خلف الأحمر
قد أنشد لامرئ القيس:
نمس بأعراف الجياد أكفنا ... إذ نحن قمنا عن شواء مضهب
فقلت: إنما هو "نمش"؛ لأن المش مسح اليد بالشيء الخشن، ومنه سمي منديل الغمر مشوشاً.
ويحكى أن سليمان بن علي الهاشمي بالبصرة، جمع بين المفضل الضبي والأصمعي، فأنشد المفضل قول أوس بن حجر:
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جذعا
ففطن الأصمعي لخطئه - وكان أحدث سنّاً منه - فقال: إنما هو "تولبا جذعا! " وأراد تقريره على الخطأ، فلم يفطن المفضل لمراده، فقال: كذلك أنشدته. فقال الأصمعي حينئذ: أخطأت، إنما هو "تولبا جذعا"، فقال: المفضل: "جذعاً جذعاً"! ورفع صوته، فقال سليمان بن علي: من تحبان أن يحكم بينكما؟ فاتفقا على غلام من بني أسد، حافظ للشعر، فأحضر فعرضا عليه ما اختلفا فيه، فقال بقول الأصمعي، وصوب قوله، فقال المفضل: وما الجدع؟ فقال: السيئ الغذاء؛ وهكذا هو في كلامهم، ومنه قولهم: أجدعته أمه؛ إذا أساءت غذاءه.
وقال ابن سلاّم: أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس بيت شعر وأصدق لسانا؛ وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبراً، وأنشدنا أن نسمعه من صاحبه.
وحكى شمر قال: كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة؛ وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية، فسمع منه - قال وكان ضنيناً بأدبه. وقال الحسن بن هانئ يرثي خلفاً:
بت أعزي الفؤاد عن خلف ... وما لدمعي إلاّ يفض يكف
أنسى الرزايا ميت فجعت به ... أضحى رهين الثواء في جذف
الجدف: القبر، وأصله "جدث" بالثاء؛ إلاّ أنه أبدل من الثاء فاء، وهم يفعلون ذلك.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء - لكمال الدين الأنباري.
خلف بن حيان، أبو محرز، المعرو ف بالأحمر:
راوية، عالم بالأدب، شاعر، من أهل البصرة. كان أبواه موليين من فرغانة، أعتقهما بلال بن أبي موسى الأشعري. قال معمر بن المثنى: خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة. وقال الأخفش: لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي. وكان يضع الشعر وينسبه إلى العرب، قال صاحب مراتب النحويين: وضع خلف على شعراء عبد القيس شعرا كثيرا، وعلى غيرهم، عبثا به، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة. وله (ديوان شعر) وكتاب (جبال العرب) و (مقدمة في النحو - ط) .
-الاعلام للزركلي-
أبو مِحْرِز خَلف الأحمر البَصْري مولى بلال بن أبي بُرْدَة، المتوفى في حدود الثمانين ومائة. كان راويةً ثقةً عَلاّمةً، سَلَكَ الأصمعي. طريقه حتى قيل هو معلّم الأصمعي وكان الأخفش يقول: لم نُدْرك أحداً أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي. وقال أبو الطيب: كان خلف يصنع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يُعْرَف وكان يختم القرآن وصنَّف "جبال العرب وما قيل فيها من الشعر" وله ديوان شعر حمله عنه أبو نُوَاس. ذكره السيوطي.
سلم الوصول إلى طبقات الفحول - حاجي خليفة.
من أخبار أبي محرز خلف بن حيان الأحمر
مولى بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو من السغد الذين سباهم قتيبة بن مسلم الباهلي، فوهبهم سلم بن قتيبة لبلال بن أبي بردة. - أخذ النحو عن عيسى بن عمر واللغة عن أبي عمرو بن العلاء، ولم ير أحدٌ أعلم بالشعر والشعراء منه. ومما نسب من شعره إلى تأبط شراً " من المديد ":
إن بالشعب الذي دون سلع … لقتيلاً دمه ما يُطل
القصيدة. - ومر خلف باليزيدي، فقال له: يا أبا محرز، ما معنى قول الشاعر " من الكامل "؟
وإذا انتشيت فإنني … ربُّ الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني … ربُّ الشويهة والبعير
فقال له خلف " من الكامل ":
وإذا انتشيت فإنني … ربُّ الحريبة والرميح
وإذا صحوت فإنني … ربُّ الدوية واللويح
يعرض باليزيدي أنه معلم. - قال الأصمعي: قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله " من الطويل ":
ويومٍ كإبهام القطاة محبب … إليّ هواه غالبُ لي ماطله
رزقنا به الصيد الغرير ولم نكن … كمن نبله محرومة وحبائله
فيالك يوماً خيره قبل شره … تغيب واشيه وأقصر عاذله
فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقلت له: كذا قرأته على أبي عمرو، فقال لي: صدقت وكذا كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود لو قال: " فيالك يوماً خيره دون شره "، فاروه هكذا! فقد كانت الرواة قديماً تصلح أشعار القدماء. فقلت: والله لاأرويه بعدها إلا هكذا. - وقال خلف: ما أحد بيَّن عن حقيقة الطيف إلا قيس بن الخطيم في قوله " من الكامل ":
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه … في النوم غير مكدر محسوب
كان المنى بلقائها فلقيتها … فلهوت من لهو امرئ مكذوب
ولا اتبعه حق الاتباع إلا ذو الرمة في قوله " من الطويل ":
إذا نحن عرسنا بأرض سرى لنا … هوى لبسته بالقلوب اللوابس
نأت دار ميٍ أن تزار وزورها … إذا مادجا الإظلام منَّا وساوس
وقرأ أبو نواس على خلف، وأمره أن يرثيه وهو حي، فرثاه أبو نواس، فلما سمعه خلف قال له: أنت أشعر الناس! وقال له مرة أخرى: يابني لشعرك فوق سنك. - وجاء رجلٌ إلى خلف فقال: إني قد قلت شعرا أحببت أن أعرضه عليك. قال: هات! فأنشده " من الكامل ":
رقد النوى حتى إذا انتبه الهوى … بعث النوى بالبين والترحال
ياللنوى جدُّ النوى قطع النوى … بالوصل بين ميامن وشمال
فقال له خلف: قولي، واحذر الشاة! فو الله لئن ظفرت بهذا الشعر لتجعله بعرا، على أني ما ظننت بك هذا كله.
وقال الأصمعي: حج قومٌ بالبصرة وقدموا، فأهدى إليهم خلف هدية فقصروا في ثوابه، فقال " من الوافر ":
سقى حجاجنا نوءُ الثريا … على ماكان من لؤم وبخل
همُ شدّوا القباب وأحرزوها … فلو زادوا لها باباً بقفل
وقد عدوا لنا شيئاً بشئٍ … مقايضة له مثلا بمثل
فإن أهديت فاكهة وكبشاً … وعشر دجائج بعثوا بنعل
ومسواكين طولهما ذراع … وعشرٍ من صغار المقل خشل
فإن أهديت ذاك ليحملوني … على نعل فدق الله رجلي
أناس مائهون لهم رواءٌ … تغيم سماؤهم من غير وبل
إذا نسبوا فحي من قريش … ولكنَّ الفعال فعال عُكْل
وقال ليحيى بن وردان وقد قدم من مكة فلم يهد إليه شيئاً " من البسيط ":
هلا أتيت بقمري أربيه … أو ساق حرٍ إذا ما شئت غناني
فليس للبر والتقوى حججت ولا … من خشية الله يايحيى بن وردان
كنت الخبيث إذا شدوا محاملهم … أيام مكة أنت الفاسق الزاني
قال حبيب القاضي: خرجنا بسحرة نريد بعض الفقهاء ومعنا عباد بن صهيب، فجاء كلب حتى تشممه، ثم بال عليه، فقال خلف: كان هذا الكلب من قافة بني مدلج، وضع البول في موضعه!
وقال خلف: كنت أسمع ببشار وما كنت رأيته، فذكروه لي يوماً وذكروا بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره، وأنشدوني شعراً ليس بالمحمود عندي. فقلت: والله لآتينه ولأطأطئن منه! فأتيته وهو جالس على باب داره، فرأيت أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة، فقلت: لعن الله من يبالي بهذا! فوقفت أتأمله طويلاً، فبينا أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً سبعك عند الأمير محمد بن سليمان ووضع منك. فقال: أفعل؟ قال: نعم! فأطرق، وجلس الرجل عنده وجلست، وجاء قومٌ فسلموا عليه، فلم يردد عليهم السلام، فجلسوا ينظرون إليه، فندرت أوداجه فما نشب أن أنشدنا بأعلى صوته وأفخمه " من الكامل ":
نبئت راكب أمه يغتابني … عند الأمير وهل عليَّ أمير
ناري محرقة وسيبي واسع … للمعتفين ومجلسي مغمور
ولي المهابة في الأحبة والعدى … وكأنني أسد به تأمور
غرثت حليلته وأخطأ صيده … فله على لقم الطريق زئير
فارتعدت والله فرائصي وعظم في عيني جداً وقلت في نفسي: الحمد لله الذي أنقذني من شرك! وذكر عليّ بن هارون المنجم عن أبيه أن خلفاً قال قصيدة نحلها عباد بن الممزق، يذكر فيها أبا محمد اليزيدي ويرميه باللواط بأملح معان وأقرب لفظ، وهي " من الكامل ":
إني ومن وسج المطي له … حدب الذرى اقرابها رجف
يطرحن باليد السخال إذا … حث النجاء الركب وازدهفوا
وإذا قطعن مساف مهمهة … تأتي تعرض دونه شرف
والمحرمون لصوتهم زجل … بفناء كعبته إذا هتفوا
وافت بهم فرض مزممة … مثل القسي ضوامر شسف
مني إليه غير ذي كذبٍ … ما أن رأى قوم ولا عرفوا
في غبر الناس الذين بقوا … والفرط الماضيين إذ سلفوا
في معرك تلقى الكمي به … للوجه منبطحاً وينحرف
وإذا أكب القرن أتبعه … طعناً دوين صلاه ينخسف
لله درك أي ذي دلف … في الحرب أنت إذا هم وقفوا
لاتخطئ الوجعاء ألته … ولا تصد إذا هم زحفوا
وله جياد ليس تعوزها الاجلال والمضمار والعلف
جرد يهان لها السويق وألبان اللقاح كأنها ترف
مرد وأطفال تخالهم … دراً تطابق فوقه الصدف
ومتى يشا يجنب له جذع … نهد أسيل الخد مشترف
يمشي العرضنة تحت فارسه … عبل الشوى في مشيه قطف
ربذا إذا عرقت مغابنه … ذهب السكون وأقبل العنف
في حقوه عرد تقدمه … صلعاء في يافوخها قنف
جرداءُ تشحذ بالبصاق إذا … دعيت نزال وهبّ ترتدف
أقعت على قيد الذراع شديد الجلز في يافوخه جوف
خاط ممر متنه ضرم … لاخانه خور ولا قضف
لو أنّ قناصاً تأمله … نادى بحر الويل يلتهف
وإذا يمسحه لعادته … ودنا الطراد فمدعس قطف
وإذا أبس به رباً وثرا … حتى يكاد لعابه يكف
ياليتني أدري أمنجيتي … وجناء ناجية بها شدف
من أن تعلقني حبائله … أو أن يواري هامتي اللحف
ربما أقول لصاحبي خلف … إيها هديت تحرزن خلف
فلو أنّ بيتك في ذرى علم … من دون قلّة رأسه شعف
ذلق أعليه وأسفله … وعلا تنائف بينها قذف
لخشيت جزرك أن يبيتني … إن لم يكن لي عنك منصرف
وهجا رجلاً كوسجاً يقال له محرز " من الوافر ":
أمحرز ما نظرت إليك إلا … ذكرت من النساء عجوز لوط
أرى شعراً بخدك غير حلو … شبيهاً حين يمشط بالخيوط
فما شيء بأشبه من عجوز … إذا فكرت من شيخ سنوط
وقال يصف حية " من الوافر ":
يرون الموت دونك إن رأوني … وصل صفا لنابيه ذباب
من المتطويات بكهف طود … عرام لا يرام له جناب
أبى الحاوون أن يطوا حماه … ولا تسري بعقونه الذئاب
إذا ما استجرس الأصوات أبدى … لساناً دونه الموت العباب
يعظل نهاره نوماً سباتاً … ونزوته طموراً وانسياب
كأن جرادة نشرت عليه … جناحاً فارتدى منها الحباب
متى مايرم عن عينيه شخصاً … فليس إلى الحياة له إياب
وقال " من الكامل ":
صب اإله على عبيد حية … لاتنفع النفاث فيها والرقى
جبلية تسري إذا ما جنها … ليلٍ وتكمن بالنهار فما ترى
مهروتة الشدقين ينطف نابها … سماً ترى ما أن يهاب ويتقى
خضرت لها عنق وسائر خلقها … بض يبين كمثل مصباح الدجى
وكأنما لبست بأعلى لونها … برداً من الأثواب أنعجة البلى
رقشاه تقتصد الطريق إذا دنا … منها المساء كأنها ثنيا رشا
قرناء أنساها الزمان فأدركت … عاداً فليس لنهشه منها شفا
أو حية ذا طفيتين أحله … آباؤه في شامخ صعب الذرى
فنشا بغار مظلم أرجاؤه … لا الريح تصرده ولا برد الشتا
لم تغشه شمس وحالف قعره … فنهاره ومساؤه فيه سوا
لو عض حرفي صخرة لتطايرت … من نابه فلقا كأفلاق النوى
أو حالكاً أما النهار فكامن … متطرق فإذا رأى ليلاً سرى
في عينه قبل وفي خيشومه … فطس وفي أنيابه مثل المدى
يلقى عبيداً ماشياً متفضلاً … متخلفاً قد ملَّه طول السرى
في ليلة نحس يحار هداتها … لا لابساً خفاً يقيه ولاحذا
فيحوصه في كعبه بمذرب … ماضٍ إذا أنحى على عظم فرى
وقال يدعو على رجل بالرتيلي " من الرجز ":
ابعث له من الرتيلي سقما … مذبوبة تبعث فيه ألما
يظل منه لحمه مقسماً … دهماء مثل العنكبوت أيما
لم تبق بعلاً لا ولم تبق اينما … جزاء خطاب بما تأثما
وقال أيضاً في مثله " من الرجز ":
ابعث له يارب ذات أرجل … في فمها أحجن مثل المنجل
دهماء مثل العنكبوت المحول … تأخذه من تحته ومن عل
وقال في العقرب " من الرجز ":
يا ربنا ربَّ الشمال والصبا … ومن سعى بالبيت أو تحصبا
ابعث له تحت الظلام عقربا … مصفرة تنمي إليه خببا
تسل محجوباً نحيفاً نيربا … أكلف لو مسسته لأندبا
كأنما تمس منه حربا … حتى إذا خالطه فضربا
أتاك منه سائلاً محبباً … فإن نجا فابعث إليه القرطبا
فمرَّ يفري سبسباً فسبسباً … فصعدا دماغه وصوبا
وأكلا من لحمه وشربا … جزاء خطاب بما تحوبا
وقال في البرغوث " من الرجز ":
يا عجباً للدهر ذي الإعجاب … للأحدب البرغوث ذي الأنياب
يلسع لسع العقرب الدباب … يقفز بين الجلد والثياب
وقال " من الرجز ":
وحية مسكنه الرمال … كأنه إذا انثنى خلخال
وقال " من الرجز ":
ابعث على الكذاب في برد السحر … حية غار في منيف مشمخر
وقال " من الرجز ":
وحنش كأنه رشاء … أسود ما لمسه دواء
وقال في مرض موته " من الرجز ":
يا أيها الليل الطويل ذنبه … كأن ديناً لك عندي تطلبه
أما لهذا الليل صبح يقربه
وتمثل عند موته بهذا البيت " من البسيط ":
لايبرح المرء يستقري مضاجعه … حتى يبيت بأقصاهن مضجعا
وقال المبرد: إن خلفاً بقي إلى وفاة الرشيد أو بعد ذلك. وقال عبد الباقي ابن قانع: توفي خلف سنة خمس وسبعين ومائة. وهذا بعيد مما أورده المبرد لأن الرشيد توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، والله أعلم.
من كتاب نور القبس - أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (ت 673هـ)