مُحَمَّد بن مُحَمَّد شمس الدّين القدسى الشافعى الدمشقى الْمَعْرُوف فى بِلَاده بِابْن خصيب وبالسيد الصادى وفى دمشق بالسيد القدسى وَقد تقدم حفيده مُحَمَّد بن على وَذكرت نسبه ثمَّة فَليرْجع اليه وَكَانَ هَذَا السَّيِّد المترجم من أهل الْفضل والادب نَشأ على الْجد وَالِاجْتِهَاد حَتَّى سَاد وبرع ونبغ من بَين أَهله وحيدا لانه لم يكن فيهم صَاحب معرفَة بل كلهم من أَرْبَاب الْحَرْف ورحل الى مصر فى ابْتِدَاء أمره وَحفظ فِيهَا صفوة الزّبد وَكَانَ يَقُول كنت أسمع العلاماء بَيت الْمُقَدّس يَقُولُونَ من قَرَأَ هَذَا الْكتاب لابد أَن يلى الْقَضَاء قَالَ وَكنت لَا أَرغب فِيهِ فَكنت أَقُول انخرمت الْقَاعِدَة فَلَمَّا كنت بالروم احْتِيجَ الى قَاض شافعى لاجل فسخ نِكَاح فوليت الْقَضَاء فى تِلْكَ الْقَضِيَّة فَقلت هَذَا تَأْثِير مَا قيل فى من قَرَأَ الصفوة وَأخذ تدريس الْمدرسَة الجوزية وَأخذ فى مرّة أُخْرَى توجه فِيهَا الى الرّوم تدريس الْمدرسَة العمرية بالصالحية وَكَانَت لِلشِّهَابِ العيثاوى فَأعْطَاهُ العيثاوى دَرَاهِم واستفرغه عَنْهَا ثمَّ سَافر الى الرّوم مرّة أُخْرَى فاخذ تدريس العذارية فَقَرَأَ واقرأ وَأخذ العذراوية عَن القاضى ابْن المنقار فسافر وَأَخذهَا عَن ابْن المنقار ثَانِيًا واستمرت عَلَيْهِ الى أَن مَاتَ ودرس بالجامع الاموى وَلما هدمت دَار الْعدْل الَّتِى كَانَ قد عمرها الْملك الْعَادِل نور الدّين بِدِمَشْق وَكَانَ هدمها فى أَوَاخِر سنة ألف أَخذ السَّيِّد الْمَذْكُور حِصَّة من أرْضهَا وعمرها دَارا لَهُ وَسكن بهَا مُدَّة وَكَانَ قبل ذَلِك سَاكِنا بِالْمَدْرَسَةِ الريحانية وَكَانَ فى مُدَّة اقامته بِدِمَشْق يزاخم أكابرها ويداخلهم ويشفع فَتقبل شَفَاعَته الى أَن ولى قَضَاء الشَّام شيخ الاسلام يحيى بن زَكَرِيَّاء فولاه قَضَاء الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق قَالَ البورينى فاقتضت حِكْمَة الله تَعَالَى أَن اخْتَلَّ تَدْبيره وانهدم تعميره وَصَارَ عقله معقولا وَعقد تصرفه محلولا وَصَارَ يسير فى الاسواق مُنْفَردا وَيدخل بيُوت الطباخين وحيدا فيأكل من طعامهم ويلتذ بكلامهم ويلقى أَصْحَابه فَلَا يعرفهُمْ وينصرف عَنْهُم ويصرفهم وَلما ظهر اختلاله وَاخْتلفت أَفعاله وتناقضت أَقْوَاله وَلم تنتظم أَعماله قَيده وَلَده فى دَاره وَمنعه من تسياره وَمَضَت لَهُ مُدَّة شنيعة وَانْقَضَت أَحْوَاله البديعة والدهر أَبُو الاهوال وَلَا يبْقى مَعَ أحد على حَال ثمَّ قَالَ وَكَانَ لى رَفِيقًا وَكنت لَهُ صديقا لَا أفتر عَن مصاحبته وَلَا أغيب عَن مُوَافَقَته فاما يكون عندى واما أكون عِنْده وَكَانَ لَا يلتذ بالعيش بعدى وَلَا ألتذ بالعيش بعده كَمَا قيل فى مَعْنَاهُ
(بروحى من نادمته فَوَجَدته ... ألذ من الشكوى وأصفى من الدمع)
(يوافقنى فى الْهزْل والجدد دَائِما ... فَينْظر من عينى وَيسمع من سمعى)
قَالَ وَكنت فى صحبته مرّة فى قَرْيَة منين من قرى الشَّام وهى فى الْحَقِيقَة ذَات روض نسام وزهر يفوق وزه على الثغر البسام مَاء جارى ونسيم سارى وواد لَا ترى فِيهِ الشَّمْس الا من خلال الاشجار وفوقها أطيار تسبح الْوَاحِد الْغفار فى الاصل والاسحار فَلَمَّا دنا وَقت الظهيره وَحمى حر الهجيره أَرَادَ الراحه فَانْفَرد عَنَّا للاستراحة فَمَا رَأَيْت الْمَنَام غنما بل رَأَيْته فى مثل ذَلِك الْمَكَان غرما فَكتبت اليه مرتجلا وَأرْسلت اليه عجلا
(بحقك خلى لَا تضع فرْصَة المنى ... وبادر الى هَذَا الغدير المسلسل)
(وان لم تَجِد زهر الرياض فاننا ... نريك زهوراً من كَلَام مرتل)
فَكتب الى وَعطف بجوابه على قَوْله
(على غَدِير جلسنا فى مذاكرة ... ودوحة قَامَ من سوق على سَاق)
(فخلت أَغْصَان ذَاك الدوح باكية ... تُرِيدُ تكْتب مَا نملى بأوراق)
وَلما وصلا الى وحصلا لَدَى كتب اليه هَذَا
(جلسنا بروض فِيهِ زهران أسقيا ... بِمَاء افتكار والمياه الدوافق)
(فَمن زهر يبديه روض كلامنا ... وَمن زهر يبديه روض الحدائق)
قَالَ وبالقرب من قَرْيَة منين قَرْيَة يُقَال لَهَا التل قبل الْوُصُول اليها من جَانب دمشق فَلَمَّا قَفَلْنَا من جَانب منين عزم علينا أَهلهَا أَن نمكث بهَا عِنْدهم يَوْمًا فأجبنا الدعوه وانتهزنا فرْصَة الايام الحلوه فَكتب الى السَّيِّد الْمَذْكُور مداعبا فَقَالَ
(أيا رَوْضَة الْآدَاب وَالْفضل والحجى ... وَمن فاق فى جمع الْكَمَال على الْكل)
(ترى هَل يعود الدَّهْر يَوْمًا يؤمنا ... ونرقى كَمَا رام الْفُؤَاد على التل)
فَكتبت اليه فى الْحَال على سَبِيل الارتجال فَقلت
(أيا سيد السادات يَا من بنانه ... تضيف الورى بالجود فى الزَّمن الْمحل)
(اذا ساعد الْحَظ السعيد فاننا ... نطل على الوادى ونرقى على التل)
وَكَانَ بِدِمَشْق خطيب فى الْجَامِع الاموى وَكَانَ أعرج أَعْوَج مُتَّهمًا فى العقيدة وفى الافعال وَهُوَ شرف الدّين مَحْمُود بن يُونُس الطَّبِيب وَكَانَ مَعَ جَهله يتَعَرَّض للفتيا وَكَانَ النَّاس يعدون ذَلِك من الْبلوى فَكتب يَوْمًا على بعض أَحْكَام قاضى الْقُضَاة بِالشَّام مصطفى بن بُسْتَان انه بَاطِل وَمن حلى الْحَقِيقَة عاطل فَجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء وَكتب فِيهِ رِسَالَة بِالْجَهْلِ بعض تَوَابِع القاضى الْمَذْكُور وَهُوَ الْفَاضِل أَحْمد بن اسكندر الرومى وَكتب عَلَيْهَا غَالب عُلَمَاء الْبَلدة فَمن جملَة من كتب عَلَيْهَا السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة وَصُورَة مَا كتبه الْحَمد لله الذى أيد الْحق بالبرهان الْقَاطِع وَأظْهر الدّين وقمع كل فَاسق مخادع وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُوله الْمُصْطَفى الذى مَا زَالَ عَن الشَّرِيعَة يدافع حَتَّى أَزَال الظلام وبدا وَجه الْحق بِالنورِ الساطع وعَلى آله الَّذين هم طراز المحافل وعَلى صَحبه مَا ارْتَفع الْحق وخفض الْبَاطِل وَبعد فقد وقفت على هَذِه الرسَالَة الَّتِى سَارَتْ بسيرتها الركْبَان وتناقلها أكَابِر الْفُضَلَاء فى هَذَا الزَّمَان فَوَجَدتهَا غَرِيبَة الْمِثَال معربة عَن قَائِلهَا بِأَن لِسَان الْحَال أفْصح من لِسَان الْمقَال قد تَضَمَّنت مَا انطوى عَلَيْهِ هَذَا الْغمر من القبائح وَمَا انْتَشَر مِنْهُ فى هَذَا الْعُمر الْقصير من الفضائح فانه قد امتطى غارب الْجَهْل والعناد وانتضى حسام الزُّور الشرة بَين الْعباد وَأخذ أَمْوَال النَّاس وتوصل بهَا الى الْحُكَّام وَحصل ضَرَره وفساده فى الارض للخاص وَالْعَام مَشى على غير استقامة حسا وَمعنى وَأنْشد قَول الْقَائِل فى ذَلِك الْمَعْنى
(من يَسْتَقِيم يحرم مناه وَمن يزغ ... يخْتَص بالاسعاف والتمكين)
(أنظر الى الالف استقام ففاته ... عجم وفاز بِهِ اعوجاج النُّون)
تصدر للفتياء مَعَ انه أَجْهَل من توما الْحَكِيم وأنصف حِمَاره ابْن حجيج فَرَكبهُ فى اللَّيْل البهيم قد فتح فَاه بجهله وَصدر فتياه بقوله الْحَمد لله سُبْحَانَهُ وَالشُّكْر لله تَعَالَى شانه وَلم يُمَيّز فى السجعين بَين الْفَاعِل وَالْمَفْعُول فَكَأَنَّهُ اشْتغل بِبَاب الْبَدَل مَعَ حبه فَحصل لَهُ بِرُوحِهِ هَذَا الذهول لانه رأى فى كتب النَّحْو المهذبه أَن الْفَاعِل مَا اسند اليه فعل فَظَنهُ بِهَذِهِ المرتبه وَلَو سُئِلَ لأبرز من ضَمِيره هَذَا الخاطر وَحلف بأبى عمْرَة ان هَذَا هُوَ الظَّاهِر وَلَقَد شهدته حضر بِمَجْلِس قاضى الْقُضَاة بِدِمَشْق الشَّام مَعَ وَاسِطَة عقد الْفُضَلَاء الْكِرَام وَبدر الليالى وشمس الايام الشَّيْخ حسن ابْن مُحَمَّد البورينى فدار بَينهمَا الْكَرم حَتَّى ذكر فى أثْنَاء كَلَامه وَلَا رجل لغوى فَفتح اللَّام فى الْمَنْسُوب فَقَالَ لَهُ البدرى حسن انك لغوى مُبين وانفضح فى ذَلِك بَين الْعَالمين فيا لَيْت شعرى بِهَذِهِ الرُّتْبَة السافله والدرجة النازله يروم أَن يرقى الْمَرَاتِب العليه بل هَذَا دَلِيل على انه أَجْهَل البريه
(لَا يستوى مُعرب فِينَا وَذُو لحن ... هَل تستوى البغلة العرجاء وَالْفرس)
وطالما عرج على درج الْمِنْبَر وَجعل أمرده أَمَامه وَلَوْلَا التقية لجعله امامه وَمَا تلفت على أَعْوَاد الْمِنْبَر يَمِينا وَشمَالًا الا ليقتنص ظَبْيًا أَو يصيد غزالا واذا ترنم وَأظْهر الْخُشُوع واهتز لغير طرب وأجرى الدُّمُوع فلأجل مليح يرَاهُ عِنْد الْمِحْرَاب وَلم يسْتَطع أَن يشافهه بِالْخِطَابِ أَو ليخدع بعض الحضار من الاتقياء الاخيار فَأَنْشَدته ارتجالا وأنفاسى تتصعد ومهجتى بِنَار الكمد تتوقد
(أفاضل جلق أَيْن الْعُلُوم ... وَأَيْنَ الدّين مَاتَ فَلَا يقوم)
(يجاهركم خطيبكم بفسق ... ويفتى فِيكُم توما الْحَكِيم)
أَبَا الْحبّ والخب ترجو الرّفْعَة على الانام أم بالرشوة والتزوير تنَال الرتب فى هَذِه الايام أم بالسعى فى ابطال حق وَحَقِيقَة بَاطِل ستان بَين من تحلى بالفضائل وَبَين من هُوَ مِنْهَا عاطل وَمَا كَفاك أخذك التدريس بالتدليس وخوضك فى الْفِتَن الَّتِى فقت بهَا على ابليس حَتَّى دخلت على الْعلمَاء من غير بَاب ورددت أَقْوَال الْفُضَلَاء بِغَيْر صَوَاب كَأَنَّهُ خطر فى زعمك الْفَاسِد وفكرك الْقَبِيح الكاسد أَن الله قبض الْعلمَاء وَلم يبْق مِنْهُم أحد وَاتخذ النَّاس رُؤَسَاء جهلاء فى كل بلد فتضل النَّاس كَمَا ضللت وتعديت وتنفق بضاعتك الكاسدة بِقَوْلِك أَفْتيت وَفِيه
(قُولُوا الاعرج جَاهِل متكبر ... قد جَاءَ يطْلب رفْعَة وتكرما)
(دع مَا تروم فان حظك عندنَا ... تَحت الحضيض وَلَو عرجت الى السما)
وَمَا يدل على جهلك الْمركب وَعدم فهمك الذى هُوَ من ذَاك اعْجَبْ انك ترى دمشق الشَّام مشحونة بالعلماء والافاضل الَّذين لَيْسَ لَهُم فى الدَّهْر من مماثل وهم مشتغلون بالعلوم وتحريرها وتنقيح الْمسَائِل وتقريرها وَأَنت تغالط بِنَفْسِك وَتدْخلهَا مَعَ غير أَبنَاء جنسك وتترفع على من لَا يرتضيك تقبل رجله وَلَا يراك أَهلا لخدمة نَعله دع الْفَخر فلست من فرسَان ذَلِك الميدان وَلَا أَنْت مِمَّن أحرز قصب السَّبق فى الْيَوْم الرِّهَان وَمَالك فى ذَلِك وَمَالك شيخ فى التدريس سوى أَبى مرّة ابليس فَمَا زلت تسلك فى مسالكه وَتَقَع فى مهاوى مهالكه حَتَّى أنْشد لِسَان حالك فى قَبِيح سيرتك وخبث أفعالك هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(وَكنت فَتى من جند ابليس فارتقى ... بى الْحَال حَتَّى صَار ابليس من جندى)
(فَلَو عِشْت يَوْمًا كنت أَحْسَنت بعده ... طرائق فسق لَيْسَ يحسنها بعدى)
فَلَمَّا تبين من حالك انه كالليل الحالك طردك شيخ الاسلام وأقصاك وحجب سَمعه عَن كلماتك الملفقة وَمَا أدناك فتضاعف لَهُ الدُّعَاء من سَائِر الورى وترادف لَهُ الشُّكْر من أهل الْمَدَائِن والقرى لَا زَالَ طَائِر الْفضل فى بُسْتَان فَضله مغردا ودام يَعْلُو على جَمِيع الاقران مُفردا فَهُوَ ذُو الْفِكر الصائب والفهم الناقب أعلم الْعلمَاء على الاطلاق وأوحد الاصلاء بالِاتِّفَاقِ حامى حوزتى الْعلم والشريعه حاوى الدقائق الَّتِى أَصبَحت لَهُ مطيعه مظهر الْحق فى سَائِر الامصار ممحى الْبَاطِل وقامع الاشرار من سقيت أُصُوله الزاكية من بُسْتَان الْعُلُوم وَطَابَتْ فروع ذَلِك الاصل زاهرة كَالنُّجُومِ أمد الله تَعَالَى أطناب دولته السعيده وأدام صولته الشديده بِمُحَمد وَآله وَمن سلك على منواله انْتهى وَللسَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة أشعار وأخباره كَثِيرَة وفى الْقدر الذى أوردنا لَهُ مقنع وَكَانَ عرض لَهُ فالج قبل مَوته بنحو سنة ثمَّ مَاتَ بالاسهال فى يَوْم السبت ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان بعد الالف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى
ــ خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر.