عبقرية المرحوم الأستاذ داوود قسطنطين الخوري في الشعر والفن والتأليف
أصله ونشأته: هو المرحوم داوود بن المرحوم قسطنطين داوود الخوري المعروف بقسطون الخورية، بزغ الفقيد في سماء حمص في اليوم الثاني من شهر شباط سنة 1860 ميلادية وعاش في كنف والديه، فنشأ على منهج الصيانة والكمال، أما والدته فهي المرحومة زهراء من عائلة لوقا الحمصية المعروفة، فهو كريم المحتد انحدر من أصلاب كريمة في مجدها ونسبها، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب في المدرسة الوطنية التي هي الكتاتيب في الجيل الماضي، وأخذ عن والده اللغة العربية وآدابها، ولما شب أولع بالمطالعة فاقتنى الكتب العلمية التي نهل منها ما كانت تصبو إليه نفسه من العلوم، فكانت المطالعات الشخصية مدرسته الكبرى، وقد نبغ وفاق فكان كوكباً ساطعاً في سماء الأدب والفن والتأليف والتمثيل، ذاع صيته واشتهر أمره في الأقطار العربية، وكان له الفضل والقدح المعلَّى بتثقيف أغلب ناشئة حمص، فكان المربي الناصح والمرشد الصالح، وانتفع بفضله خلق كثير وتخرج على يديه ما لا يحصى من التلاميذ، المقيم بعضهم في حمص والمهاجر، وتقديراً لنبوغه وخدماته الكبيرة لوطنه وللمدارس أهدته الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية سنة 1981 وسام القديس فلاديمر.
الحالة الاجتماعية والسياسية في عهده: كانت الأحوال الاجتماعية في العهد العثماني كظلام دامس، فالجمود الفكري، والتعصب الديني، والحريات المقيدة ما زال أمرها معروفاً بين الناس، وفي غمرة من هذه الأوضاع المستبدة أدى الفقيد رسالته الثقافية، فكان أستاذاً للرياضيات والفن في المدارس الأرثوذكسية في حمص.
كان بدء عهده بالتدريس سنة 1888 ميلادية، وظل مواصلاً الدأب، محتملاً ألوان النصب في أداء هذه المهمة إلى أن دخلت تركيا الحرب سنة 1914 فانقطع عن التدريس لإقفال المدرسة، وتوقفت جريدة «حمص» عن الصدور، وكان محررها ومديرها المسؤول، ولما وضعت الحرب أوزارها وعادت الجريدة والمدرسة إلى الحياة أبى العودة إليها التماساً للراحة؛ وهو صاحب الفضل الأول بنشر أصول علم مسك الدفاتر في الأوساط التجارية.
كانت للفقيد علاقات معروفة بجمعية الإصلاح العربي التي كان من زعمائها شهداء العرب أمثال عبد الحميد الزهراوي ورفيق سلوم، ونظراً لحرج الموقف ولاسيما بعد إعدام الشهداء ونفي العوائل العربية إلى الأناضول، عاش في تلك الظروف الخطيرة في اضطراب جارف خشية أن يتعرض لنقمة الأتراك الذين كانوا ينظرون إلى رجالات العرب وأدبائهم وشعرائهم نظرتهم إلى مجرمين يستحقون الإعدام، ونجا الفقيد بفضل ما تحلى به من رزانة وبعد نظر وحكمة من خطر محقق، وكم شاهد من الحوادث المؤلمة فأثارت عوامل الحزن والأسى في نفسه وفاض الدمع من عينيه وهو في صمت وسكون، ومرت الأحداث به في ذلك العهد المظلم فهزت كيانه ووطدت إيمانه.
