السُّلْطَان مُرَاد بن السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان بن سليم جد وَالِد الذى قبله السُّلْطَان الْجَلِيل الشان أوحد سلاطين الزَّمَان كَانَ أجل آل بَيته علما وأدبا وأوفرهم ذكاء وفهما اشْتغل بالعلوم حَتَّى فاق وملأ صيته بالادب الْآفَاق وَكَانَ لَهُ علم التصوف المهارة الْكُلية وفى النّظم بالالسن الثَّلَاثَة أعظم مزيه وَكَانَ بَعيدا عَن التُّهْمَة فِيمَا يشوب بشائبه مَأْمُون الدولة بسعادة ملاحظته عَن أدنى نَائِبه جلس على سَرِير الْملك فى نَهَار الاربعاء سَابِع شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بعد موت وَالِده وَكَانَ وَالِده مَاتَ وَقت الْغُرُوب من نَهَار الِاثْنَيْنِ ثامن وعشرى شعْبَان من هَذِه السّنة وأخفى مَوته الى أَن قدم السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة من مغنيسا وبويع بالخلافة وَأمر بقتل اخوته على مَا هُوَ قَاعِدَة سلطنتهم وَكَانُوا خَمْسَة فخنقوا فى الْوَقْت وَأمر بتجهيزهم مَعَ وَالِده فجهزوا وَصلى عَلَيْهِم دَاخل السراى فى عدَّة من الوزراء والاركان وَالْموالى وَتقدم للصَّلَاة عَلَيْهِم مفتى الْوَقْت الْمولى حَامِد باشا بِإِشَارَة من السُّلْطَان قَالَ جدى المرحوم القاضى فى رحلته وَقد أولع النَّاس فى تواريخ فنظموا ونثروا وأطنبوا وَاخْتصرَ وَوَقع اخْتِيَار الْفَقِير مِنْهَا على تَارِيخ لبَعض الاصحاب وَهُوَ نصر من الله وَفتح قريب لَكِن يزِيد على سنى التَّارِيخ بثلثمائة وَعشْرين من الاعداد فاحترس لاخراج ذَلِك باحتراس عَجِيب حَيْثُ قَالَ
(السعد مذقارنه منشد ... بِطيب ألحان وَصَوت رطيب)
(من غير شكّ جَاءَ تَارِيخه ... نصر من الله وَفتح قريب)
ونظمت الْفَقِير تَارِيخا وَقع فى نصف من مصراع اتِّفَاقًا وَأَظنهُ لَا يجد فى سوق الادب نفَاقًا
(لقد من رب الْعَالمين على الورى ... بسُلْطَان عدل لَيْسَ فى عدله شكّ)
(فَقلت بِتَوْفِيق الاله مؤرخا ... مُرَاد تولى الْملك دَامَ لَهُ الْملك)
انْتهى قلت وَالْفَقِير اسْتحْسنَ تاريخين لتوليته من نظم مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِمَا ميه الدمشقى أَحدهمَا قَوْله
(قد مهد الله الْبِلَاد بِحكم سُلْطَان الْعباد ... )
(والكون نَادَى منشدا ... تَارِيخه هَذَا المُرَاد)
والثانى وَهُوَ قَوْله أَيْضا فِيهِ
(بالبخت فَوق التخت أصبح جَالِسا ... ملك بِهِ رحم الاله عباده)
(وَبِه سَرِير الْملك سر فأرخوا ... حَاز الزَّمَان من السرُور مُرَاده)
(وَبِه سَرِير الْملك سر فأرخوا ... حَاز الزَّمَان من السرُور مُرَاده)
وَكَانَ همه من حِين ولى السلطانة قتال صَاحب اذربيجان وخراسان من أَوْلَاد حيدر الصوفى فعين الْوَزير مصطفى باشا فاتح بِلَاد قبرس صَاحب الخان وَالْحمام بِدِمَشْق فَتوجه فى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بعسكر كثير الى بِلَاد الشرق فبسنى قلعة قارص وشحنها بالمدافع والمكاحل وَبنى مَدِينَة اسلامية فَوجدَ فِيهَا الْمَسَاجِد والجوامع ومزارات الاولياء مِنْهَا مَزَار الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى ابى الْحسن الخرقانى رضى الله تَعَالَى عَنهُ من كبار الصُّوفِيَّة فَلَمَّا استولى عَلَيْهَا الْكفَّار أخربوها ثمَّ سَار الى تخوم بِلَاد الْعَجم والكرج حَتَّى وصل الى مَكَان يُسمى حكدر من بِلَاد الشاه فحاصر هُنَاكَ قلعة لكفار الكرج تسمى بَكَى قلعه فاستولى عيها ثمَّ هجم عَلَيْهِ عَسْكَر الشاه صُحْبَة وزيره دقماق فَبعث الْوَزير مصطفى باشا عسكرا الى قِتَاله فهزموهم وحصدوهم بِالسُّيُوفِ واستولوا على أَمْوَالهم وخيولهم ثمَّ استولى الْوَزير الْمَذْكُور هُنَاكَ على عدَّة قلاع وشحنها بِالرِّجَالِ ثمَّ سَار حَتَّى افْتتح قلعة تفليس من بِلَاد أورخان قَاعِدَة مملكة الكرج وَكَانَ الْمُسلمُونَ افتتحوها قَدِيما ثمَّ غلبت الكرج واستولت عَلَيْهَا وَلما فتحت مَدِينَة تفليس أرْسلت أم منوجهرالكرجى ملكة تِلْكَ الْبِلَاد ابْنهَا الى الْوَزير ثمَّ قَامَ الْوَزير الْمَذْكُور بعد أَن نصب فى تفليس أَمِير الامراء فى طرف شرْوَان وفى شماخى وَبث سراياه الى الاطرف وَتمكن مِنْهَا ثمَّ ترك فِيهَا الْوَزير عُثْمَان باشا ابْن أزتمر واليا بهَا فَلَمَّا أقبل الشتَاء توجه الْوَزير الى طرف بِلَاد السُّلْطَان وشتى هُنَاكَ للاغارة فى الرّبيع على بِلَاد الْعَجم ثمَّ بلغه أَن أرسخان صَاحب شرْوَان الْقَدِيم قَصده بِنَحْوِ اثنى عشر ألف عسكرى لقِتَال عُثْمَان باشا فَوَقع بَينهمَا قتال شَدِيد فاتفق أَن انتصر عُثْمَان باشا وَقتل أرس خَان وغالب عسكره ثمَّ وَقع بَينه وَبَين عَسْكَر الشاه هُنَاكَ مَا ينوف عَن عشْرين وقْعَة كَانَت النُّصْرَة دَائِما فى جَانب عُثْمَان باشا وَآخر ذَلِك أَن عدل امام قولى بعسكر يقرب من ثَلَاثِينَ ألفا على أَرض شرْوَان فقاتل عُثْمَان باشا مُدَّة أَرْبَعَة ايام ثمَّ نزل نصر العثمانية وَقتل غَالب الشاهية وَبنى عُثْمَان باشا بعد هَذِه الْوَقْعَة فى شماخى حصارا عَظِيما فى دور سَبْعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع الْبناء فى مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ ترك حصارا عَظِيما فى دور سَبْعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع الْبناء فى مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ ترك فِيهَا جَعْفَر باشا نَائِبا بهَا وَبعد مُدَّة دخل دَار الْخلَافَة وَصَارَ وزيرا أعظم وَذَلِكَ بعد أَن قَاتل فى سره عدَّة أُمَم اعْتَرَضُوهُ بِالْحَرْبِ وانتصر عَلَيْهِم ثمَّ لما وصل الى بِلَاد كفة بلغه أَن خَان التتار أظهر الْعِصْيَان على آل عُثْمَان فقاتله وانتصر عَلَيْهِ وَقطع رَأسه وفى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بعث السُّلْطَان مُرَاد وزيره سِنَان باشا الى قتال الْعَجم فَسَار مَعَ عَسْكَر جرار وَوصل الى حُدُود الْعَجم وَأرْسل اليه الشاه فى الصُّلْح وَبعث الى السُّلْطَان أحد وزرائه يدعى بابراهيم خَان بتحف سنية وهدايا جليلة وَظن سِنَان باشا ان هَذِه الْحَالة مِمَّا تعجب فَلم يكن كَذَلِك بل لما عَاد الْوَزير من سَفَره عَزله السُّلْطَان وَأقَام مقَامه فرهاد باشا وفى سنة تسعين وَتِسْعمِائَة احتفل السُّلْطَان بختان وَلَده السُّلْطَان مُحَمَّد وصنع لذَلِك فَرحا لم يَقع فى زمن أحد من الْخُلَفَاء والملوك وامتدت الولائم والفرجة وَاللَّهْو والطرب مُدَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَجلسَ للفرجة فى دَار ابراهيم باشا بمحلة آتٍ ميدان وأغدق النعم الْعَظِيمَة وَرَأَيْت فى تَارِيخ البكرى أَنه جعل صوانى صغَارًا من ذهب وفضلة وملأ الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّة بِالذَّهَب وَألقى ذَلِك لارباب الملاهى وَغَيرهم من طالبى الاحسان وَجعل بعد ذَلِك دشيشة لاجل فُقَرَاء الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ووقف عَلَيْهَا أوقافا كَثِيرَة وَبهَا النَّفْع التَّام لاهل الْمَدِينَة وفى سنة احدى وَسبعين توجه الْوَزير فرهاد باشا الى بِلَاد الْعَجم فَسَار وتوغل فى بِلَاد أذربيجان نَحْو سَبْعَة أَيَّام وَاسْتولى على مَدِينَة روان وَبنى عَلَيْهَا حصنا حصينا وَنصب فِيهَا يُوسُف باشا واليا وأميرا وفى هَذِه السّنة خرج ابراهيم باشا من قسطنطينية الى الديار المصرية والشامية ليصلح مِنْهَا مَا فسد وغزا الدروز وَوَقع لَهُ تأييد وفى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سَافر فرهاد باشا بعسكر عَظِيم للغزو بِبِلَاد الكرج فَبنى هُنَاكَ عدَّة قلاع وفى هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان الْوَزير الاعظم عُثْمَان باشا بعساكر عَظِيمَة الى قتال الْعَجم فَتوجه بعد أَن شَتَّى فى بِلَاد قسطمونى وَسَار فى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمَعَهُ من العساكر مَالا يعلم عَددهمْ الا الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك لمحبة النَّاس لَهُ لكرمه وشهامته وَحسن تَدْبيره فعارضه الْعَجم فى الطَّرِيق فَقتل مِنْهُم قتلة عَظِيمَة ثمَّ دخل تبريز فى أَوَاخِر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَمن هُنَا أذكر ملخص مَا ذكره جدى القاضى محب الدّين فى رحلته التبريزية الَّتِى مَا نسج على منوالها وَلَا جَادَتْ قريحة بمثالها وَاتفقَ لَهُ السّفر الْمَذْكُور لتسليم مَال عوارض فى قَضَاء تولاه وَحضر الْفَتْح الْمَذْكُور حَتَّى أنهى أمره واستوفاه قَالَ وَكَانَ هَذَا السّفر مِمَّا لم يُشَاهد مثله فى الاسفار وَلَا دون مَا يدانيه فى الْكتب والاسفار لَا سِيمَا جمع كثرته الذى انْتهى اليه جمع الجموع وَعدم حصر أَفْرَاده الَّتِى بلغت الْغَايَة فى الشُّيُوع بِحَيْثُ انه كَانَ اذا سَار يسد الفضاء الْوَاسِع ويملاء الفلا الشاسع ويضيق عَنهُ الْمَكَان النائى وَيكون كالجراد الْمُنْتَشِر بِحَذْف كَاف التَّشْبِيه بِعَين الرائى وَكَانَ هَذَا الْفَقِير اذا شبهه من جِهَة الْكَثْرَة بشئ كثيرا مَا يظْهر فِيهِ وَجه التَّشْبِيه وَيكون لَهُ عِنْد التَّأَمُّل وَجه وجيه فَكَانَ اذا شبهته بالنهر العجاج أَو الْبَحْر المتلاطم بالامواج يظْهر وَجه التَّشْبِيه فى حَال سير بعضه ووقوف الْبَعْض وَقد غطى الْبِقَاع وَألقى القناع على وَجه الارض فتختلف الانظار الحسية فى جِهَة سيره اذا سرى فالبعض يَقُول انه يمشى الْقَهْقَرَى وَأما اذا اخْتَلَط الظلام وَظَهَرت الاضواء من تِلْكَ الْخيام وقابلت بنورها نُجُوم السما وَشبه الْفَقِير هَذِه الْهَيْئَة بِتِلْكَ الْهَيْئَة الْتبس عَلَيْهِ أَيهمَا الْمُشبه والمشبه بِهِ مِنْهُمَا وَأما الْغُبَار الذى كَانَت تثيره السوابح بل تعقده بعدوها الضوابح فَكَانَ يذكرنَا ذَلِك مَا كثيرا قَالَه بعض افاضل الورى عقدت سنابكها عَلَيْهَا عثيرا لَا شُبْهَة ان هَذَا الْمَعْنى فِيمَا نَحن فِيهِ أمكن بل قيل انه فِيمَا نَحن فِيهِ حَقِيقَة وَفِيمَا قيل فِيهِ مجَاز وان كَانَ الْكل مجَازًا فَهُوَ أحسن وَمِمَّا شَاهده الْفَقِير من كَثْرَة العساكر أَنهم كَانُوا يصيحون على الطير وَهُوَ طَائِر فيعجز عَن الطيران ويروم أَن يسْتَقرّ على مَكَان فَلَا يجد تَحْتَهُ غير انسان وَلم يبْق لَهُ الى الطيران مجَال ثمَّ يسْقط فتخطفه النَّاس فى الْحَال وَأما ظباء الفلا والوحوش الهائمة فى الملا فَكَانَت تحول بَينهَا النَّاس فتجول مشرقا ومغربا ويضيق عَلَيْهَا الفضاء فَلَا تَسْتَطِيع هربا فيغدوا وَاحِدهَا وَهُوَ حيران ويحال بَينه وَبَين النزوان وَلَا يُمكنهُ عَدو ولاحراك فَيمسك بالايدى ويصاد من غير شباك الى غير ذَلِك من لَوَازِم الكثره وَالْوَصْف الذى لَا نستطيع حصره ثمَّ قَالَ فَلَمَّا تحقق قزلباش أَن العساكر مدركوه وَأَن الْوُصُول الى تبريز من الامر الْمُحَقق الْوَاقِع وَصدق عَلَيْهِ قَول الْقَائِل حَيْثُ قَالَ
(فانك كالليل الذى هُوَ مدركى ... وان خلت أَن المنتأى عَنْك وَاسع)
ضَاقَ بِهِ العطن وأحاطت بِهِ المحن فشرع فى تحصين تبريز بأَشْيَاء يظنّ أَنه يحصل بهَا الدفاع وَيَزْعُم أَن أَخذهَا من يَده بعد هَذَا التحصين مِمَّا لَا يُسْتَطَاع على أَن تِلْكَ الاشياء لَيست بحاجز حُصَيْن وَلَا يتحصن بهَا من كَانَ ذَا رَأْي سديد وعقل رصين وَذَلِكَ أَن مَدِينَة تبريز على عظمها وَكَونهَا فى الْقدر قَرِيبا من مصر الا أَنَّهَا لَيست بمسورة وَلَيْسَ فِيهَا قلعة معمرة بل هى محاطة بالبساتين احاطة بساتين دمشق بهَا أى مَعَ قطع النّظر عَن لطف الرونق وَحسن المنظر فان كَون الْمُشبه لَيْسَ كالمشبه بِهِ من كل وَجه من الْمَعْلُوم الْمُقَرّر حَاصِل الامر أَنه عمد الى حيطان الْبَسَاتِين وهى من لبن المغاربه وَعمل بَين كل حائطين حَائِطا فِيهِ طاقات لَان يرْمى بهَا الْعَسْكَر حَال المحاصرة والمحاربه وَأبقى فى تبريز حاكمها من قبله الْمُسَمّى بامام قولى خَان وَجمع الى اهاليها تِلْكَ الاطراف وَأمرهمْ بمحاربة الْعَسْكَر مَعَهم ومساعدتهم بِحَسب الامكان وَخرج هُوَ مَعَ عسكره الى مَكَان خَارج عَن الْمَدِينَة وَزعم أَنَّهَا بِهَذِهِ الاوهام والخيالات قد صَارَت حصينه وَكَانَ فى عزمه بل فى زَعمه أَنه اذا جَاءَت عَسَاكِر الاسلام المنصوره وقصدوا أَن يحاصروا الْمَدِينَة المذكوره يذودهم ويصدهم عَنْهَا من هُوَ فِيهَا بالنشاب والبنادق وَأَن تخصم هَذِه الفرازين بِتِلْكَ البيادق وَأَنه يحْتَاط بالعسكر من خَارج الْمَدِينَة ويحاربهم من الْخَارِج بعسكره الاقل وَيَزْعُم بِأَنَّهُ المتصف بمضمون قَوْله تَعَالَى {ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} معَاذًا الله بل قَالَ عَسْكَر الاسلام عِنْد قربه للبلد ووصوله نقُول بِمُوجب مَا قلت وَلَكِن الْعِزَّة لله وَلِرَسُولِهِ ثمَّ ان الْوَزير تقدم اليها بالعساكر المنصورة وَهُوَ فى غَايَة الْقُوَّة والمنعة وَتقدم أَمَامه بِيَسِير جغال زَاده يمشى شَيْئا فَشَيْئًا كَأَنَّهُ كَمَا قيل
(منصرف فى اللَّيْل من دَعْوَة ... قد أسرجت قدامه شمعه)
حَتَّى أَتَاهَا وَقَامَ على رياضها وقاربها واستقى من حياضها وعندما قصد أَخذهَا ورام يحاولها وَقَالَ رائدهم ارسوا نزاولها اسْتَعَانَ الله تَعَالَى وَوجه اليه مرامى كَادَت أَن تكون من حَدِيد جبالا وقابل تِلْكَ الثغور الَّتِى تحَصَّنُوا بهَا بثغور مدافع كَأَنَّهَا تَبَسم وَلَكِن عَن شرر كالقصر وحاصرها من قبل الظّهْر الى بعد الْعَصْر ورماها بهَا فَكَانَت كالصواع المحرقه وَأرْسل عَلَيْهَا شواظا من نَار ونحاس أحرق بهَا أهل الْبدع والزندقه وحوم عَلَيْهَا بالعسكر وَحلق
(وأخاف أهل الشّرك حَتَّى انه ... لتخافه النطف الَّتِى لم تخلق)
وابتدع ذَلِك بمشرفيات كأنهن أَنْيَاب اغوال أضحت كسنن لَاحَ بَينهُنَّ ابتداع وقابل تِلْكَ البيادق بأفيال من مدافع لَا يُمكن عَنْهَا دفاع فَلَمَّا عاينوا ذَلِك الْحَرِيق وَشدَّة وقوده قَالُوا لَا طاقه لنا الْيَوْم بِهَذَا الْوَزير وَجُنُوده فان هَؤُلَاءِ كَمَا قيل
(قوم اذا حَاربُوا ضروا عدوهم ... أَو حاولوا النَّفْع فى أشياعهم نفعوا)
(سجية تِلْكَ مِنْهُم غير محدثة ... ان الْخَلَائق فَاعْلَم شَرها الْبدع)
فعندما شَاهد حَاكم تبريز تِلْكَ الحاله وَعلم أَن المملكة مَأْخُوذَة لَا محاله لم ير بدا من أَن ينهزم من الْبَلدة ويتسحب وأوجس فى نَفسه خيفة وَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب وطلع عَنْهَا متنكرا وهرب مِنْهَا مبكرا فَكَانَ حَاله كَمَا قيل
(اذا أنكرتنى بَلْدَة أَو نكرتها ... خرجت مَعَ البازى على سَواد)
وَلَكِن سَواد الذله ولباس الخزى والمذله فَلَمَّا ذهب على هَذِه الْحَالة الى الشاه مَاتَ من قهره وَجعل الله كَيده فى نَحره وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وملكت الْبِلَاد بعناية الله على أحسن الاحوال ثمَّ لما خذل الله ذَلِك الْعَدو وانفشل وهرب بعسكره نَاحيَة وَاعْتَزل متحيرين مِمَّا لَقِيَهُمْ وَقد غشيهم من الْهم مَا غشيهم وصاروا أَضْعَف النَّاس قبيلا وظلماً تمنوا الْمُحَاربَة فَلم يَجدوا اليها سَبِيلا وَكلما رام ذَلِك الْعَدو والضعيف أَن يُوقد نَارا للحرب أطفأها الله وأخمد مِنْهَا الضرام وَمَتى قصد الْمُقَاتلَة والمقابلة يُقَال لَهُ تنكب لَا يقطرك الزحام فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ لَهُ قومه اقترح شَيْئا نجد لَك التباعه ومرنا بِأَمْر نجد بامتثاله بِحَسب الاستطاعه فَقَالَ لَهُم اتبعونى وَلَكِن فى الْهَرَب وجدوا فى الْهَزِيمَة قبل أَن يمنا العطب فلسنا من فرسَان هَذَا الميدان وَلَا يُقيم على ضيم يُرَاد بِهِ الا الاذلان ثمَّ ان حَضْرَة الْوَزير لم يقنع مِنْهُ بالهرب بل كَانَ كلما ترحل عَنهُ لج فى الطّلب وَكلما بلغه خبر شرذمة من اولئك جد فى طلبَهَا وأقدم وارسل لحربها حزبا من شجعان الْعَسْكَر الضاربين بِكُل أَبيض مخذم وَمَتى قيل لَهُ ان طائة من اولئك فى جِهَة أرسل عينا تشرف عَلَيْهَا وَهُوَ دَائِما ماسك عنان فرسه كلما سمع هتفة طَار اليها يجول تِلْكَ الاطراف مشارقا ومغاربا عزماته مثل النُّجُوم ثواقبا
(تَدْبِير معتصم بِاللَّه مرتقب ... لله منتصر فى الله منتقم)
ثمَّ انه قبل وُصُوله الى تبريز كَانَ يترقب من أهاليها لَا سِيمَا الاكابر والافاضل ان يستقبلوه الى خَارج الْمَدِينَة بمراحل ويقابلوه بِكَمَال الطَّاعَة والانقياد ويظهروا لَهُ كَمَال الْمحبَّة والاعتقاد وَأَنَّهُمْ يستبشرون بمقدمه ويسرون بحلول قدمه ويبايعونه على أَنهم رعايا وَأَنَّهُمْ قدمُوا أنفسهم لَهُ هَدَايَا فيراعى كلا مِنْهُم على حسب حَاله ويبلغه من الامن والامانى مَا فى آماله الا أَن الشاه كَانَ هددهم غَايَة التهديد وأوعدهم على اقامتهم بِالْمَدِينَةِ بأنواع الْوَعيد فَلَمَّا دَخلهَا لم ينظر فِيهَا غير فُقَرَاء الرعايا والشيوخ الْكِبَار الَّذين فيهم من عهد عَاد بقايا وَأَكْثَرهم فُقَرَاء آفاقيه وَأما اكابر الْمَدِينَة فَلم يبْق مِنْهُم أحد بِالْكُلِّيَّةِ ثمَّ ان أهل الْمَدِينَة لما ذَهَبُوا أخذُوا من أَمْوَالهم وارزاقهم مَا رخص حمله وغلت قِيمَته وأبقوا مَا عدا ذَلِك مِمَّا يثقل حمله وتكثر مُؤْنَته فَحصل للوزير من هَرَبهمْ غَايَة الْغَضَب وانحرف مزاجه بِهَذَا السَّبَب وَكَانَ فعلهم هَذَا الى نهب أَرْزَاقهم وَسِيلَة وذريعه فَلَمَّا دخل الْعَسْكَر لَا سِيمَا الينكجريه أغمضت عَنْهُم الْعين فنهبوا ذَلِك جَمِيعه واسترقوا أَوْلَادهم وعيالهم وَأخذُوا أَرْزَاقهم وَأَمْوَالهمْ بِحَيْثُ لم يتْركُوا من ذَلِك شَيْئا أصلا وتتبعوا الْبيُوت بَابا بَابا وفصلا فصلا حَتَّى أخذُوا الاخشاب وجعلوها أحطابا وَلم يبقوا فى المساكن طاقات وَلَا أبوابا وَكَثِيرًا مَا شاهدت أَمَاكِن ذَات أَبْوَاب محكمَة الصِّنَاعَة وآلات حازت من اللطف أَنْوَاعه من عمل الصناع العوال والاساتذة الَّتِى لَيْسَ لاساتذة بِلَادنَا عِنْدهم مجَال قد كسرت أَبْوَابهَا فَعَادَت مَبْنِيَّة على الْفَتْح وهدمت جدرانها من الاساس الى السَّطْح فأضحت على عروشها خاويه بعد أَن كَانَت لانواع النقوش والزخاريف حاويه وَلم يُوجد فِيهَا مَكَان الا تهدم وَلم يبْق من أَكْثَرهَا كَمَا قبل الادمنة لم تكلم ثمَّ ان تَحت غَالب بيُوت تبريز مغارات وَاسِعَة جدا ينْسب واصفها الى الغلو اذا رام لرسمها حدا طولهَا فِيمَا يُقَال كَمَا بَين دمشق والصالحيه لَا يهتدى اليها كل أحد لَان لَهَا مدَاخِل خفيه أضمرها من كَانَ لَهَا صانعا وَجعل لَهَا مثل حجر اليربوع ذافقاء وقاصعا مُشْتَمِلَة على خبايا وزوايا أعدوها قَدِيما الاخفاء أَرْزَاقهم اذا حل بهم مثل هَذِه المحن والبلايا فوضعوا أمتعتهم فى المغارات وأخفوها عَن الْعُيُون وجعلوها من قبيل الْمُضْمرَات المبنية على السّكُون حَتَّى أخبر من يعْقد على اخباره ان غَالب أهاليها وأبنائها الى الْآن مختب فى داخلها ومحتب بفنائها الا أَن الينكجرية لِكَثْرَة تفتيشهم وتنقيرهم وتتبعهم وتحريرهم ظَهَرُوا على كثير من تِلْكَ المغارات فتوجهوا اليها وشنوا عَلَيْهَا الغارات وَكلما اطلع أحد من الينكجريه على شئ من ذَلِك ذهب لاعلام رفقائه فتجئ وتستخرج اليربوع من نافقائه وَقد شوهد بعض من ذَلِك النَّوْع وَذَلِكَ مغارة فى الباذستان وضع فِيهَا حَاكم الْبَلدة خزائنه لما حصل لَهُ من الْخَوْف والروع وَلما نهب الباذستان لم يعلم بهَا أحد وَلم يطلع عَلَيْهَا انسان لَكِن اطلع عَلَيْهَا كَثِيرَة التنقير وَبلغ أثر تِلْكَ حَضْرَة الْوَزير فَأرْسل من جَانِبه الدفترادار فى الْحَال وَضبط جَمِيع مَا فِيهَا لبيت المَال ثمَّ ان الْعَسْكَر بعد أَن نهبوا الْمَدِينَة ذَهَبُوا الى الاطراف فنهبوا الزروع ودخلوا الْبَسَاتِين فَقطعُوا الاشجار من الاصول وَالْفُرُوع فَكَانَ حَال أُولَئِكَ كَمَا قيل فى الْمَعْنى
(للسبى مَا نكحوا وَالْقَتْل مَا ولدُوا ... والنهب مَا جمعُوا وَالنَّار مَا زرعوا)
ثمَّ بعد ذَلِك حضر جمَاعَة من أهل الْمَدِينَة وأكابرها بعد أَن ذهب عَنْهُم الروع وجاؤوا بِحسن الِاخْتِيَار والطوع وتقدموا الى حَضْرَة الْوَزير وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُم كَانُوا مجبورين على هَذَا التَّأْخِير فَقبل مِنْهُم مَا أبدوه وعذرا وَمن عَلَيْهِم بفك الاسرى فَانْقَلَبَ كل مِنْهُم الى أَهله مَسْرُورا ولقى من بعد ذَلِك الْخَوْف أمنا وسرورا فشرعوا فى الْعود الى أوطانهم من بعد الْهَرَب وَأَقْبلُوا يَنْسلونَ اليها من كل حدب هَذَا وَكَثِيرًا مَا سَأَلنَا بعض أبنائها عَن محاسنها واستفسرنا مِنْهُ عَن لطيف موَاضعهَا وأماكنها فَيَقُول لَو رأيتموها وهى مأهوالة معموره وبالخيرات والارزاق مغموره لرأيتم شَيْئا يحير الافكار ولحكمتم بِأَن لَيْسَ لَهَا نَظِير فى الديار ثمَّ يتنفس الصعدا وَيَغْدُو لِسَان حَاله منشدا
(ألما على الدَّار الَّتِى لَو وجدتما ... بهَا أَهلهَا مَا كَانَ وحشا مقيلها)
(وَلَو لم يكن الا معرج سَاعَة ... قَلِيلا فانى نَافِع لى قليلها)
وفى الْحَقِيقَة هى من أحسن الْبِلَاد الانيقه ومعدودة كَمَا هُوَ مَعْلُوم من الاماكن الرشيقه لَكِن تعرضت لَهَا أيدى الْحدثَان وَكَانَ مُقَدرا عَلَيْهَا أَن تصاب بِهَذَا الْمُصَاب فى هَذَا الاوان
(واذا تَأَمَّلت الْبِقَاع وَجدتهَا ... تشقى كَمَا تشقى الرِّجَال وتسعد)
وَأما جوا مَعهَا الْعَظِيمَة الشان وَحسن رونقها الذى لَا يُوجد نَظِيره الا فى الْجنان فانها حازت أَنْوَاع المحاسن واللطائف وَلَا يُمكن أَن يضْبط حسن نضارتها بِوَصْف واصف
(لقد جمعت كل المحاسن صُورَة ... شهِدت بهَا كل الْمعَانى الدقيقة)
لَا سِيمَا تزينها ظَاهر اَوْ بَاطِنا بنفيس القيشانى والنقوش البديعة الْمعَانى والكتابات الْحَسَنَة الَّتِى تكل عَن وصفهَا الالسنه كخط ابْن البواب وَمن فاقه من مشاهير الْكتاب فانا لم نشاهد مثل هَذِه الكتابات قطّ وَقد أنسانا ذَلِك جمع مَا شَاهَدْنَاهُ فى عمرنا من حسن الْخط خُصُوصا وضع كل شئ فى مَحَله واقترانه مَعَ مناسبه والتئامه كالكتابة على المنارة مثلا المؤذنون أطول النَّاس أعناقا يَوْم الْقِيَامَة وكالكتابة على الاخرى بالخط الْوَاضِح الْمُبين وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ اننى من الْمُسلمين وعَلى الاخرى أشهد أَن لَا اله الا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَقَد شاهدنا على حَائِط الْجَامِع مِمَّا يلى الْبَاب من الْجِهَتَيْنِ مَكْتُوبًا بالخط الجلى القويم آيَات من الْكَلَام الْقَدِيم فَمن جِهَة الْيَمين قَوْله تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وزلفى من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ واصبر فان الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} وَمن جِهَة الشمَال قَوْله {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} لَكِن لم يتمتع النّظر بأنضر من ذَلِك الْخط وَلَا أجلى وَلم تشاهد الْعين ألطف من ذَلِك الرقم وَلَا أحلى كلما زِدْته نظرا زادك حسنا وَكلما راجعت الْبَصَر كرة بعد كرة يظْهر لَك من ذَلِك الشكل لطيف معنى لَو اجْتمع كتاب الْعَصْر لم يستطيعوا أَن يكتبوا على شكله مِثَالا وَالْحَاصِل ان ذَلِك آيَة من آيَات الله تَعَالَى وَكُنَّا نقُول عِنْد مُشَاهدَة ذَلِك سُبْحَانَ خَالق القوى وَالْقدر وانما لمعان تعشق الصُّور ثمَّ بعد أَن وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا وَأَطْفَأت الفئة الغازية نارها شرع الْوَزير فى أَن يحصن المدينه ويعمر بهَا قلعة حصينه وتفحص عَن مَكَان مُنَاسِب يَلِيق وأعمل فى ذَلِك الْمَعْنى فكره الدَّقِيق فَوَقع الِاخْتِيَار على أَن يكون مَحل القلعة مَوضِع قصر الشاه وبستانه وَاتفقَ الرأى على أَن تكون القلعة عوضا عَن الْبُسْتَان ومكانه فشرع فى تعميرها يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس شَوَّال من غير قُصُور وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهَا خَامِس وعشرى الشَّهْر الْمَذْكُور وَصَارَ الْقصر دَاخل القلعة المذكوره وعادت الْبَلدة بذلك مستوره وَأما الْقصر الْمَذْكُورَة فَهُوَ حسن المبانى لطيف الْمعَانى لَا يُوجد لَهُ مثل فى سَائِر الْبِلَاد وَلَا عمر نَظِيره وَلَا من عهد عَاد أحكم وَاضعه بناءه النفيس وأتقن صانعه فى شكله المسدس أشكال التأسيس وَهُوَ فى الْحَقِيقَة كَمَا كتب على بَابه كمل هَذَا الْقصر الْمُعَلَّى والصرح الممرد الْمحلى الذى لم يوضع مثله فى الْجنان وَلم يخْطر مِثَاله للجنان وتاريخه سنة تسع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ولعمرى انه الْمَعْنى بقول الْقَائِل
(قصر عَلَيْهِ تَحِيَّة وَسَلام ... خلعت عَلَيْهِ جمَالهَا الايام)
وَقد نقل عَن الشاه أَنه لما بلغه عمَارَة القلعة مَكَان قصره وبستانه تأسف كثيرا على معاهد ملكه وسلطانه وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الارض بِمَا رَحبَتْ وعاين أَن روحه من جسده سلبت وَمَا أحراه أَن ينشد فى هَذَا الْحَال تحسرا على الْقصر الْمَذْكُور قَول من قَالَ
(فَدَيْنَاك من ربع وان زدتنا كربا ... فانك كنت الشرق للشمس والغربا)
وَقد غَدا مخذولا مقهورا وأضحى كَانَ لم يكن شَيْئا مَذْكُورا ثمَّ لما اتم الْوَزير بِنَاء القلعة وأكمل الْحصار وَأحكم وَضعه وضع فِيهِ جمعا كثيرا من الْعَسْكَر وَأمر عَلَيْهِم حَاكما الباشا جَعْفَر ثمَّ بعد أَن أعْطى كَمَا ذكرنَا لاهل تبريز الْأمان وَرجع بَعضهم الى الْمنَازل والاوطان وَفتحت بعض الدكاكين والحمامات وأضحت مأنوسة بِأَهْلِهَا بعض المحلات اتّفق فى ذَلِك الاثناء أَن قتل فى بعض الحمامات بعض أشخاص من الْعَسْكَر وَنقل الى الْوَزير أَن جمَاعَة القزباش مختفين بِالْمَدِينَةِ بِاتِّفَاق من أَهلهَا فَغَضب من ذَلِك وتأثر وَأقسم أَنه ينْتَقم من أهالي تبريز غَايَة الانتقام وَأمر فيهم حَيْثُ وجدوا بِالْقَتْلِ الْعَام واستوعبهم بِالْقَتْلِ واستأصل واصر حَالهم كَمَا قيل
(فَمَا زَالَت الْقَتْلَى تمج دماءها ... بدجلة حَتَّى مَاء دجلة أشكل)
وَقتل عِنْد ذَلِك آمنهم وَأَصْبحُوا لَا ترى الا مساكنهم بل هى أَصبَحت مضمحلة لَا ترى وَلم يذروا مِنْهَا عينا وَلَا أثرا بِحَيْثُ لم يبْق مِنْهَا الا بعض الْمَوَاضِع وَلم يتْركُوا مِنْهَا الا الثَّلَاث الاثافى والديار البلاقع وَلم يبْق من أَهلهَا الا من كَانَ طفْلا أَو صارخة تصرخ صُرَاخ الثكلى وَكَانَ بقى لَهُم من رزقهم بعض بَاقٍ فنهب الْعَسْكَر ذَلِك الباقى وَلم يتْركُوا لَهُم شَيْئا يَأْكُلُونَهُ فَكَادَتْ أَرْوَاحهم من الْجُوع ترقى الى التراقى وَصَارَ حَالهم الى أَسْوَأ الاحوال وناهيك بِالْجرْحِ على قرب الِانْدِمَال وَقد نقل أَنه قتل فى جملَة أُولَئِكَ جمع من الاشراف الافاضل وَجَمَاعَة من الْعلمَاء الاكامل وَكَانَ ذَلِك فعلا صادرا من غير رأى صائب وأمرا يمجه الطَّبْع وَيحكم الْعقل بِأَنَّهُ أَمر مَحْذُور العواقب وَكَانَ الْكَفّ عَن هَذَا الْفِعْل أولى وَأَحْرَى وان صدر من بعض مَجْهُول جرم فَلَا تزر وَازِرَة وزرة أُخْرَى ثمَّ اتّفق بِمُقْتَضى الْحِكْمَة الالهية والاوامر الربانيه أَن الْوَزير مرض عقيب ذَلِك الْفِعْل من غير تَأْخِير وَاسْتمرّ أَرْبَعَة أَيَّام والتحق بالعليم الْخَبِير وَخرج من تبريز وَهُوَ يعالج سَكَرَات الْمَوْت وانتقل بالوفاة بعد خُرُوجه مِنْهَا بِيَوْم من غير فَوت انْتهى مَا لزم ايراده عودا الى مَا يتم بِهِ من صَاحب التَّارِيخ مُرَاده وَكَانَ قبل وَفَاته نصب سِنَان باشا حَاكما وانه قَائِما مقَامه فَلَمَّا توفى رَحل سِنَان باشا بالعساكر فاعترضهم الْعَدو يَمِينا وَشمَالًا وَوَقع بَينهم مناوشة فَلَمَّا وصلوا الى حُدُود المملكة العثمانية أَمَام قلعة سلماس هجم حَمْزَة