أحمد بن محمد فتح الدين البققي المصري
تاريخ الولادة | 660 هـ |
تاريخ الوفاة | 701 هـ |
العمر | 41 سنة |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
أحمد بن محمد
فتح الدين بن البَقَقيّ - بباء موحّدة وقافين مفتوحات -.
كان مقيماً بالديار المصرية يبحث ويناظر ويذاكر بالفوائد المنتقاة ويحاضر، قلّما ناظر أحداً إلا قطعه وأتى به إلى مضيق التسليم ودفعه، إلا أنه مع ذكائه وحرصه في البحث وإعيائه كان يبدو منه من الاستخفاف ما لا يليق، ويظهرُ منه في الظاهر ما لا يحسُن أن يكون في السرّ من الجاثليق، حتى ظهر أنه زنديق، ونبيّن أنه مرتدّ عن الإسلام عن تحقيق؛ لأنه كان يستخفّ بالشرع الذي شهدَت العقول بحسن وصفه، ويستهتر بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلْفه.
ولم يزل في جنونه ودَوَران مَنْجنونه، إلى أن أطاح سيفُ الشرع رأسه، وأطفأ ريح القتل نبراسه، وأصبح الفتح قُبحاً، وأورده الذبّ عن الدين القيِّم ذبْحاً، ضرب القاضي المالكي عُنقه بين القصرين سنة إحدى وسبع مئة في شهر ربيع الأول وطيْف برأسه، وكان قد تكهّل، ولما ضرب رأسه بالسيف لم يمضِ قطع رقبته، فتمّم حزّ رقبته بالسكين.
وأخبرني جماعة بالقاهرة عن ابن المحفّدار أنه قال له يوماً: كأني بك وقد ضربت رقبتك بين القصرين، وقد بقي رأسك معلقاً بجلدة، فكان الأمر كما قال.
ومن شعره:
جُبلتُ على حُبّي لها وألفتُه ... ولا بدّ أن ألقى به الله معلِنا
ولم يخلُ من قلبي بقدْر ما ... أقول وقلبي خالياً فتمكّنا
قلت: يشير إلى قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ... وصادف قلباً خالياً فتمكّنا
ومنه:
لحى الله الحَشيشَ وآكليها ... لقدْ خبُثتْ كما طاب السُّلاف
كما يصبي كذا تضني، وتُشقي ... كما يَشفي وغايتها الحُرّاف
وأصغر دائها والداء جمّ ... بغاء أو جنون أو نُشتف
ومنه:
يا منْ يخادعني بأسهم مكْره ... بسَلاسة نعُمت كلمس الأرقم
اعتدّ لي زَرَداً تضايق نسْجُه ... وعليَّ عُيونها بالأسهم
ومنه، وقد جلس عند بعض الأطباء ساعة فلم يُطعمه شيئاً، فلما قال:
لا تحسبوا أنّ الحكيم لبخله ... حمانا الغِدا ما ذاك عندي من البخل
ولكنه لمّا تيقّن أننا ... مرضنا برؤياه حَمانا من الأكل
ومنه:
أين المراتب في الدنيا ورِفعتها ... من الذي حاز عِلماً ليس عندهم
لا شكّ أن لنا قَدراً رأوه وما ... لمثلهم عندنا قَدرٌ ولا لهم
هم الوحوش ونحن الإنس حِكمتُنا ... تقودهم حيثما شِينا وهم نَعمُ
وليش شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وِجْدانهم عدم
لنا المريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهلُ والحشمُ
قلت: كأنه نظم هذه الأبيات لما سمع أبيات الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى، وهي مما أنشدنيه الحافظ أبو الفتح، قال: أنشدني لنفسه:
أهل المراتب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مَرْذولون بينهم
فما لهم من تَوَقّي ضرّنا نظرٌ ... ولا لهم في ترقّي قَدْرينا هِممُ
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم
فليتنا لو قَدِرنا أن نعرفهم ... مِقدارهم عندنا أَوْلَو دَرَوهُ هم
لهم مريحان من جاه وفضل غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعَدَم
ومن شعر ابن البَققيّ:
الكُسّ للجُحر غدا ... مُعانداً في القِدم
فانظره يبكي حَسَداً ... في كل شهر بدمِ
وما أحسن قول الحكيم شمس الدين محمد بن دانيال:
لا تلُم البَقِّيّ في فعله ... إن زاغ تضليلاً عن الحقّ
لو هذّب الناموس أخلاقه ... ما كان منسوباً إلى البقّ
وقوله فيه لمّا سجن ليقتل:
يظنّ فتى البققي أنه ... سيخلص من قبضة المالكيْ
نعم سوف يُسلمه المالكيُّ ... قريباً ولكن إلى مالِكِ
وقيل: إنه استغاث يوم قتله بالشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد، وقال: أنا تردّدت إليك أربعة أشهر لازمتك فيها، هل رأيت مني شيئاً مما ذكر هؤلاء؟ فقال: ما رأيت منك إلا الفضيلة.
أعيان العصر وأعوان النصر- صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ).
____________________________________________________
أَحْمد بن مُحَمَّد البققي الْمصْرِيّ فتح الدّين ولد سنة سِتِّينَ تَقْرِيبًا وتفقه كثيرا واشتغل وتأدب وناظر حَتَّى مهر فِي كل فن وَقطع الْخُصُوم فِي المناظرة وفَاق الأقران فِي المحاضرة وبدت مِنْهُ أُمُور تنبئ بِأَنَّهُ مستهزئ بِأُمُور الدّيانَة فَادّعى عَلَيْهِ عِنْد القَاضِي الْمَالِكِي زين الدّين ابْن مخلوف بِمَا يَقْتَضِي الانحلال وَاسْتِحْلَال الْمُحرمَات والاستهزاء بِالدّينِ وَأخرج محْضر كتب عَلَيْهِ فِي سنة 686 وَقَامَت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة بذلك فحبس فَكتب ورقة من الْحَبْس إِلَى ابْن دَقِيق الْعِيد صفة فتيا فَكتب عَلَيْهَا أَن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف فأرسلها إِلَى الْمَالِكِي فَقَالَ هَذِه فِي الْكفَّار إِذا أَسْلمُوا وَرَجَعُوا ثمَّ أحضر من السجْن قُدَّام شباك الصالحية فأعيدت عَلَيْهِ الدَّعْوَى فاعترف وَصَارَ يتَلَفَّظ بِالشَّهَادَتَيْنِ ويصيح بِابْن دَقِيق الْعِيد وَيَقُول يَا مُسلمين أَنا كنت كَافِرًا وَأسْلمت فَلم يقبل مِنْهُ الْمَالِكِي وَحكم بقتْله فَضربت رقبته بَين القصرين وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول سنة 701 وَيُقَال أَن الشَّيْخ الْمَعْرُوف بالجمندار سمع كَلَامه فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي بك وَقد ضربت عُنُقك بَين القصرين وَبَقِي رَأسك مُعَلّقا بجلده فَكَانَ كَذَلِك قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ عَالما مفنناً مناظراً من قَرْيَة بققة من حماة وَقيل من الْحجاز وَكَانَ من الأذكيا مِمَّن لم يَنْفَعهُ علمه كَانَ يشطح ويتفوه بعظائم وينعق بمسعدة النُّبُوَّة والتنزيل ويتجهرم بتحليل الْمُحرمَات وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي كَانَ يتطبب وَلَا يدْرِي ويتأدب وَلَا يعلم وَيَدعِي الْعقل وَلَا عقل لَهُ بل كَانَ برياً من كل خيرٍ وَفِيه يَقُول ابْن دانيال (يظنّ فَتى البققي أَنه ... سيخلص من قَبْضَة الْمَالِكِي)
(نعم سَوف يُسلمهُ الْمَالِكِي ... قَرِيبا وَلَكِن إِلَى مَالك)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا
(لَا تسلم البققي فِي فعله ... إِن زاغ تضليلاً عَن الْحق)
(لَو هذب الناموس أخلاقه ... مَا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى البق)
وَلما سمع ابْن البققي قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد
(أهل الْمَرَاتِب فِي الدُّنْيَا ورفعتها ... أهل الْفَضَائِل مرذولون بَينهم)
(فَمَا لَهُم فِي توقي ضرنا نظر ... وَلَا لَهُم فِي ترقي قَدرنَا همم)
(قد أنزلونا لأَنا غير جنسهم ... منَازِل الْوَحْش فِي الإهمال عِنْدهم)
(فليتنا لَو قَدرنَا أَن نعرفهم ... مقدارهم عندنَا أَو لَو دروه هم)
(لَهُم مريحان من جهلٍ وَفضل غنى ... وَعِنْدنَا المتعبان الْعلم والعدم)
فَقَالَ ابْن البققي مناقضاً لَهُ
(أَيْن الْمَرَاتِب فِي الدُّنْيَا ورفعتها ... من الَّذِي حَاز علما لَيْسَ عِنْدهم)
(لَا شكّ أَن لَهُم قدرا رَأَوْهُ وَمَا ... لمثلهم عندنَا قدرٌ وَلَا همم)
(هم الوحوش وَنحن الْإِنْس حكمتنا ... تقودهم حَيْثُ مَا شِئْنَا وهم نعم)
(وَلَيْسَ شَيْء سوى الإهمال يقطعنا ... عَنْهُم لأَنهم وجدانهم عدم)
(لنا المريحان من علمٍ وَمن عدم ... وَفِيهِمْ المتعبان الْجعل والحشم)
وَمن جملَة مَا شهد بِهِ على البققي أَنه قَالَ لَو كَانَ لصَاحب المقامات حظٌ لكَانَتْ مقاماته تتلى فِي المحاريب وَأَنه كَانَ يفْطر فِي نَهَار رَمَضَان بِغَيْر عذرٍ وَأَنه كَانَ يضع الربعة تَحت رجلَيْهِ ويصعد ليتناول حاجةٍ لَهُ من الرف وَيُقَال أَنه لما ضربت عُنُقه لم يمض السَّيْف فِيهَا فحزت وَرفعت رَأسه على قناة وَنُودِيَ عَلَيْهَا وَحكى ابْن سيد النَّاس أَن ابْن البققي دخل على ابْن دَقِيق الْعِيد وَهُوَ عِنْده فَسَأَلَهُ عَن مَسْأَلَة فَلم يجب عَنْهَا فولى وَهُوَ ينشد (وقف الْهوى بِي حَيْثُ أَنْت - الأبيات)
فَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد عُقبى هَذَا الرجل إِلَى التلاف فَلم يمض سوى أحد وَعشْرين يَوْمًا وَقتل وَيُقَال أَنه كَانَ يستخف بِالْقَاضِي الْمَالِكِي ويسبه ويطعن فِيهِ فَكَانَ ذَاك يبلغهُ وَلَا يهيجه إِلَى أَن ظفر بالمحضر المكتتب عَلَيْهِ قبل ذَلِك بِمَا تقدم ذكره وَطَلَبه طلبا عنيفاً وأدعى عَلَيْهِ عِنْده فَأنْكر فَقَامَتْ الْبَيِّنَة فَأمر بِهِ فسجن ليبدي الدَّافِع فِي الشُّهُود وَحكم الْمَالِكِي بزندقته وإراقة دَمه وَنقل الْمحْضر إِلَى ابْن دَقِيق الْعِيد فَقَالَ لَا أنفذ قتل من شهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَألقى الْمحْضر من يَده فَبلغ ذَلِك وَالِي الْقَاهِرَة نَاصِر الدّين ابْن الشحي وَكَانَ يمِيل إِلَى ابْن البققي فانتصر لَهُ وسعى فِي نَقله من الْمَالِكِي إِلَى الشَّافِعِي فأشير عَلَيْهِ بِأَن يكْتب محضراً بِأَنَّهُ مَجْنُون فَكتب فِيهِ جمَاعَة وأحضره لِابْنِ دَقِيق الْعِيد فَلَمَّا نظر فِيهِ قَالَ معَاذ الله مَا أعرفهُ إِلَّا عَاقِلا فَدس من يبغض البققي إِلَى الشهَاب الْفَزارِيّ أَن ينظم فِيهِ شَيْئا فنظم وَكتب بهَا إِلَى الْمَالِكِي
(قل للْإِمَام الْمَالِكِي المرتضى ... وَكَاشف الْمُشكل والمبهم)
(لَا تهمل الْكَافِر واعمل بِمَا ... قد جَاءَ فِي الْكَافِر فِي مُسلم)
فَلَمَّا وقف عَلَيْهِمَا قَالَ شَاعِر ومكاشف قد عزمت على ذَلِك وَكتب ابْن البققي إِلَى الْمَالِكِي من السجْن
(يَا من يخادعني بأسهم مكره ... بلاسل نعمت كلمس الأرقم)
(أَعدَدْت لي زرداً تضايق نسجها ... وَعلي قلت عيونها بالأسهم)
يَعْنِي أسْهم الدُّعَاء فَقَالَ فِي جَوَابه أَرْجُو أَن الله لَا يهملني حَتَّى يفعل ثمَّ نَهَضَ من وقته إِلَى السُّلْطَان فاستأذنه فِي قَتله فَأَشَارَ بِأَن يتَمَسَّك فِي أمره فَقَالَ الْمَالِكِي قد ثَبت عِنْدِي كفره وزندقته فحكمت بإراقة دَمه وَوَجَب على ذَلِك فَلَمَّا رأى السُّلْطَان انزعاجه قَالَ إِن كَانَ وَلَا بُد فَلْيَكُن بِمحضر الْحُكَّام وَأرْسل إِلَى الْوَالِي والحاجب وَحضر الْقُضَاة الْأَرْبَعَة فَتكلم بِمَا حكم بِهِ فوافقه السرُوجِي الْحَنَفِيّ وَقَالَ اقْتُلُوهُ وَدَمه فِي عنقِي فَقتل وَالله أعلم بِحَالهِ وَيُقَال أَن ابْن دَقِيق الْعِيد وَافق الْجَمَاعَة فَقَالَ ابْن البققي {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} فَقَالَ {الْآن وَقد عصيت قبل} وَلَقَد جرى فِي أمره نَحْو مَا جرى فِي زَمَاننَا للشَّيْخ الْمَيْمُونِيّ مَعَ القَاضِي الْحَنَفِيّ زين الدّين التفهني لَكِن جبن الْحَنَفِيّ عَن قَتله بعد أَن تمكن من ذَلِك فآل الْأَمر إِلَى أَن خلص من الْقَتْل وأعيد إِلَى السجْن إِلَى أَن حكم الْحَنْبَلِيّ بعد ذَلِك بِإِطْلَاقِهِ
-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني-