عبد الرَّحْمَن بن يحيى الآنسي ثمَّ الصنّعاني
ولد فِي شهر ذي الْقعدَة سنة 1168 ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف ونشأ بِصَنْعَاء فَأخذ فِي علم الْعَرَبيَّة وَغَيره عَن جمَاعَة كالسيد اسمعيل بن اسمعيل ابْن نَاصِر الدَّين وَالسَّيِّد الْعَلامَة عبد الله بن مُحَمَّد الْأَمِير وَغَيرهمَا وَأخذ فِي الْفِقْه على شَيخنَا الْعَلامَة احْمَد بن مُحَمَّد الحرازي وَفِي الحَدِيث على الْمُحدث الْعَلامَة لطف البارى بن احْمَد الوردواكب على المطالعة واستفاد بصافي ذهنه الْوَقَّاد ووافي فكرة النقاد علوماً جمة ولاسيما فِي الْعُلُوم الأدبية
فَهُوَ فِيهَا أحد أَعْيَان الْعَصْر المجيدين وولاه خَليفَة الْعَصْر حفظه الله الْقَضَاء فِي بعض الْبِلَاد اليمنية ثمَّ نَقله إِلَى بِلَاد حجَّة وولاه قَضَاء تِلْكَ الْجِهَات وَمَا والاها وباشره مُبَاشرَة حَسَنَة بعفة وصيانة وَحُرْمَة ومهابة وصرامة بِحَيْثُ صَار أمره فِيهَا أنفذ من أَمر الْعمَّال وَقد يَغْزُو بعض المبطلين اَوْ الْمُخَالفين للشَّرْع بِجَمَاعَة مَعَه وَيقدم إقداماً يدل على شجاعة ويسلك مسالك يَقُودهُ اليها حسن التَّدْبِير فبمجموع هَذِه الأوصاف صَار لَا يسد غَيره مسده وَلَا يقوم مقَامه سواهُ مَعَ أَن هَذِه الْولَايَة هي دون جليل قدره وَلَكِن مثل تِلْكَ الْجِهَات مَعَ شرارة أَهلهَا وتعجر فهم وَقُوَّة صولتهم لَا ينفذ الأحكام الشَّرْعِيَّة فيهم الامثلة وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عاكف على مطالعة الْعُلُوم على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا مُسْتَغْرق غَالب ساعاته فِي ذَلِك كثير المذاكرة والمباحثة فِي الْمسَائِل الدقيقة مغرم بنظم الْأَشْعَار الفائقة الْجَارِيَة على نمط الْعَرَب المحبرة بخالص اللُّغَة وغريبها وَله من النثر البليغ مايفوق الْوَصْف وَقد اجتمعت بِهِ فَرَأَيْت من حسن محاضرته وَطيب منادمته وَقُوَّة ذهنه وَسُرْعَة فهمه مَا يقصر عَنهُ الْوَصْف وَقد كتب الى رِسَالَة مُشْتَمِلَة على عشرَة أسئلة أجبْت عَلَيْهَا برسالة سميتها طيب النشر فِي جَوَاب الْمسَائِل الْعشْر وهى مَوْجُودَة فِي مَجْمُوع رسايلى وَكتب إليّ هَذِه القصيدة الطنانة بعد أَن قدم بَين يَديهَا هَذَا النثر الْفَائِق وَلَفظه من عبد الرَّحْمَن ابْن يحيى غفر الله لَهما إِلَى الْمولى الْمَنْسُوب إلى كل علم نِسْبَة مُؤثرَة فِي الْعين عَن ملكة قَوِيَّة الْبَنَّا على عناية وعنا الْمَوْضُوع بأول الأولى من طَبَقَات أَهله لَا تَقْتَضِيه المعاجيم بل بأحقية التَّقْدِيم الْمسلمَة إليه من كل عَظِيم الْمَوْصُوف بِهِ على أفعل التَّفْضِيل وصيغ التكثير التَّامَّة وتأنيث الْمُبَالغَة ذِي الْعَلامَة من الأعلم والعلام والعلامة
(عَلامَة الْعلمَاء وَالْبَحْر الَّذِي ... لَا ينتهي وَلكُل بَحر سَاحل)
من لَا تضرب الْيَوْم آباط الْمطِي الا إِلَى مثله وَلَا يخط فِي بَيَاض النَّهَار كسواد ظله والقاضى المقرون بمعية اللَّام لوُجُود مقتضيها وَانْتِفَاء مانعها المسدد بِالْملكِ فِي مطالع قضاياه ومقاطعها
(قَاض اذا اشْتبهَ الامر إن عَن لَهُ ... رَأْي يفرّق بَين المَاء وَاللَّبن)
(بَحر الإسلام حَسَنَة الأيام أكرم ... من شرب مَاء الْغَمَام مدت مدَّته)
(وعدت عدته وحرست مهجته ... وَحسنت نهجته وأونست بهجته)
أما بعد فإني أَحْمد إليك الله على تَمام مَا أولاه وَحسن بلاه على أَنِّي لم أكن عبداً شكُورًا وَكَانَ الإنسان لرَبه كفوراً وأنهي إِلَى حَضْرَة علمك المنورة وروضة أدبك المنورة كمدى بمفارقتها وشوقى لمشاهدتها وكلفى بفايدتها وحاجتى لعايدتها وإني لَا أذكر مِنْك ذَلِك الْمجْلس الْقصير واللقاء بالملتقى من جناج طاير يطير الا وقفت بِهِ من علمك على شاطئ بَحر لجي فاغترفت غرفَة بيدى لم ينقع صداى وَلم يبلغ ثلجى الا أنشدت برنة المتشجى
(بَاهل إِلَى سرحة الوادي مؤوبة ... قبل الْمَمَات بذي وجدبها ناشي)
(ألمّ إلمامة لم تجتن ثمراً ... وَلَا تفيأ ظلاً غير أكباش)
وَلَوْلَا تروحي بأملي أَن أملا لزامك والمثول أمامك مثولاً أُصِيب بِهِ من علمك خيراً يزْجر لي بيمن طيرا ويقينى أَن ماذلك على الله بعزيز وَلَا نايله من سايله فِي حرز حريز لقد ذهبت نفسي حسرات وَضَاقَتْ بي فسيحات البسيطات
(أعلل النَّفس بالآمال أرقبها ... مَا أضيق الْعَيْش لَوْلَا فسحة الأمل)
هَذَا وَقد تكلف الْفِكر الجامد بِمصْر البليات والذهن الخامد بصرصر النكبات عمل هَذِه القصيدة بشئ من مدائحك العديدة على أَنى لم أحل بهَا عاطلاً وَلم أرفع بهَا خاملاً وصفات ضوء الشَّمْس تذْهب بَاطِلا لِأَن الْوَصْف مارفع احْتِمَالا أَو قلل اشتراكاً أَو كشف معنى وَالشَّمْس عَن كل فِي غنى وَمَا لَهَا فِي أي غنا ووصفك أَيهَا السَّيِّد الْجَلِيل من ذَلِك الْقَبِيل فِي ذَلِك السَّبِيل على أَنى لَو بصرت أمري لما سيرت إليك شعرى فقد قَالَ حسان بن ثَابت
(وإنما الشّعْر لبّ الْمَرْء يعرضه ... على الْمجَالِس ان كيساوان حمقا)
وَلَكِن غلبت المقة على مُقْتَضى عدم الثِّقَة وشجعني قَوْله أَيْضا
(وإنّ اصدق بَيت أَنْت قَائِله ... بَيت يُقَال إذا أنشدته صدقا)
فَقلت وَمَا ضرّ شعراً مُقَابلا بالتصديق الصَّرِيح أَن لَا يكون ذَا معنى فِي لفظ فصيح وَبعد فأمامه مِنْك عين الرِّضَا ذَات الكلال عَن الْعَيْب والاغضا وَالسَّلَام ختام
(ألا قَامَت تنازعنى ردائى ... غَدَاة نفضت أحلاس الثواء)
(مفهفهة كخوط البان تهفو ... إليّ بعنق خاذلة الظباء)
(يلوح القرط مِنْهُ على هَوَاء ... يروقك ذَاهِبًا فِيهِ وجائي)
(وحابسة لذي نظر طموح ... عَلَيْهِ بِلَا أَمَام وَلَا وَرَاء)
(وَقد أرْخى مدامعها ارتحالي ... وَكَانَت لَيْسَ تدري بالبكاء)