ميرزا ابْن شاه مُحَمَّد خدا بنده صَاحب عراق الْعَجم فى نَحْو ثَلَاثِينَ ألف رَاكب فَوَقع بَين العسكرين قتال كثير انجلى الْحَرْب عَن هزيمَة الاعجام بعد أَن حصد غالبهم بِالسَّيْفِ فَلَمَّا دخلُوا مَدِينَة وان شَقوا بطن الْوَزير عُثْمَان باشا وحشوه بالطيب وبعثوا جده الى مَدِينَة آمد فدفنوه بهَا وَكَانَ الْوَزير الْمَذْكُور رأى مناما وَهُوَ بِمَدِينَة تبريز أَنه كَانَ رَاكِبًا فرسا أَبيض فَأَلْقَاهُ الْفرس الى الارض وَسَقَطت عمَامَته عَن رَأسه فَعرف أَنه يَمُوت من مَرضه الذى اعتراه فأوصى بِمَا أَرَادَ وَكَانَ من الشجَاعَة فى جَانب عَظِيم وَكَانَ تولى عدَّة صناجق فى ابْتِدَاء حَاله ثمَّ صَار أَمِير الامراء بِبِلَاد الْحَبَشَة فَسَار حَتَّى انْتهى الى تخوم أَرض الْحَبَشَة فَرَأى مَكَانا ينْبت الذَّهَب فِيهِ فى سفح جبل كَمَا ينْبت الْقصب فوصل الى اقليم القرود وتقاتل مَعَهم مَرَّات عديدة فَكَانَ النَّصْر لَهُ وفى سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة جهز السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة فرهاد باشا الْوَزير مَعَ عَسَاكِر عَظِيمَة الى بِلَاد الْعَجم فوصلوا الى تبريز وحصنوا قلعتها ورمموا سورها وَكَانَت السباهية حاصروها مرَارًا عديدة وقربوا من أَخذهَا ثمَّ بنى بَين وان وتبريز قلعتين وشحنهما بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح وَلم يزل الْوَزير الْمَذْكُور يشتى بِبِلَاد الرّوم وَيرجع فى الصَّيف الى بِلَاد الْعَجم حَتَّى مهد الْبِلَاد الَّتِى أخذت من الكرج وَبنى قلعة كورى وَوصل الى بِلَاد قره بَاغ وكنجه وابتنى هُنَاكَ حصنا على كنجه وحصنا على بردعه وَقَاتل صَاحب قره بَاغ مُحَمَّد خَان فَكسر وغنم أَمْوَاله وَعَاد الى بِلَاد الرّوم وَقد وَقع فتح بِلَاد شرْوَان فى هَذِه السّنة وَمن الْعَجَائِب الَّتِى وَقعت فى هَذِه السّنة أَنه فى خَامِس صفر مِنْهَا ولد بحارة بلاط من قسطنطينية بدار رجل يُقَال لَهُ الْحَاج خضر مَوْلُود لَهُ لحية بَيْضَاء طَوِيلَة وَلَيْسَ لَهُ عينان وَلَا فَم وعَلى حَاجِبه أَو جَبينه ثؤلول قدر الباقلا وأذناه فى عُنُقه وَحين ولد سَطَعَ لَهُ نور وبقى الى أَن مَاتَ من يَوْمه وَلما مَاتَ ذهب ذَلِك النُّور وجئ بِهِ الى مجْلِس قاضى استانبول وَرَآهُ النَّاس وسجل بالسجل وَبعث بِصُورَة الْوَاقِعَة للامصار وفى سنة سبع وَتِسْعين وَردت أوَامِر الى الاقطار بِأَنَّهُ ظهر بِمَدِينَة مراكش من الْمغرب ثَلَاث أَنْفَار أحدهم اسْمه يحيى بن يحيى وَهُوَ لابس ثوبا من لِيف النّخل وفى صَدره مرْآة وَهُوَ رَاكب جملا وَيَقُول لَا اله الا الله وَيَقُول الْجمل مُحَمَّد رَسُول الله وانه يَقُول للجدار انْهَدم بِأَمْر الله فينهدم وَيَقُول كن جدارا كَمَا كنت باذن الله فَيكون جدارا عَامِرًا وان الثَّلَاثَة تفَرقُوا وَاحِد الى الشَّام وَآخر الى مصر وَآخر الى قسطنطينية وَإِن الثَّلَاثَة يَجْتَمعُونَ بِالشَّام وان المهدى يتلاقى مَعَهم بِالشَّام وَمَعَهُمْ محْضر نَائِب القاضى على قاضى طرابلس الغرب وخطوط الْعلمَاء وَغَيرهم وان البندق والسهام وَالسُّيُوف لَا تُؤثر فى وَاحِد مِنْهُ وَلما اتَّصل بِعلم السُّلْطَان مُرَاد أَمرهم أرسل الى بِلَاد الغرب أَن لَا يعتبروا شَيْئا من ذَلِك وَكَذَلِكَ الى مصر وَالشَّام وَصَحَّ هَذَا الْخَبَر وَثَبت وفى نَهَار الثلاثا ثَالِث وعشرى شهر ربيع الآخر سنة احدى بعد الالف وَقعت الْفِتْنَة باسلا مبول وَذَلِكَ أَن العساكر من طَائِفَة الْيَمين واليسار والسلاحدراية وَغَيرهم اتَّفقُوا ودخلوا الى ديوَان السُّلْطَان بِسَبَب ابطاء علوفاتهم عَن الْعَادة وَأَرْسلُوا يطْلبُونَ مُحَمَّد الشريف صَاحب الدفاتر يَوْمئِذٍ فَامْتنعَ السُّلْطَان من تَسْلِيمه لَهُم خوفًا من أَن يقتلوه وَلم تزل قُضَاة العساكر يَتَرَدَّدُونَ لهَؤُلَاء الْجَمَاعَة لدفع هَذِه الْفِتْنَة فَلم يقدروا فرجموهم واستمروا واقفين مصرين حَتَّى هجم عَلَيْهِم من الدَّاخِل بعض الصّبيان وساعدهم من وجد من القواد وخدمة الدِّيوَان واستمروا يضربونهم ويرجمونهم بِالْحِجَارَةِ فازدحموا عِنْد خُرُوجهمْ من الْبَاب الوسطانى حَتَّى تراكم بَعضهم على بعض بَين الْبَابَيْنِ واستد الْبَاب فَكَانَ النَّاس يَمْشُونَ عَلَيْهِم فَقتل مِنْهُم وَمن المتفرجين نَحْو من مائَة وَسَبْعَة عشر انسانا فَأمر السُّلْطَان بالقاء أَجْسَادهم فى الْبَحْر وَسلم الدفترى الْمَذْكُور وفى هَذِه السّنة عين الْوَزير سِنَان باشا لمحاربة كفار المجر وَأرْسل العساكر فَفتح تِلْكَ السّنة قلعة بستريم وقلعة طاطا وشتى بِمَدِينَة بلغراد وفى السّنة الثَّانِيَة فتح قلعة قرَان بِضَم الْقَاف وقلعة يانق وهى من أحصن القلاع وأصعبها قد أحَاط بهَا المَاء وهى مَدِينَة مَاتَت الْمُلُوك بحسرتها لحصانتها ومنعتها ومتانتها وَكَانَ فتحهَا عِنْد النَّصَارَى بِمَنْزِلَة الْمحَال لصعوبة مراقيها واستعلاء مراميها وَذَلِكَ بعد أَن نَالَ الْمُسلمين شدَّة عَظِيمَة قيل ان النَّصَارَى رموهم بالمدافع فجَاء مدفع بصنجق النبي الذى صَحبه عَسْكَر الشَّام مَعَهم فكاد يسْقط فَتَلقاهُ رجل قبل السُّقُوط فَلم يسْقط ثمَّ بعد أَيَّام لما اشْتَدَّ بهم الْحصار سلط الله عَلَيْهِم مَوتَانا فَجعلُوا يموتون فى مدينتهم من غير قتال فَسَلمُوا الْمَدِينَة للْمُسلمين فَدَخَلُوهَا فوجدوها قد جافت من الْمَوْتَى وسر الْمُسلمُونَ بذلك سروا عَظِيما وَهَذِه جملَة الوقائع الَّتِى وَقعت فى زمن السُّلْطَان صَاحب التَّرْجَمَة وَبِالْجُمْلَةِ فانه كَانَ سعيد البخت وَكَانَت أَيَّام سلطنته معتدلة غَايَة الِاعْتِدَال وَالْعُلَمَاء والسادات فِيهَا مكرمون وَقد كثر فى زَمَنه الْعلمَاء وَكَانَ محبا لجمع الْكتب مَعَ حسن مطالعتها وَله أدب باهر وَشعر بليغ وَكَانَ غَايَة فى التَّوَاضُع والاستكانة لله تَعَالَى حكى النَّجْم عَن الْخَطِيب أَحْمد بن النعيمى الدمشقى خطيب أيا صوفيا بقسطنطينية أَنه كَانَ فى حَضْرَة السُّلْطَان مُرَاد حِين دخل قسطنطينية بعض أقَارِب سُلْطَان الْعَجم لطلب الْمُصَالحَة وَقد أَمر السُّلْطَان أَن تعرض عَلَيْهِ عساكره مارين عَلَيْهِ بَين يدى الاعجام على وَجه الِاسْتِيفَاء وَجلسَ فى مَكَان لَهُ على كرسيه وَبَين يَدَيْهِ شيخ الاسلام الْمُفْتى والخوجه ونقيب الاشراف وامامه وخطيب أيا صوفية وَهُوَ الْمُحدث قَالَ فعرضت عَلَيْهِ العساكر من أول النَّهَار الى وَقت الظّهْر فى موكب عَظِيم قَالَ فَرَأَيْنَا السُّلْطَان قد بَكَى وانتحب وخر عَن كرسيه سَاجِدا ثمَّ قَالَ لنا اشْهَدُوا على أَنى عبد الله تَعَالَى من جملَة عبيده هَؤُلَاءِ لَا مزية لى بسلطنتى عَلَيْهِم فأبكانا وَبِهَذَا الْمِقْدَار من الاستكانة لله تَعَالَى وَالِاعْتِرَاف يُرْجَى لَهُ الْمَغْفِرَة وَكَانَت وِلَادَته بِمَدِينَة قسطنطينية فى سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وتاريخ وِلَادَته خير النّسَب وَتوفى يَوْم الثلاثا سادس جُمَادَى الاولى سنة ثَلَاث وَألف بحصر الْبَوْل بعد أَن اسْتمرّ مُدَّة طَوِيلَة مُنْقَطِعًا وَاسْتمرّ مَيتا عشرَة أَيَّام حَتَّى جَاءَ وَلَده السُّلْطَان مُحَمَّد وَجلسَ على التخت ثمَّ جهز وَأخرج بعد صَلَاة الْعَصْر وَصلى عَلَيْهِ بِسَاحَة أيا صوفيا وَتقدم للصَّلَاة عَلَيْهِ شيخ الاسلام مُحَمَّد بن بُسْتَان وَدفن بِالْقربِ من تربة وَالِده بِقرب ايا صوفيا وَله من الْعُمر خَمْسُونَ سنة وَكَانَت مُدَّة ملكه عشْرين سنة وَخلف عشْرين ولدا ذكرا غير الاناث فَلَمَّا اسْتَقر ابْنه سُلْطَانا أَمر بخنق اخوته كَمَا تقدم فى تَرْجَمته وَالله أعلم
ــ خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عش
مُرَاد بن سليم بن سُلَيْمَان بن سليم بن بايزيد بن أورخان ابْن عُثْمَان سُلْطَان الروم
ولد سنة 953 ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَجلسَ على التخت سنة 982 وَهُوَ من أعظم سلاطين الروم وأكابر مُلُوكهَا استولى على مَا كَانَ تَحت يَد آبَائِهِ من الممالك وَزَاد عَلَيْهِ فتوحات وَاسِعَة وَهُوَ الذي أتم عمَارَة الْحرم الشريف بعد أَن كَانَ حصل فِيهِ حريق أخرب كثيرا مِنْهُ فَأمر بهدمه جَمِيعًا وَالِده السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان وَشرع فِي عِمَارَته على هَيْئَة نفيسة وأسلوب غَرِيب ثمَّ مَاتَ بعد أَن شرع فِي الْعِمَارَة وكمله صَاحب التَّرْجَمَة وَمَا أحسن مَا قَالَه بعض الشُّعَرَاء فِي تَارِيخ كَمَال الْعِمَارَة وَهُوَ هَذَا الْبَيْت بِتَمَامِهِ فَإِنَّهُ مَعَ انسجامه وسلاسته وَحسن نظمه جَمِيعه تَارِيخ لتَمام الْعِمَارَة وَهُوَ
(جدد الْمَسْجِد الْحَرَام مُرَاد ... دَامَ سُلْطَانه ودام زَمَانه)
وأرخ تَمام الْعِمَارَة بَعضهم فِي نثر فَقَالَ عمر الْحرم سُلْطَان مُرَاد
وَقد وصف القطب الحنفي فِي الْأَعْلَام كَيْفيَّة هَذِه الْعِمَارَة وَأطَال فِي ذَلِك فِي آخر كِتَابه الْأَعْلَام وَختم تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة فِي ذَلِك الْكتاب وَلم يذكر تَارِيخ مَوته وَهُوَ فِي سنة 1003 ثَلَاث وَألف
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني