أحمد فارس بن يوسف بن منصور الشدياق: عالم باللغة والأدب. ولد في قرية عشقوت (بلبنان) وأبواه مسيحيان مارونيان سمياه فارسا. ورحل إلى مصرفتلقى الأدب عن علمائها. ورحل الى مالطة فأدار فيها أعمال المطبعة الأميركانية. وتنقل في أوربا، ثم سافر إلى تونس فأعتنق فيها الدين الإسلامي وتسمى (أحمد فارس) فدعي إلى الاستانة فأقام بضع سنوات، ثم أصدر بها جريدة (الجوائب) سنة 1277هـ فعاشت 23 سنة. وتوفي بالآستانة، ونقل جثمانه إلى لبنان. من آثاره (كنز الرغائب في منتخبات الجوائب - ط) سبع مجلدات، اختارها ابنه سليم من مقالاته في الجوائب، و (سرّ الليال في القلب والإبدال) في اللغه، جزآن، طبع الأول منهما و (الواسطة في أحوال مالطة - ط) و (كشف المخبا عن فنون أوربا - ط) و (الجاسوس على القاموس - ط) و (اللفيف في كل معنى طريف - ط) و (الساق على الساق في ما هو الفارياق - ط) و (غنية الطالب - ط) و (الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية - ط) و (سند الراويّ في الصرف الفرنساوي - ط) وله عدة كتب لم تزل مخطوطة، منها (ديوان شعره) يشتمل على اثنين وعشرين ألف بيت، طبع نحو ربعه في الجزء الثالث من (كنز الرغائب) ، وفي شعره رقة وحسن انسجام، و (المرأة في عكس التوراة) وكتاب في (تراجم الرجال) و (التقنيع في علم البديع - خ) في شستربتي (4099) ولمحمد أحمد خلف الله (أحمد فارس الشدياق وآراؤه اللغوية والأدبية - ط).
-الاعلام للزركلي-
أحمد فارس الشدياق
ترجمة حياته
هو فارس بن يوسف بن منصور بن جعفر، شقيق بطرس الملقب بالشدياق، من سلالة المقدم رعد بن المقدم خاطر الحصروني الماروني، الذي تولى جبل كسروان في سورية سبعا وثلاثين سنة في أوائل القرن السابع عشر للميلاد.
ولد في عشقوت من أعمال لبنان سنة 1804م، ثم انتقل والداه إلى الحدث بلبنان سنة 1809م، فربي فيها وقد ظهرت عليه مخائل النجابة منذ نعومة أظفاره، فتعلم القراءة في مدرسة عين ورقة بلبنان، وتناول شيئًا من اللغة والنحو على يد أخيه أسعد، وبدأ بنظم الشعر وهو في حدود العاشرة، وكان فيه ميل غريزي لقراءة الكلام الفصيح، والتبحر في معاني الألفاظ الغريبة التي يعثر عليها فيما يقرؤه من الكتُب التي في مكتبة والده؛ لأن والده كان قد أحرز كتبا عديدة في فنون مختلفة، ثم تُوفي والده وهو صبي، فأصبح يتيما، فعلم أنه يجب عليه أن يعتمد على نفسه في التعيُّش، فأتقن صناعة الخط، وجعل ينسخ الكتب لنفسه أو لغيره بالأجرة، ولكنه لم ير فيها فائدة تذكر، وكانت نفسه تحدثه من ذلك الحين بالأسفار والجد في طلب العلى، ولم يكن يرى فيما حوله ما ينشطه على ذلك وينهض به من حضيض الفقر؛ لقلة الوسائل واستبداد القوي بالضعيف.
قلنا إنه تلقى بعض العلم عن أخيه أسعد، وكان أخوه هذا نابغة عصره ذكاء وفطنة، فاتفق أنه خلع مذهب والديه وتمذهب بالمذهب الإنجيلي، فغضب عليه البطريرك، وما زال يتهدده ويسومه العذاب ألوانا حتى يرجع عن رأيه، فلم يزدد إلا تمسكا وإصرارا إلى أن آل ذلك إلى موته بدير قنوبين في عنفوان شبابه شر موتة، ولا يزال أهل سورية ولبنان يتحدثون بقصته إلى هذه الغاية.
وكان صاحب الترجمة شديد التعلق بأخيه هذا، فعظم عليه أمره حتى كره الإقامة في بلاد الشام جملة، فغادرها ناقما عليها وعلى الذين كانوا سببا في موت أخيه أسعد، وطلب الاغتراب فجاء الديار المصرية في عهد المغفور له محمد علي باشا، وكان مجيئه إليها بصفة أستاذ للمرسلين الأميركان لتعليم اللغة العربية وقواعدها وأشياء أخرى، وقد أرسله لذلك المرسلون الأميركان ببيروت؛ لأنهم شعروا بأن موت أخيه أسعد إنما كان دفاعا عن مذهبهم، وكان أسعد مضطهدا من أكثر أعضاء عائلته إلا جماعة منهم لم يكونوا يستطيعون المجاهرة في الدفاع عنه؛ خوفا من سطوة الحكام؛ لأنهم كانوا موافقين للإكليروس بما أتوه بشأن المرحوم أسعد، أما فارس فإنه لم يكن يكتم ما في نفسه من استصواب عمل أخيه، فأصبح في خطر على حياته، فحماه الأميركان ثم أرسلوه إلى مصر - كما قدمنا.
ولبث في مصر بين تعليم وتعلم حتى أتم دروسه في العلوم العربية وغيرها، وقد قرأَ بعضها على الفاضلين نصر الله أفندي الطرابلسي الحلبي والشيخ محمد شهاب الدين، وطالع كتاب صحاح الجوهري وديوان المتنبي وغيرهما من كتُب اللغة والأدب، وكان كثير الرغبة في قراءة الشروح التي تُبين مآخذ الكلام من اللغة، شديد الولع بالشعر ونظمه، فخاض عبابه حتى بلغ منه مبلغا عظيما، ونظم شيئًا كثيرًا بين غزل وحماسة ومدح وهجاء، وتمكن من سائر علوم اللغة؛ كالنحو والصرف والاشتقاق والمنطق، وتقرب من خيرة علماء المصريين ومعية عزيز مصر حتى تولى كتابة الوقائع المصرية، وكانت أول نشأتها تكتب باللغة التركية فقط، فكتب فيها زمنًا بالعربية.
وتعرف في مصر بعائلة الصولي من وجهاء السوريين، فصاهرهم وولدت له امرأته هذه ولدين؛ هما فائز وسليم، أما الأول فتوفي بعد ذلك في ضواحي لندرا أثناء إقامته فيها - كما سيجيء - وبقي سليم وحيدا، وهو سليم أفندي فارس نزيل بلاد الإنكليز.
وفي سنة 1834م سافر إلى جزيرة مالطة، وأقام فيها زهاء أربع عشرة سنة يدرس في مدارس المرسلين الأميركان، وقد تولى تصحيح ما يُطبع في مطبعتهم هناك، وأخذ في التأليف والتصنيف، ولا يكاد يوجد كتاب مطبوع في مطبعة مالطة إلا كان هو مؤلفه أو مترجمة أو مصححه؛ ومن جملة ما ألفه كتاب للتدريس، وآخر سماه (الواسطة في معرفة أحوال مالطة)، لم يغادر شيئًا عن تلك الجزيرة وسكانها إلا أبانه وانتقده فيه.
وفي سنة 1848م بَعثت جمعية ترجمة التوراة في لندرا تطلبه من حاكم مالطة على يد وزير خارجيتها للمساعدة في ترجمة التوراة إلى العربية، وكانت هذه الجمعية قد عهدت بترجمتها إلى الدكتور لي، فبعثت إلى صاحب الترجمة لتنقيحها وضبطها، فسار إلى لندرا، ومر في طريقه بمدن كثيرة من أوروبا، ثم عاد بعد انتهاء الترجمة إلى باريس، أقام فيها زمنًا، وقد كتب سياحته هذه في كتاب سماه (كشف المخبَّا في أحوال أوروبا)، وصف به تلك البلاد وصفا دقيقا بعبارة رقيقة تأخذ بمجامع القلوب، لا يمل القارئ من قراءتها، فضلا عما يستفيده منها عن أحوال أمم أوروبا؛ وخصوصا لندرا، وأخلاق أهلها وعلومهم وآثارهم وكل ما يتعلق بهم، أما باريس فأوجز في وصفها اعتمادا على ما كان قد كتبه عنها العلامة المرحوم رفاعة بك الشهير، وقد طبع كشف المخبَّا الطبعة الأولى في تونس، والثانية في الآستانة سنة 1299ه، وهي مشهورة ومتداولة، وألف أثناء سياحته هذه أيضا كتابا سماه (الساق على الساق فيما هو الفارياق)؛ والفارياق لفظ مقتطع من اسمه (فارس الشدياق) - وسيأتي وصف هذا الكتاب عند الكلام من مؤلفاته.
قضى في سياحته هذه بضع عشرة سنة متجولا في أنحاء أُوروبا، يتردد إلى مالطة، وهو لم يغير شيئا من لباسه التركي، ولا بدل طربوشه، على أنه أتقن أثناء ذلك أيضا اللغة الإنكليزية، وتعلم الفرنساوية، وتزوج سيدة إنكليزية لم تلد له أولادا، ونال الحماية الإنكليزية بعد سعي؛ لأنهم لم يكونوا يمنحونها إلا لمن استحقها، ولا تتوقف على مدة سنين الإقامة، فنالها وحلف اليمين المتعلقة بها؛ وهاك نص بعضها:
أنا فلان أعد وأقسم صادقا بأني أكون أمينا ومخلصا في الطاعة لجلالة الملكة فيكتوريا، وأحامي عنها بغاية جهدي وطاقتي ضد جميع من يتحالف عليها أو يهم بسوء عليها؛ سواء كان على شخصها أو تاجها أو شرفها، وأبذل غاية جهدي في أن أكشف لجلالتها ولورثتها ولمن يخلفها جميع الخيانات والخائنين والمتغاوين عليها أو عليهم، وأعد بأمانة أني أبذل غاية استطاعتي في أن أحفظ وأسند وأجير خلافة التاج المعبر عنه في الأحكام بحكم كذا.
واتفق في غضون ذلك أن أحمد باشا باي ولاية تونس إذ ذاك زار مدينة باريس، وفرق على فقراء مرسيليا وباريس وغيرهما أموالا طائلة، ثم رجع إلى مقامه، فنظم صاحب الترجمة قصيدة يمتدحه بها، وبعثها على يد من بلغها إليه، فحازت حسن قبوله وفتن الباي بها، حتى بعث إليه يستقدمه على سفينة حربية، وقد عجب صاحب الترجمة لتلك الدعوة وذلك الإكرام وقال: (لعمري، ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقا ينفق فيها، ولكن إذا أراد الله بعبد خيرًا لم يعقه عنه الشعر ولا غيره) فجاء تونس وأقام فيها مدة على الرحب والسعة، وحرَّر في جريدة الرائد التونسي، وهي جريدتهم الرسمية إلى الآن.
وكان في أثناء إقامته بباريس قد نظم قصيدة امتدح بها المغفور له السلطان عبد المجيد على أثر الحرب بين الدولة العلية والروسية، (1270) وبعث بها على يد سفير الدولة العلية بباريس، والقصيدة تزيد أبياتُها على المائة والثلاثين، نكتفي منها بما يأتي مثالا لما جادت به قريحة المترجم من النظم:
قال في مطلعها:
الحق يعمر والصلاح يعمر والزور يمحق والفساد يدمر
ومنها:
يا مؤمنون هو الجهاد فبادروا متطوعين إليه حتى تُؤجروا.