علمه وفنه: كان الفقيد آية باهرة في الذكاء والنباهة، فاستثمر قلمه ومواهبه في سبيل النفع العام وخدمة المجتمع، وهو يجيد التكلم باللغتين التركية واليونانية، وله إلمام باللغة الفارسية، وأشغل وظائف حكومية في حمص ودمشق فكان خير قدوة في الحرص على النهوض بواجباته المسلكية، واسع الاطلاع في الأمور الشرعية وحجة في القضاء يقصده المحتاجون من جميع الطوائف لاستفتائه بأمورهم، لأن الجميع يعترفون ويجمعون على محبته والثقة بإخلاصه وتجرده، وكان المسلمون خاصة أشدهم تعلقاً به واستعذاباً لمشربه، أما العلوم الرياضية والطبيعية والموسيقية، فكان فيها كالبحر الزخار، عليماً بألحان الفن وأوزانه، يهوى الفنون التركية واليونانية، وقد تأثر بألحانهما فمزجها بمقطوعاته الغنائية والتمثيلية فجاءت في غاية الروعة والانسجام؟
قام المترجم رحمه الله بتدريس الفن الموسيقي في المدارس مستعيناً بصوته الشجي وإلقائه البديع، فقد حباه الله حنجرة فيها النغم الطروب، واللحن الحزين، فالذين يتذوقون الفن هم الذين تكون رثاث صوتهم صدى لخفقات قلوبهم، وكان من أبرز نواحيه الفنية ولعه بفنون التمثيل والتأليف، يسبك الحقائق في قالب الخيال، فيصور الأخلاق والحوادث تصوير فنان بارع، ويرى السعادة صنو الهدوء يلتمسها في ساعات العزلة والتأمل، فتجود قريحته الوقادة بالدرر والنفائس الأدبية والفنية، ومن رواياته التي اشتهرت في الآفاق «جنيفاف، اليتيمة المسكوبية، الصدف المدهشة، عمر بن الخطاب، العجوز، الابن الضال، يهوديف، جابر عثرات الكرام»، وهنالك غيرها من الروايات الصغيرة والهزلية وقد فقد بعضها، ولاقت الروايتان الأولى والثانية نجاحاً قل نظيره، وأعيد تمثيلها مراراً، فرواية جنيفاف وضعت ومثلت في حمص سنة 1890 ميلادية ومثلت مئات المرات في جميع الأقطار العربية من قبل ممثلين هواة ومن قبل فرق من أشهر المحترفين لفن التمثيل، ومثلت مرة في سان باولو من قبل تلاميذه (1900) ميلادية، ثم أعيد تمثيلها أربع مرات في سنين مختلفة، وله مع المرحوم الأستاذ يوسف شاهين الحمصي رواية سميراميس، وكانت أناشيد الرواية وألحانها من وضع وتلحين الفقيد رحمه الله، كما وأن أناشيد رواية كورش الوحيدة للمرحوم يوسف شاهين كانت من ألحانه البديعة، وكانت رواياته غنائية من نوع الأوبريت.
علاقاته الفنية: لا مندوحة لي عن ذكر بعض الوقائع التي لها صلتها وأهميتها بتاريخ حياته الفني، فقد أكد الذين كانوا على اتصال وثيق بالفقيد أنه كان فناناً غاوياً، وهو من أنبغ تلامذة أبي خليل القباني الفنان المشهور، ومن زملائه في الفرق التمثيلية عطا الأيوبي رئيس الحكومة السورية ونيقولا شاهين والد وزير المالية السابق جورج شاهين رحمهما الله والسيد عزت الأستاذ وغيرهم من كرام الأسر الدمشقية العريقة.
فقد أدرك القباني وعي المترجم الفني الجامح لما تعرف عليه في عهد وظيفته بدمشق بواسطة الوالي مدحت باشا فكان الشاعر والمؤلف والملحن في فرقة القباني التمثيلية فقربه واصطفاه ومثلت رواياته التي أشرت إليها قبل فترة في مسرحه التمثيلي بدمشق ونالت استحسان الجمهور وإعجابهم بمغزاها ومعناها وألحانها، ونهل الفقيد من فنون القباني العبقري ولازمه حتى وقعت نكبته المشهورة بنهب مسرحه ونزوحه عن البلاد السورية إلى مصر، كما وأن روايات المترجم قد مثلت في مصر واشتهرت كالشمس التي تضيء الأكوان والبصائر.
أوصافه: كانت أوضاعه الخاصة مع الأهلين وعلاقاته مع الشعراء والفنانين علاقات حب وتقدير متبادل، وكان كل من تعرف به يكبر صفاته وأخلاقه الفاضلة ومناقبه الحميدة، كان رحمه الله هادئ النفس طويل الأناة عميق الحس، سريع البديهة والإلهام، صفيًّا وفيًّا مخلصاً للجميع محبًّا للسلام، يسعى جهده لإزالة بذور النفور والخصام، يضحي لذلك بالكثير من وقته وراحته، بعيد النظر في أسرار الحياة وهو مع سكونه عالي الهمة نبيل القصد خالي الغرض، لا يعرف في أداء الواجب ليناً أو هوادة، كان ينظر إلى العالم بعين الروح لا بعين المادة، لم يتقاض درهماً على مؤلفاته وكفى روحه الطاهرة اطمئناناً أنه كان يخدم الوطن وأعمال البر ودور الثقافة لوجه الله تعالى، لا يرد طلباً إذا استطاع إلى تحقيقه سبيلاً، يكره الشهرة وحب الظهور، كان تواضعه ووداعته على قدر نصيبه من العظمة، وهما سر عظمة هذا النابغة في أخلاقه الخاصة، وترى العظماء الذين تركوا أبلغ الأثر في حياة الناس كانوا خلواً من الادعاء والزهو.
كان بيته مرتع الأدباء والفضلاء والشعراء والفنانين من حمصيين وغيرهم يتمتعون بمعشره الأنيس وطرائف رواياته ونكاته وبسمته السحرية التي لا تفارق شفتيه، يقص على جلسائه من وقائع الماضي وعبر الأيام فيصغون إلى أفانين أحاديثه بالجوارح والأفئدة، يخاطب الناس بسهولة تنفذ إلى القلوب وتعمل فيها عمل السحر. تربطه مع أسر حمص الكبيرة علاقات ود وإخاء، وكانت صلاته الموروثة مع أسرة آل الجندي وثيقة العرى بشكل خاص، وكان أخاً حميماً للمرحوم أبي الخير الجندي الشاعر والمتفنن المشهور، وإن ما ذكره الفقيد في منظوماته الشعرية وفي البيتين القديمين اللذين عارضهما بمناسبة تاريخية واقعية ومطلعهما (مررت على المروءة وهي تبكي) صورة واضحة تعبر عن الحقائق فقال عطر الله ثراه:
مررت على المروءة وهي تزهو فقلت لمَ ازدهاؤك يا فتاة
فقالت كيف لا أزهو وأهلي بنو الجندي نصيري والحياة
وفاته: وفي اليوم السادس عشر من شهر شباط سنة 1939م هوى نجم ارتقى هام السها ووطأ هامة الأدب والفن بمواهبه وفنونه، فأضاءت شهب روحه الثريا وألحد الثرى مع أسرار فنونه ألمع عنصر أنجبته حمص بمآثره ومناقبه الحميدة، فأقامت له الجاليات العربية في سان باولو حفلات تأبينية كبرى وأروعها حفلة الجالية الحمصية في سان باولو، إذ اشتركت فيها جميع مؤسسات النزالة على اختلاف المذاهب والأقاليم وأكابر رجال العلم والأدب والفن. ثم جاءت حفلة الجالية في نيويورك فأفاض الشعراء والكتاب برثائه، وفي مقدمتهم شعراء حمص الثلاثة نسيب عريضة وندرة حداد وبدري فركوح وهم من تلامذة الفقيد، فقد نعوه وبكوه وأبنوه بقصائدهم الخالدة، إلا أنهم تبعوه سريعاً إلى الأخدار السماوية فالتقت أرواحهم الطاهرة في عالم الأرواح، وتلقت حمص نعي ولدها البار النابغة بوجوم وحزن وأسف، فناحت على فضائله كنواح الثكلى، وتمنت حمص لو ضم ثراها الندي رفات من تباهت بنبوغه واعتزت بعبقريته وبكاها بلوعة اشتياقه وحنانه.
وقد كرمت حمص ابنها البار وخلدته تقديراً لمواهبه بتسمية أحد شوارعها الرئيسية الذي يتصل بشارع الإمام محمد عبده وشارع أمية.
أنظر كامل الترجمة في كتاب أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 3 - 6.