(وَقَالَت لَو أَقمت لَكَانَ مَاذَا ... حنانيك التَّفَرُّق والتنائي)
(وعيشك لَو تركت وَمَا تشائي ... لما بَعدت سماؤك من سمائى)
(وَلَكِن الزَّمَان لَهُ صروف ... وَقد تعدو على الْقَوْم الْبَراء)
(وقبلي مَا نبت أَرض بَحر ... ففارقها بحب اَوْ قلاء)
(فعني لست بِالرجلِ المروي ... وَلَا طوع الحسان من النِّسَاء)
(وعزمي قد علمت إذا ستطارت ... بِهِ نِيَّة تغلغل ذَا مضاء)
(فكم أغرى إلى وادي هبوطي ... ذياباً بالتضور والعواء)
(وراع العصم فِي نيق صعودي ... وهاج الربد فِي خبت نجائي)
(على وجناء تخترق الموامي ... وتجتاز الْمِيَاه على الظماء)
(يعارضها اللُّصُوص ليدركوها ... وَمن يعلق براكبة الْهَوَاء)
(فقادتها الادلة اقتبالى ... وساقتها لثانية انثنائى)
(وَمَا انقشعت غيابتها وفيهَا ... من الابطاء من ايلى بلائي)
(وَكنت على معسكرها وحكمي ... لَهُم أما علمت على سوائي)
(بوضاح ضَمَان المَال عاف ... جنايا الْعمد شَدَّاخٍ الدِّمَاء)
(وسل عَنى العداة فعندهم من ... ممارستي مصدقة ادعائي)
(وَمَا أَنا بالبخيل بنائيات الْحُقُوق ... على الإضافة والثراء)
(وَلَا كلّ على الأخوان عى ... وَلَا شاكى الصديق من الْجفَاء)
(وَلَا بمفحم أن ناغمتني ... بَنَات الشّعْر مِنْهُ بالحداء)
(وَقد جربت هَذَا الدَّهْر حَتَّى ... مرنت على المراضي والمسائي)
(وَلم أعدم على الْخطب اصطباري ... وَلم افقد على الهول اجترائي)
(وَلَا استوحشت من شئ أمامى ... وَلم أَحْزَن على شئ ورائي)
(وَلَوْلَا عَالم الْمصر الذي سر ... ت عَنهُ لما حننت إليه نائي)
(لنعم مُحَمَّد رجلا وَحقّ ... لَهُ وَعَلِيهِ طيبَة الثَّنَاء)
(هوالبحر الذي جَاشَتْ بِعلم ... غوارب موجه ذَات ارتماء)
(فطبقت الْبِلَاد وَعَاد مِنْهَا ... إِلَيْهِ الْفضل عَن عذر ملاء)
(تَعَالَى الله معطية امتناناً ... وَلَيْسَ الله مَحْظُور الْعَطاء)
(لقد آتَاهُ علماً من لَدنه ... يضيق بوسعه ذَات الْقَضَاء)
(وَلَكِن صَدره المشروح أضخى ... كَمَا بَين الثريا والثراء)
(وَحين لَقيته بادي بداء ... بِوَقْت مثل ابهام القطاء)
(لقِيت بِهِ الْأَئِمَّة فِي فنون ... بفرد الشَّخْص مُتحد الرواء)
(ففي علم الْكَلَام أَبَا علي ... وفي علم اللُّغَات أَبَا الْعَلَاء)
(وَفِي التصريف عُثْمَان بن جني ... وَفِي النَّحْو الْمبرد والكسائي)
(وجار الله فِي علم الْمعَانى ... وإبراز النكات من الخفاء)
(وَابْن كثير الشَّيْخ المعالي ... من التَّفْسِير خافقة اللِّوَاء)
(وزين الدَّين فِي التحديث حفظاً ... لإسناد وَمتْن ذَا وكاء)
(وَيحيى فِي الرِّجَال بِنَقْد قَول ... جرى فِيهِ بصفو أَو جفَاء)
(وَفِي التَّارِيخ وَالْأَخْبَار جما ... عها الذهبي فهاق الإناء)
(وَفِي الْفِقْه ابْن رشد من تحلت ... نهايته بِحسن الابتناء)
(وَعند قَضَائِهِ ولدى فَتَاوَاهُ ... عَن تبريزه كشف الغطاء)
(فَلَو لازمته من بعد أوكا ... ن حظى مِنْهُ تكْرَار اللِّقَاء)
(اذا لغدوت رَأْسا فِي عُلُوم ... يكون بهديه فِيهَا اهتدائى)
(أنادي قَائِلا قولاً سديداً ... يصدق بَين مستمعي النداء)
(بانك صَاحب السهْم المعلا ... بَين سِهَام إرث الْأَنْبِيَاء)
(وأنّك عَالم الْقطر الْمُسَمّى ... ومجتهد الزَّمَان بِلَا مراء)
(وَأَن مُجَدد الْمِائَة الَّتِى نَحن ... فِيهَا لَهو أَنْت بِلَا امتراء)
(وَأَنَّك لَا نرى لَك من مثيل ... وَلم تَرَ مثل نَفسك فِي المرائي)
(وَأَن شَرِيعَة الدَّين استنارت ... بِمَا سميت فِيهَا للْقَضَاء)
(أصَاب بك الْخَلِيفَة فرض عين ... عَلَيْك مضيّقاً وَقت الْأَدَاء)
فَلَو لم تقض بَين النَّاس طَوْعًا ... أثمت بِمَا جنحت إلى الآباء)
(جزيت عَن الْيَتِيم وَأمه والضعيف ... وَقَومه خير الْجَزَاء)
(أخذت لَهُم بحقهم فَبَاتُوا ... وَقد أمنُوا تعدي الأقوياء)
(وَطَائِفَة على قَاض ومفت ... ترادوها بِثَوْب الأعمياء)
(وَسَاعَة مَا أتتك فَككت مِنْهَا ... معماها بواضحة السناء)
(وَهَذَا ربح علمك فاستف خَيره ... فِي الِابْتِدَاء والانتهاء)
(وَلَا بَرحت سوارى الْغَيْث صنعاء ... مَا طرفتك حيافى الحواء)
(فإن تهْلك فَلَا شامت عَلَيْهَا ... عُيُون النَّاس بارقة الْحيَاء)
(وَلَا حملت عقيب الطُّهْر أنثى ... وَلَا ولدت غُلَاما ذَا ذكاء)
فأجبت عَن هَذَا النظم والنثر بقولي
من جمع أشتات الْفَضَائِل والفواضل وَبلغ فِي مجده إِلَى مَكَان يقصر عَنهُ المتطاول نور حدقة أَوَانه وإنسان عين زَمَانه من ضرب النَّجْم سرادقه دون مَكَانَهُ وخفي سِنَان السماك عِنْد سنا سنانه قريع أَوَانه فريع خلانه وأخدانه من أشاد بأبياته المشيدات شرعة الآداب وأحيا ببلاغته البليغة أَرْوَاح أموات رسوم الْكتاب فَهُوَ الْفَرد الْكَامِل ذاتا الْكل الْمُسْتَحق لنسبة جَمِيع الْفَضَائِل إِلَيْهِ أنعاتا
(لَيْسَ على الله بمستنكر ... أَن بِجمع الْعَالم فِي وَاحِد)
وَبعد فإنه وصل إِلَى الحقير ذَلِك العقد الجوهري الَّذِي هُوَ بِكُل الأمداح الصِّحَاح الفصاح الصَّباح حري وَأَقُول سُبْحَانَ المانح الفاتح فَلَقَد تلهت وولهت ودلهت بِمَا خبر بِهِ كل غاد ورائح لعمرك مَا كنت أَحسب أَنه بَقِي من يسمو إِلَى هَذِه الطَّبَقَة الَّتِى هى فَوق الطباق وَلَا كَانَ يمر بفكري أَنه قد نشأ لهَذِهِ الصِّنَاعَة من رقي فِيهَا إِلَى هَذِه الْغَايَة الَّتِى لَا تطاق وَالْحَمْد لله الذي زين الْعَصْر بمثلك وَحفظ شرعة الْآدَاب بوافر علمك وفضلك ونبلك وليعلم الْأَخ أيده الله أن جواد قريحتي القريحة لَا يجري بِهَذَا الميدان وَسنَان فكرتي السقيمة العقيمة لَا تغني عِنْد تطاعن الفرسان بالمران فإني على مُرُور الأعصار لم أتلبس بشعار الْأَشْعَار وَلَا رضت ذهنى الكليل بالطراد فِي هَذَا الْمِضْمَار
(وَمَا الشّعْر هَذَا من شعاري وإنما ... أجرب فكري كَيفَ يجري نجيبه)
فَلم يكن لي من ذَلِك الا نظم الْفَقِيه فِي الأحكام أَو مَا يجري مجْرى الْكَلَام عِنْد اقْتِضَاء الْمقَام وَكنت قد عزمت أَن أتطفل على مَكَارِم أخلاقك بِطَلَب بسط الْعذر عَن الْجَواب فِرَارًا مِمَّا قَالَه ابْن الخازن فِي نظم آداب الآداب وهرباً من عراضة صحيفَة الْعقل على أنظار أَرْبَاب الألباب وحذراً من الْوُقُوع فِيمَا قَالَه أخو الْأَعْرَاب
(وأنما الشّعْر صَعب سلمه ... إِذا ارْتقى فِيهِ الَّذِي لَا يُعلمهُ)
(يُرِيد أن يعرّبه فيعجّمه ... زلت بِهِ إِلَى الحضيض قدمه)
غير أَنه لَاحَ للخاطر الفاتر وَقُوَّة النّظر الْقَاصِر أَن مكاتبات الاحباب ومراجعات خلص الْأَصْحَاب مفيدة بقيود ومحدودة برسوم وحدود مِنْهَا التسامح وأطراح التكلفات وغض طرف الانتقاد عِنْد عرُوض الكبوات كَمَا جرت بِهِ المألوفات من جواري الْعَادَات وَثَانِيهمَا إسبال ذيول الستور على مَا أبرزته إلى قالب العثور أيدي الْقُصُور وَثَالِثهَا أَن الْمَقْصد الأهم وَالْمطلب الأعظم لَيْسَ إِلَّا ماذكره أَرْبَاب الْبَيَان من نُكْتَة التَّلَذُّذ بإرخاء عنان اللِّسَان فِي مخاطبات الخلان فَلَمَّا ارتسمت فِي الذِّهْن هَذِه التصورات انْتقل بعد شرح هَذِه الْمَاهِيّة إِلَى مَقَاصِد التصديقات فانتج لَهُ التَّرْتِيب الرضى بَان يُقَال مُجيب غير مُصِيب لامصيب غير مُجيب فعطل من سَاعَات أشغاله سَاعَة أزجي فِيهَا إلى سوحك هَذِه البضاعة بفكر علم الله كليل وذهن شهد الله عليل على أَنَّهُمَا فِيمَا عهِدت سيف صقيل وَلَا ريب فإن لطيف الكدر إذا انطبع فِي الْمرْآة تشوش النَّاظر فَكيف بِمن يطْرق قلبه فِي الْيَوْم الْقصير من ريَاح الارواح وقتام الأشباح أعاصير فدون الدون من تِلْكَ الْأُمُور تنصدع لَهُ الصخور وتغور مِنْهُ البحور
(لولابس الصخر الْأَصَم بعض مَا ... يلقاه قلبي فضّ أصلاد الصَّفَا)
فدونك أَيهَا الحبيب مُرَاجعَة من لم يحظ من قربك بِنَصِيب وَشرب من صاب بَيْنك بأقداح وغصّ لفراقك بِالْمَاءِ القراح
(دعي لومي على فرط الْهَوَاء ... وداوي أن قدرت على الدَّوَاء)
(وكوني عَن سلوى فِي سلو ... إِذا أنوى الحبيب على النواء)
(أبانوا يَوْم بانوا عَن فؤادى ... عرى صيرى فبانوا بالعراء)
(فَلَا حملت هوادجها الهوادي ... وَلَا سَمِعت تراجيع الحداء)
(تخبّ بِكُل عامرة وقفر ... وتخترق الموامي للتنائي)
(فانحي حاذر يَوْمًا عَلَيْهَا ... وضرّج قادميها بالدماء
وناشتّها السبَاع ومزّقتها ... القشاعم بَين أدلاج الفضاء)
(وياحادى المطى إلا رثاء ... وَشر النَّاس مسلوب الرثاء)
(حدوت فكم عقول طايشات ... وأرواح تروح إِلَى الفناء)
(فَلَا رفعت يداك إليك سَوْطًا ... وَلَا نقلتك مسرعة الخطاء)
(تروعنى ببين بعد بَين ... طَوِيل فِي قصير من لِقَاء)
(امابسوى الْفِرَاق لقِيت قلبي ... لتعلم فِي الْحَوَادِث مَا عنائي)
فإني إن ألمّ الْخطب يَوْمًا ... وضاق بِحمْلِهِ وَجه الثراء)
(وطاشت عِنْده أَحْلَام قوم ... وحاد الْآخرُونَ إلى الوراء)
(أقوم بِهِ إذا قعدوا لَدَيْهِ ... وادفعه إذا أعيا سواي)
(وَمَا الْمَرْء المكمّل غير حر ... لَهُ عِنْد العنا كل الْغناء)
(تساوي عِنْده خير وَشر ... يرى طعم الْمنية كالمناء)
(يحوز السَّبق فِي أَمن وَخَوف ... وَيكرم عِنْد فقر أَو غناء)
(ترَاهُ وَهُوَ ذُو طمرين يمشي ... بهمته على هام السَّمَاء)
(تقدمه فضائله إذا مَا ... تفاخر بالملا كل الملاء)
(أَلا أن الْفَتى ربّ المعالي ... إِذا حققت لارب الثراء)
(وَمن حَاز الْفَضَائِل غير وان ... فَذَاك هُوَ الْفَتى كل الفتاء)
(فَمَا الشرف الرفيع بِحسن ثوب ... وَلَا دَار مشيدة الْبناء)
(وَلَا بنفوذ قَول فِي البرايا ... فإن نُفُوذه أصل الْبلَاء)
(فرأس الْمجد عِنْد الْحر علم ... يجود بِهِ على غاد وجائي)
(إِذا مَا الْمَرْء قَامَ بِكُل فن ... قيَاما فِي السمو إِلَى السَّمَاء)
(وَصَارَ لَهُ بمدرجة صعُود ... إِلَى عين الْحَقِيقَة والجلاء)
(وَقَامَ لدفع معضلة وَحل ... لمشكلة وَرفع للخفاء)
(فَذَاك الْفَرد فِي مَلأ المعالي ... كَمَا الْفَرد ابْن يحيى فِي الملاء)
(فَتى يَهْتَز عطف الدَّهْر شوقاً ... إليه لأنه ربّ الْعَلَاء)
(إذا مَا جال فِي بحث ذكاه ... تنحّى عَنهُ أَرْبَاب الذكاء)
(وإن مَا رَاه ذُو لدد أَتَاهُ ... بِمَا يثنيه عَن فرط المراء)
(تقاصر عَن مداه كل حبر ... لما يلقاه من بعد المداء)
(فيامن صَار فِي سلك المعالي ... هُوَ الدرّ النفيس لكل رَاء)
(وضمّخ مسمع الأيام طيباً ... بِمَا قد طَابَ من حسن الثَّنَاء)
(وَقَامَ بفترة الْآدَاب يَدْعُو ... وفي يمناه خافقة اللِّوَاء)
(بلغت من الْعُلُوم إلى مَكَان ... تمكّن في السمو وَفِي السناء)
(قعدت من البلاغة فِي مَحل ... بِهِ الصابي يعود إلى الصباء)
(وصغت من القريض بَنَات فكر ... دفعت بهَا الورى نَحْو الوراء)
(وجيه الدَّين دمت لكل فن ... تبهرج فِيهِ أهل الإدعاء)
(تذود الشائنين لَهُ بِجَهْل ... فيصفو الْعلم عَن شوب القذاء)
(علومك زانها سمت بهى ... وَحسن السمت من حلل الْبَهَاء)
(أتانى يَابْنَ يحيى مِنْك نظم ... تَعَالَى عَن نظام أَبى الْعَلَاء)
(على نمط الأعارب في لُغَات ... وفي حسن الروي وفى الرواء)
(تحدى من تعاوزه هموم ... يعود بهَا الْجَلِيّ إلى الخفاء)
(يعاني من خصوم أَو خصام ... خطوباً في الصَّباح وَفِي الْمسَاء)
(فحيناً في صُرَاخ أَو عويل ... وحيناً في شكاء أَو بكاء)
(وأن يصفو لَهُ وَقت ترَاهُ ... يُوقع فى رقاع الادعاء)
(ويمضى اللَّيْل فى نشر وطى ... لاسجال قد يمات الْبناء)
(وقفنا يَابْنَ ودي في شَفير ... وَمن زار الشفير على شِفَاء)
(بذا قد جَاءَنَا نَص صَرِيح ... فَمَا ذَاك السَّبِيل إلى النَّجَاء)
(فإن قلت النُّصُوص بعكس هَذَا ... أتتنا بالأجور وبالرجاء)
(كَمَا في أجر من يقْضى بِحَق ... وَيعْمل بِاجْتِهَاد فى الْقَضَاء)
(ويعدل فى حكومته بِرِفْق ... ويلتف المكاره بالرضاء)
(ويلبس بالقنوع رِدَاء عز ... يطرزه بوشي الاتقاء)
(ويدرع التصبران دهاه ... من الْخَصْمَيْنِ لافحة الْبلَاء)
(فَذَاك كَمَا يَقُول وَأَيْنَ هَذَا ... هُوَ العنقاء بَين أولي النهاء)
(قصارى مَا ترَاهُ بِغَيْر شك ... مراء أَو فضول من مرائى)
(وَمن لم يعقل الْبُرْهَان يَوْمًا ... فأنّى ينتحيه في الْقَضَاء)
(إِذا لم يفْطن التَّرْكِيب قَاض ... فَقل لي كَيفَ يفْطن بالخطاء)
(وَمن خفيت عَلَيْهِ الشمي حيناً ... فَكيف ترَاهُ يظفر بالسهاء)
(وَمن أعياه نور من نَهَار ... فَكيف يروم إدراك الْبَهَاء)
(وهذي نفثة من صدر حر ... أَطَالَ ذيولها صدق الإخاء)
(وانزر مَا يبوح بهَا شجيّ ... إِلَى أحبابه بَث الشجاء)
(وأعظم مُسْتَفَاد من عهاد ... تواصلنا باصناف الدُّعَاء)
(وَدم يَابْنَ الْكِرَام فِي نعيم ... عَظِيم في الصِّفَات وفي الصفاء)
وَقد طَال شوط الْقَلَم وَلَكِن أَحْبَبْت أن لَا أخلي تَرْجَمَة هَذَا الْفَاضِل من ذكر مثل هَذِه العقيلة الَّتِى زفها من بَنَات فكره فإنها من أعظم الْأَدِلَّة على أَن هَذِه الْأَعْصَار غيرخالية عَن قَائِم بِحِفْظ شرعة الْآدَاب
وَأما ذكر قصيدتى عَقبهَا فَلَيْسَ إِلَّا للتصريح بِبَعْض مَا يسْتَحقّهُ المترجم لَهُ من الممادح الَّتِى اشْتَمَلت عَلَيْهَا وَكتب إِلَى قصيدة فريدة مطْلعهَا)
(وأوله سيطت بقلبي من الْهوى ... فَقل بالهوى بالأولية بادي)
وأجبت عَلَيْهِ بقصيدة مطْلعهَا
(وُفُود حبيب أم وُرُود عهاد ... وَصَوت بشير أم ترنم شاد)
ثمَّ سمح الزَّمَان باجتماعي بِهِ فِي صنعاء وَغَيرهَا وَكثر اتصالنا وَكتب إِلَى من نظمه الْفَائِق ونثره الرَّائِق الْكثير الطّيب وَهُوَ مَوْجُود فى مَجْمُوع مادار بيني وَبَين أهل الأدب وموجود في ديوَان شعره الذي قد صَار من جملَة كتبي وَهُوَ الْآن طَالَتْ أيامه قَائِم بِالْقضَاءِ في حجَّة وبلادها ويفد إِلَى صنعاء لقصد زِيَارَة أَقَاربه وأحبابه وَله شعر كثير جَمِيعه غرر وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ غَرِيب الأسلوب غزير الشؤبوب مطرد الأنبوب
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني
عبد الرحمن بن يحيى بن أحمد الأنسي ثم الصنعاني:
قاض، من شعراء اليمن. من أهل صنعاء.
تعلم بها وولي القضاء في بلاد حجة، وتوفي بصنعاء. له نظم في ديوان مرتب على الحروف، سمي (الأنموذج الفائق الجامع للنظم الرائق - خ) في خزانة الرباط (509 كتاني) .وكان مكثرا من الشعر الملحون المسمى بالحميني، وهو قريب الشبه بالزجل المصري، وله فيه ديوان كبير سمي (ترجيع الأطيار بمرقص الأشعار - ط) .
-الاعلام للزركلي-