة مجتهدون، وجميعَ التابعين وتابعيهم كذلك، فقد أعظم الفرية، وجاء بما لا يقبله عارف.
وهذه المذاهب والتقليدات التي معناها قبولُ قول الغير دون حجته لم تحدثْ إلا بعد انقراض "خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وخيرُ الأمورِ السالفاتُ على الهُدَى ... وشَرُّ الأمورِ المُحْدَثاتُ البدائِعُ
وإذا لم يسع غيرَ العالم في عصور الخَلَف ما وسعه في عصور السلف، فلا وَسَّعَ الله عليه.
قال: وهذا عارضٌ من القول اقتضاه ما قدمناه، فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجمة هذا السيد الإمام، انتهى.
اقبلْ نصيحةَ واعظٍ ... وَلَو أنَّه فِيها مُراءِ
فلرُبَّما نفعَ الطبيبُ ... وكانَ أحوجَ للدواءِ
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - أبو الِطيب محمد صديق خان البخاري القِنَّوجي.