ومنها:
في لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تُحبون الدليُل الأظهُر
وتمسكوا بالعروة الوثقى من الصـ ـبر الجميل على القتال وذمروا
يغنيكم التكبير والتهليل عن أن تُعملوا فيهم سلاحا يبتر
ومنها:
لو لم يكن منكم سوى نفر لما غلبوا فكيف بكم وأنتم أكثر
ومنها:
أنتم عباد الله حقا فاعبدوا للدين فهو بكم يعز ويجبر
ومنها:
ما أن يقاويكم بهم من عسكر لو أن ملء الرض طرًّا عسكر
قد قال في الذكر المفصل ربكم حقا علينا نصرهم فتذكروا
ومنها:
غاروا على حرم مخدرة لكم قد طالما أحصنَّ عمن يعهر
قد قال في الذكر المفصل ربكم حقا علينا نصرهم فتذكروا
ومنها:
والله قد وعد المجاهد منكم فتحا مبنيًا في الكتاب فأبشروا
ويبوئ الشهداء خير مبوء جنات عدن ملكها لا يغبر
الحرب بينكم سجال فاثبتوا والنصر عقبى أمركم فاستبشروا
ومنها:
ولعل نسرهم المدوم واقع فمن الهلال علاه ضوء يبهر
ومنها:
من كان من بين الورى سلطــ انه عبد المجيد فإنه لمظفر
ومنها:
كفر المبايع غيره والمعتدي بغيا وطغيانًا عليه أكفر
ومنها:
من جوهر الإخلاص صَّوَر ذاته رب قدير كيف شاء يصور
ولاه أمر الدين والدنيا معا فهو الإمام الحاكم المتأمر
ومنها:
وهو الذي بين العباد محبب ومعَّظم ومبجٌل ومعزز
يستدفعون الضر فيهم باسمه وعلى المنابر حمده المتكرر
ومنها:
إيه أمير المؤمنين ومن دعا إيه أمير المؤمنين فقد سروا
سْد بالمعالي فائقًا كل الورى مجدا وشانئك البغيض الأبتر
ومنها:
ليست فروق لغير عرشك وهي ما بقيت عن الفرقان ليست تقفر
أنت الذي بمديح وصفك تنجلي عنا الهموم وأفقنا يتعطر
وقال في ختامها:
حرس الإله جنابك الأعلى ولا زالت عبادك في حماه تخفر
وأدام دولتك العلية ما سرى نجم وما زخرت كجودك أبحر
أنشدت تاريخين هجريين في ختمي مديحك وهو حظي الأوفر
عبد المجيد الله أزكى ضده سلطاننا خير بجد ينصر
وكان لهذه القصيدة وقع حسن لدى الجلالة الشاهانية، فورد عليه بسببها إيعاز بالقدوم إلى الآستانة لمكافأته، وكان قد هم بالمسير فحبَّب إليه بعض الصدور العظام الإقامة في تونس، فسار إليها - كما تقدم - ووجه إليه حضرة الباي أحسن منصب لديه، وهناك اعتنق الديانة الإسلامية على يد شيخ الإسلام، وسمي أحمد، فصار اسمه أحمد فارس الشدياق، وأخذ صيته ينتشر في سائر الأنحاء الإسلامية؛ وخصوصا الآستانة العلية، فطلبته الصدارة العظمى من الباي، فقدم إلى الآستانة وتولى تصحيح الطباعة العامرة بضع سنوات.
وفي سنة 1277هـ، أنشأ جريدة الجوائب الشهيرة في الآستانة، وأجاد في إنشائها وسبكها، فولع الناس بمطالعتها، وذاع صيتها في الآفاق الشرقية، فبلغت الهند وفارس والعراق وسائر بلاد العرب ومصر والشام والمغرب، وأجاد في إتقانها، حتى لم يغادر أسلوبًا من أساليب الكتابة لم يطرقه؛ بين لغة وسياسة ومدح ورثاء وجد وهزل ولوم وعتاب وحزن وطرب وسائر فنون الأدب، فضلا عن القصائد الرنانة والمقالات العديدة في العلم والأخلاق - كما تراه محفوظا في منتخبات الجوائب.
ولم تنحصر منزلة الجوائب في المشرق، ولكنها دخلت المغرب حتى كانت جرائد باريس ولندرا تأتي بذكرها وذكر محررها في الكلام عن سياسة الشرق، مستشهدة بأقواله، وكانت تلقبه بالسياسي الشهير والإخباري الطائر الصيت، وقد خاطبه الملوك والأمراء والعظماء في سائر أقطار العالم، ووجدوا بين أوراقه بعد وفاته مئات من الكتب واردة عليه من عظماء العالم وملوكهم.
وقد نال الالتفات الشاهاني بنوع خاص، فأنعم عليه بالرتب والنياشين، ونال مثل ذلك أيضا من الدول الأُخرى.
وما زال عاملا على التأليف والتحرير إلى أواخر أيامه، فعهد بتحرير الجوائب إلى ولده سليم أفندي فارس، فقام بذلك خيرَ قيام إلى أن قضت الحوادث بعطلتها سنة 1884م على أثر الحوادث السودانية في الديار المصرية.
وفي سنة 1886م، قدم صاحب الترجمة إلى هذه الديار، وقد شاخ وهرم وأُتيح لنا مشاهدتُه وقد علاه الكبر، وأحدق بحدقتيه قوس الأشياخ، واحدودب ظهره، ولكنه لم يفقد شيئا من الانتباه أو الذكاء، وكان إلى آخر أيامه حلو الحديث، طلي العبارة، رقيق الجانب، مع ميل إلى المجون
وقد لاقى أثناء إقامته بمصر هذه المرة حسن الوفادة، فزاره الوزراء والعظماء، وتشرف بالمثول بين يدي المغفور له الخديوي السابق، فأكرمه ولاطفه وذكر خدمته للشرق.
ثم عاد إلى الآستانة العلية، وأقام هناك حتى وافته المنية، وقد شبع من الأيام، فتوفي في مصيفه بقادي كوي، وكان لوفاته في الآستانة رنة ودوي، فرثاه الكبراء والعظماء، وبعثت الحضرة السلطانية سماحتلو رشادتلو الشيخ محمد ظافر أفندي لحضور الاحتفال، ونقلت جثته إلى سورية عملا بوصايته قبل وفاته، ودفنت في سفح لبنان في محلة الحازمية قرب مدينة بيروت.
وكان لتشييع جنازته في بيروت احتفال شائق، مشى فيه كبار المأمورين وأعيان البلاد وعلماؤها وأفاضلها، إلى أن واروه التراب واستمطروا عليه صيب الرحمة والرضوان.
وترى في صدر هذه المقالة رسمه منقولا عن أصل فوتوغرافي دقيق الصنعة، وهو آخر رسم نقل عنه على ما نعلم، وترى فيه ظواهر الشيخوخة واضحة، ولكنها كانت أوضح كثيرا عند قدومه القاهرة المرة الأخيرة، وكان (رحمه الله) ربع القامة، كبير الأنف، واسع العينين مع بروز وحدة، وكان طلي الحديث مع ميل إلى المجون، وترى هذه الصفة واضحة كل الوضوح فيما كتبه، فإن من يُطالع كتبه يتحقق ذلك فيها.
وقد رثته الجرائد على اختلاف لغاتها ونزعاتها، وأبَّنه العلماء والأُمراء، ورثاه الشعراءُ في أنحاء المملكة العثمانية؛ وخصوصا في مصر وسورية، وقد عني بجمع تلك المراثي من نظم ونثر حضرة يوسف أفندي آصاف، صاحب جريدة المحاكم، وطبعها في مطبعة المحروسة في كتاب سماه هو الباقي)، وقد علمنا أنه وردت كتابات أُخرى في رثائه بعد أن تم طبع المجموعة، وبالحقيقة أن الرثاء وإن كثر قليل في جانب ما يليق بمقام هذا الفقيد.
مؤلفاته:
ويجمل بنا - قبل الشروع في وصف مؤلفاته - أن نصف قلمه؛ أي أن ننظر في مؤلفاته نظرا عاما، ونذكر ما اختص به من أوصاف الكتاب، فنقول: امتاز المترجم بإتقان فني النظم والنثر والإجادة في كليهما، فتراه إذا نظم أو نثر إنما يفعل ذلك عن سعة وارتياح، كأنه وعى ألفاظ اللغة في صدره، وأخذ عليها عهدا أن تأتيه صاغرة حالما يحتاج إليها، فإذا خطر له معنى سبكه في قالب من اللفظ لائق به، بغير أن يتكلف في ذلك مشقة أو ترددا، فترى كتاباته طلية طبيعية ليس فيها شيء من التكلف أو التقعر، على كونها بليغة فصيحة؛ والسبب في ذلك حدة ذهنه، وقوة ذاكرته، وسعة اطلاعه، وكثرة محفوظه، مع حرية قلمه، وكان يُطلق لقلمه العنان غير محاذر، وأظنه السبب فيما نراه ببعض مؤلفاته من المجون الذي تنفر منه طباعنا وتمجه أذواقنا، على أن المجون إذا لم يتجاوز حده كان أحماضا، أو هو بمثابة الملح للطعام، وذلك كثيرٌ في كتابات المترجم مما يرغب المطالع في المطالعة، فلا يمل منها وإن طالت.
ومن خصائص كتابة الشيخ أحمد فارس السلاسة، وارتباط المعاني بعضها ببعض، وانتساقها مع التوسع في التعبير، وتتبع الموضوع إلى جزئياته مع مراعاة الموضوع الأصلي والعود إليه، وترى ذلك واضحا في كتابه كشف المخبَّا، فإذا أراد وصف عادة من عادات أهل باريس - مثلا - فإنه يتطرق منها إلى ما يُماثلها من عادات العرب أو الأتراك، فيذكر وجه الخطأ هنا أو هناك، وما هو سبب هذه العادة، وربما جاء بتاريخها ومن جاء بها، حتى يخال لك أنه خرج عن الموضوع، ثم لا تشعر إلا وقد عاد بك إليه بغير تكلف، وكل ذلك بغاية السلاسة والطلاوة مع البلاغة، وترى في مؤلفاته كثيرا من الألفاظ العربية، جاء بها للتعبير عن معان حديثة إفرنجية لم تكن عند العرب، وهي في الغالب تدل على حسن اختياره.
ومن الأدلة على اقتداره في التعبير أنه مغال، فإذا مدح بلَّغ ممدوحه عنان السماء، وإذا هجا أنزل مهجوه دركات الجحيم، وترى كتاباته - على بلاغتها وحسن سبكها - تتجلى فيها البساطة والسهولة، كأن كاتبها كان يكتب كل ما يمر بذهنه على غير تكلف أو مراعاة لخطة الكتَّاب قبله، وهو استقلال في الرأي، واعتماد على النفس؛ فمن ذلك في بداية فصل يصف به مصر في كتاب الفارياق قوله: قد قمت حامدا لله شاكرا، فأين القلم والدواة حتى أصف هذه المدينة السعيدة الجديرة بالمدح إلخ ،… وفي هذا الأسلوب من الطلاوة ما لا يخفى، ولكل مقام مقال.
فلنشرع إذن في وصف مؤلفاته:
1. سر الليال في القلب والإبدال: وهو كتاب لغوي تحليلي، كتبه في الآستانة العلية لثلاثة مقاصد؛ أولا: لسرد الأفعال والأسماء التي هي أكثر تداولا وأشهر استعمالا، وتنسيقها بالنظر إلى التلفظ بها لإيضاح تناسبها وإبداء تجانُسها، وكشف أسرار معانيها وأصل مدلولاتها، ثانيًا: استدراك ما فات صاحب القاموس من لفظ أو مثل أو إيضاح عبارة أو نسق مادة، والكتاب يشتمل على نحو ستمائة صفحة بقطع كبير طبع بالآستانة سنة 1284هـ.
2. الساق على الساق فيما هو الفارياق: وقد تقدم ذكر هذا الكتاب في ترجمة حياته، وهو كبير الحجم، يشتمل على نحو ثمانمائة صفحة كبيرة، كتبه أثناء سياحته ِ في أوروبا، ويظهر لمن طالعه أن مؤلفه أراد به ثلاثة أمور:
الأول: وصف أسفاره وأحواله الخصوصية، وما قاساه في أوائل حياته، والثاني: التنديد بجماعة من الإكليروس، لم يذكر أسماءهم إلا رمزا، وتقبيح ما ارتكبوه في مقتل أخيه أسعد، وأما الأمر الثالث وهو الأهم: فهو إيراد الألفاظ المترادفة في اللغة في مجموعات، كل موضوع على حدة؛ كأسماء الآلات والأدوات وأصناف المأكول والمشروب والمشموم والمفروش والمركوب والحلي والجواهر، وأوصاف الرجال والنساء، وغير ذلك مما لا يتيسر وجوده في كتاب واحد، وعلى أُسلوب لم نشاهد مثله في العربية.
على أننا لا نستطيع الانتقال من وصف كتاب الفارياق قبل الإشارة إلى أمر وددنا لو كفانا (رحمه الله) مئونة النظر فيه؛ وذلك أنه أورد في ذلك الكتاب ألفاظا وعبارات أراد بها المجون، ولكنها تجاوزت حدوده حتى لا يتلوها أديب إلا ود لو أنها لم تمر في ذهن شيخنا، ولا دونها في كتابه؛ تنزيها لأقلام الكتَّاب عما يخجل من قراءته الشاب ً فضلا عن العذراء، وقد طبع الفارياق في باريس سنة 1270ه.
3 الجاسوس على القاموس: ألفه في الآستانة ينتقد فيه معجم القاموس المحيط للفيروزآبادي، وهو يشتمل على مقدمة وأربعة وعشرين نقدا؛ أما المقدمة فهي ملاحظات كثيرة لغوية، من جملتها ترتيب الأفعال بحسب ما نسقه الكوفيون، ثم ترجمة صاحب القاموس وصاحب العباب وصاحب الصحاح وصاحب المحكم وصاحب لسان العرب، وهم من فطاحل علماء اللغة، أما الأربعة والعشرون نقدا، فهي انتقاده ما ورد في القاموس من عبارته وخطته ومعاني ألفاظه واشتقاقها وما شاكل ذلك، وعدد صفحات الكتاب زهاء سبعمائة صفحة.
4 كشف المخبَّا عن فنون أوروبا: وهو سياحته في أوروبا، وصف فيه عوائد أهل أوروبا؛ وخصوصا الإنكليز والفرنساويين، ومتاحف لندرا وباريس وآثارهما، وقد قال إنه اختصر في وصف باريس؛ لأن المرحوم رفاعة بك قد سبقه إلى وصفها مطولا، وقد طبع هذا الكتاب غير مرة.
5 الواسطة في أحوال مالطة: وفيه وصف جزيرة مالطة جغرافيا وتاريخيا ومدنيا، وعوائد أهلها وأخلاقهم ولغاتهم، وكل ما يتعلق بهم.
6 اللفيف في كل معنًى ظريف: جمع فيه كلمات مفيدة، وحكما مأثورة، وأمثالا أدبية، وحكايات تهذيبية، ونكاتًا لغوية.
7 غنية الطالب ومنْية الراغب: وهو كتاب مدرسي في علم الصرف والنحو.
8 الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية وتليها المحاورة الأُنسية في اللغتين العربية والإنكليزية: وهو كتاب مدرسي لتعليم اللغة الإنكليزية.
9 السند الراوي في الصرف الفرنساوي: وهو كتاب لتعليم اللغة الفرنساوية.
هذا عدا جريدة الجوائب التي حررها زهاء ثلاثين سنة، وقد تقدم ذكرها في ترجمة حاله، وجمع نجله سليم أفندي فارس نخبًا منها في كتب سماها منتخبات الجوائب.
وهناك كتب ألَفها ولم تطبع؛ منها كتاب النفائس في إنشاء أحمد فارس، والتقنيع في علم البديع، والروض الناضر في أبيات ونوادر، وتليه رسائل ومحررات أدبية، وديوان شعري من نظمه يشتمل على اثنين وعشرين ألف بيت.
وقد ألف كتابا مطولا في اللغة سماه (منتهى العجب في خصائص لغة العرب) قضى في تأليفه سنين عديدة، نحا فيه نحوا حديثًا لم يسبقه إليه غيره على أسلوبه،وقد أسهب فيه حتى بلغ مجلدات كثيرة، وموضوعه البحث في خصائص الحروف الهجائية العربية؛ مثال ذلك قوله إن من خصائص حرف الحاء السعة والانبساط؛ أي أن الألفاظ التي تنتهي بحرف الحاء يكون في معناها شيء من خصائص هذا الحرف؛ نحو الابتحاح والبندح والبراح والأبطح والإبلنداح والحج والرحرح والمسفوح والمفرطح والمسطح … وما شاكل.
ومن خصائص حرف الدال اللين والنعومة والغضاضة؛ نحو البرخداة والتيد والثأد والخود والرادة والرهادة والفرهد والأملود والقشدة والملد وغيرها، ومن خصائص حرف الميم القطع والاستئصال والكسر؛ نحو إرم وترم وجزم وجلم وخسم وحطم وما جرى مجراها، وقس عليها.
ولو نظرنا فيما أورده من الأمثال لرأينا منه تساهلا في تطبيقها على ما أراده، على أننا لا نُنكر ما كان يرجى منه من الفوائد الجزيلة لو طبع الكتاب ونشر، ولكنه فقد حرقا على أثر حريق أصاب منزله في الآستانة؛ فأسف هو لذلك أسفا شديدا. وأخبرنا صديق أنه رأى بين أوراق الشيخ أحمد فارس تآليف في تراجم مشاهير العصر لم يُطبع، وربما كان له مؤلفات أخرى لم نقف على خبرها.
وما لا يليق بنا الإغضاء عنه أن مطبعة الجوائب طبعت كتبا عربية كثيرة كانت نادرة الوجود، فأحيتها ونشرتها بين المتكلمين بالعربية، وسهلت تناولها، وهي مأثرة حسنة تضاف إلى مآثره الأخرى.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 95 – 106.